تفريغ د. سمر الأرناؤوط
وقفنا في تدبرنا في سورة سبأ عند البدايات والتناسب بين البداية والنهاية ، ورأينا ذاك التناسب والترابط العجيب بين نهايات سورة الأحزاب وبداية سورة سبأ. وتواصل السورة العظيمة في بناء اليقين في قلب المؤمن وفي تقوية تلك الرابطة ؛ رابطة الإيمان واليقين بينه وبين خالقه جل شأنه . يقول الله :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿١﴾ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴿٢﴾) .
الرب الذي أنت تحمده ، و يستحق المحامد كلها يعلم ما يلج في الأرض ؛ أي (الدخول بقوة في داخل الأرض) ، فما اسم موصول شامل لكل شيء ، وكل ما يمكن أن يخطر على بالك أو لا يخطر، فالله يعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها من نبات ومعدن وكنوز أثرية ، و كل ما يخطر في بالك وما لا يخطر، وما ينزل من السماء من غيث وأرزاق . الرب الذي أنت تعبده وتحمده سبحانه يعلم كل شيء؛ فطِب نفسا واترك قلبك وعقلك وفكرك يرتاح ، مادمت قد آمنت برب يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، و (العروج هو الصعود للأعلى)، أعمالنا التي تصعد ، أرواحنا التي تصعد، كل شيء الله يعلمه. ويقول : (وهو الرحيم الغفور) ، تدبروا كيف قدّم الرحمة على المغفرة (الرحيم الغفور) . ولنا أن نتساءل لماذا في القرآن العظيم في بدايات سورة سبأ ، يقدم الحديث عن الرحمة والمغفرة، ونحن ما زلنا في البدايات؟ الله يتعرف لعباده برحمته سبحانه وتعالى ، بمعنى آخر هذا الرب الجليل جل شأنه على قدرته المعجزة المطلقة التي ليس كمثلها شيء ، إلا أن الرحمة تلازمه جل شأنه ، وبالتالي ما يحكم فيه بين عباده وما يحكم به على عباده وما يأمر به عباده لا يخرج عن الرحمة . أقدارك بيد الله ، أرزاقك بيد الله، كل ما ما أنت فيه بيد الله . وهذا الرب سبحانه الذي بيده كل شيء ، وله ما في السموات والأرض ، ويعلم كل شيء رحيم غفور، هل بعد ذلك حزن؟ هل بعد ذلك خوف؟ هل بعد ذلك قلق؟ هل بعد ذلك ولاية أو طلب لنصرة من أحد سواه سبحانه وتعالى؟! له ما في السموات والأرض ، وهو الرحيم الغفور ، ويعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها وما يعرج في السماء . هل يحق لعاقل بعد ذلك أن يتولى أحدا أو يستنصر بأحد أو يستغيث بأحد من دون الله؟! . إنه لجرم فظيع الذي يقع فيه المشركون قديما وحديثا حين يبحثون لهم عن ناصر من دون الله! .
وتدبروا في الآية التي بعدها:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴿٣﴾)…
من رحمته سبحانه وتعالى أن جعل الساعة، ولكنه فتح باب المغفرة بقوله : (الرحيم الغفور) وقال: (لا تأتينا الساعة) ؛ حتى يفتح أمام هؤلاء أبواب التوبة ؛ أن يا عبادي لو أنكم تبتم وتراجعتم عن كفركم وآمنتم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، لشملكم الله برحمته ومغفرته . لكن القرآن يصلنا ببشاعة ما قالوه : (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي) ، أقسم لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم تأكيدا وتوكيدا على هذا المعنى و هذا الركن العظيم من أركان الإيمان بالله عز وجل ، (لتأتينكم) هذه الساعة التي تماطلون في الإيمان بها وتتمادون ، وتكفرون بها وترونها بعيدة ، وهي قريبة (لتأتينكم) تأكيد ليس بعده شك. عالم الغيب الذي فرضها وقررها ودعاكم إلى الإيمان بها وحكم بها على عباده، عالم الغيب الذي يعلم أن عباده لا يمكن أن تصلح أحوالهم دون أن يكون هناك حساب وعقاب وكتاب وجزاء، عالم الغيب الذي ينبئك بمجيء الساعة ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها .
(عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) ، وهنا شيء من بيان مدى علم الله سبحانه وتعالى جل جلاله وإحاطته بكل شيء . تدبروا كيف الآيات الأول في سورة سبأ تبين أركان الإيمان بالله واليوم الآخر والتوحيد بأسمائه وصفاته جل شأنه ، بما يليق به . ليس كمثله شيء وهو السميع العليم . إن تنكر الإنسان لمنهج الله الذي أمر بهذا المنهج لأمر فظيع شنيع! ، فينبغي أن يراجع نفسه عدة مرات لأجل أن يتجرد من ذلك كله . (لا يعزب عنه) ؛ أي لا يغيب عنه ولا لمجرد لحظة ولا ثانية لا من الزمان ولا من المكان ولا من الأمر في شيء!.وتدبروا في دقة المفردة واللفظة قال : (مثقال ذرة في السموات والأرض) ، الذرة هي أبسط جزء قد لا يرى بالعين المجردة ، والقرآن يحدثنا منذ ذلك الزمن عن الذرة.
والعلم قال بانشطار الذرة والانشطار النووي ، وحدثت كشوفات في الأسلحة النووية بناء على انشطار الذرة والنواة، والقرآن قال : (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) . إن الله يحصي كل شيء وأصغر شيء في كل شيء، وأكبر شيء في أي شيء ، وكل شيء في كتاب مبين . إنه عالم، مطلع على ما في ملكه. وتدبروا في الربط بين تلك الآية وبين أول آية : (الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض). وهو مع هذا الملك العظيم الممتد إلا أنه سبحانه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض .
كثير من البشر من ملوك الدنيا ورؤوسائها وأمرائها قد يتملك شيئا على سبيل التجوز، ولكن لا علم له بما يحدث في تلك الإمارة أو المكان أو المملكة، لكن الله له المثل الأعلى له ما في السموات والأرض ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك (يعني أن هناك ما هو أصغر) ، ولا أكبر إلا في كتاب مبين. هذا العلم المحيط الذي يجعل الإنسان يستشعر أن همسات روحه وهمس خاطره معلوم عند الذي خلقه . ربما مجرد شعور أو إحساس بالحزن أو الألم أو الهم أو ما شابه في خاطرك أو في نفسك ، يعلمه الله : (لا يعزب عنه مثقال ذرة). وأنت ضمن هذا الملكوت الذي خلقه جل شأنه . علمه محيط ، ثم إن ما يمر بك- لأن الكلام والسياق في هذه السورة المباركة يدور حول ما يمكن أن يمر بنا من أحداث-يعلمه الله ، وهو عنده في كتاب مبين. فلو ظُلِمتَ على سبيل المثال في يوم من الأيام، وكظمت الغيظ ولم ترد الكلمة بعشر، رغم أنك قادر على أن تردها ولكنك كظمت غيظك، فإن الله يعلم ذلك . قمت بعمل لم يطّلع عليه أحد ، إن الله يعلمه. نيتك الصادقة التي في صدرك الله يعلمها، فكرك ، عقلك ، ما تسمع ، ما تبصر، ما تقول الله يعلمه : (في كتاب مبين)، لماذا الكتاب المبين؟ لأن الكتاب سيكون هناك يوم الحساب: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا). كتاب واضح مبين بالثانية بالهمسة والحركة ، (ما لهذا الكتب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) . وتدبروا في الربط ، حيث قال:
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿٤﴾).
لماذا كل هذا؟ لأجل أن تعرف أن مسعاك في الدنيا لن يذهب هكذا،وأن عملك وسعيك وقولك وتعبك وجهدك ، وما تفعله من خير أو خلاف الخير لن يذهب سدى ، يقول : (ليجزي الذين آمنوا)، وابتدأ بالمؤمنين الذين عملوا الصالحات، فأنت يا مؤمن ، تأسف على أي شيء؟ وتحزن على أي شيء؟ تدبروا كيف القرآن يطيّب خواطر المؤمنين عبر الزمن ، و يسلّي المستضعفين في الأرض .
هذهالسورة العظيمة نزلت على المؤمنين في أواخر العهد المكي ، وهم في قلة من العدد ، وقلة من النصرة المادية ، وقلة من كل شيء من الناحية المادية . ولكنهم في قوة وكثرة، لأجل أي شيء وكيف؟
هذا القرآن الذي يتنزل على القلوب سيزرع فيها الأمل : (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ، وبالتالي تعبك وجهادك ، وما تبذله من أمر بالمعروف ، وإحقاق للحق ونصرة للمظلوم، ودفاع عن الحق هذا لن يذهب سدى : (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم) .
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ﴿٥﴾)…
تدبروا في دقة اللفظة (سعوا في آياتنا معاجزين) ، هناك من يسعى بالباطل ويجنّد نفسه وحياته وكل قواه لأجل أي شيء؟ (سعوا في آياتنا معاجزين) ؛ صداً عن سيبل الله و إعراضا عن الحق الذي نزل ، في محاولة فاشلة يائسة لإسكات صوت الحق الذي يأبى الله إلا أن يتم نوره.أولئك لهم عذاب من رجز أليم. وتدبروا في الربط بين الآخرة وبين الدنيا ؛ فآيات الآخرة والحديث عن الجزاء والنعيم والعقاب تأتي وسط الآيات التي تحدثنا عن قضايا تتعلق بالواقع الذي نعيش ؛ لأجل أن يعلمنا أن الحياة ليست نهاية المطاف، فكل موقف يمر بك في حياتك اربطه مع الآخرة، وصله بها ، صله بالجزاء الذي سيجازيك الله سبحانه وتعالى به .
يقول الله :
(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿٦﴾) .
أوتوا العلم، العلم بالمعنى الواسع ، و ليس العلم فقط بأنك تتعلم أو تدرس في كتاب ، وليس العلم المحصور في نيل شهادات . وذكرنا في مرات كثيرة أن العلم النافع هو الذي يوصل صاحبه لمعرفة الخالق جل شأنه والإيمان به . العلم النافع هو الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة ، هو الذي يجعل صاحبه متعقلا متبصرا فاهما واعيا مدركا لما يقوم به ويفعل ، هذا هو العلم النافع ، من هنا قال الله : (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق) ، فعلمهم الذي تعلموه نفعهم، فأدركوا أن ما نزل إليك من ربك هو الحقوليس شيئا آخر. العلم الذي يتعلمه الإنسان قد يكون نتيجة لتأمل في السموات والأرض ، و ليس بالضورة أن يكون علما متحصلا من جامعة عريقة . يتأمل المؤمن في السموات والأرض ، فيقول : (ربنا ما خلقتنا هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) .
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿٧﴾)…
صورة عكسية متضادة ، الكفر دليل لجهل ، والجهل هو الذي يصل بالإنسان إلى الكفر. الإنسان الذي يعلم علما حقيقيا نافعا لا يمكن أن يدله ذلك العلم ويسوقه إلا إلى الله سبحانه وتعالى والإيمان به، لكن الجاهل يقول : (قال الذين كفروا هل ندلكم على رجل)، استغراب واستبعاد واستنكار جاء بصيغة النكرة (رجل) ؛ لأن القوم من قريش أرادوا أن يستخّفوا به صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : (رجل) منا ينبئكم أنكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد، استخفافا بما جاء في هذا الدين العظيم من حق . (إذا مزقتم) تدبروا في اللفظة فالذي يحصل للإنسان حين يموت تتقطع أشلاؤه ، و تتفسخ أعضاؤه ، فماذا يبقى منه؟ لكن الذي خلقه من التراب وخلقه من سلالة من ماء مهين : (بلى قادرين على أن نجمع عظامه) قادر على بعثه مرة أخرى ؛ لأنه هو الذي خلقه ، فلماذا يستغرب هؤلاء؟ ما الذي جعلهم يكفرون ويكذبون بالإيمان بالبعث؟ لماذا كل هذه المعاندة بالإيمان بالبعث؟ . إنه الجهل الذي يقف حائلا بين الإنسان وبين بلوغ الإيمان. سورة سبأ من أكثر سور القرآن وقوفا على العوامل والأسباب التي تحول بين الإنسان وبين الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
(أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ﴿٨﴾)…
كيف يقولون عن هذا النبي الكريم أنه يفتري على الله الكذب ، وهم يعلمون أنه الصادق الأمين؟ (به جنّة) وهم يعلمون أنه سيد العقلاء؟! . إنه مرة أخرى الجهل، الضلال، العناد، الذي يجعل الإنسان بعيدا عن منهج الله سبحانه وتعالى . تأملوا كيف أن القرآن العظيم يعالج أدواء النفس ومتاعبها وأمراضها ، فينتشلها من أمراضها. يضع أيدينا على تلك المواطن والمواقف ، و يأخذنا بعيدا عن هذه المواضع من الجهل ، فيفتح الأبصار والعقول لأجل أن ترى الحق حقا فتتبعه ، وترى الباطل باطلا فتجتنبه. تدبروا في الربط ، حيث قال:
(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴿٩﴾).
كيف يكذبون بهذا؟ ألا يرون ما بين أيديهم من السماء والأرض وما خلفهم؟ أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم؟ أفلا يرون إلى ما أحاطهم الله فيه من النعم؟ . كل هذه الآيات أليست كافية لأجل أن تجعلك تتأمل وتتبصر! . يقول : (إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب) ، تدبروا في قوة الآيات وإيقاعها ، فلو أراد الله سبحانه وتعالى أن يخسف بهؤلاء الأرض لفعل فكيف يكذبون بهذا القرآن؟!. ولكن هذه سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنته تبديلا . هو يمهل ولا يهمل، يمهلهم قليلا ، لكنه سبحانه وتعالى سيجازي كلًا بعمله: (إن في ذلك لآية لكل عبد منيب) . كذلك كان الكفار من قريش يستخفّون بالموضوع ، ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أسقط علينا كسفا من السماء ، ويتغامزون فيما بينهم ، ويتضاحكون إذا أنت فعلا قادر أسقط علينا كسفا من السماء. والأمر ليس تلبية لمطالبهم ؛ فأمر الله ينزل كيف يشاء في الوقت الذي يشاء ، وليس كما يشاؤون هم أو يتخيّرون. الآية تقول : (إن في ذلك لآية لكل عبد منيب) ، فمن المنيب؟ هو الراجع إلى الله سبحانه وتعالى . تدبروا في الربط بين العبد المنيب والرحيم الغفور في بداية سورة سبأ، أبواب التوبة بين كم آية تفتح أمام الناس؛ لأجل أن يذكّرهم الله سبحانه وتعالى أن يا عبادي أنيبوا إليّ (لكل عبد منيب). كل آية من الآيات التي نمر بها ليل نهار ينبغي أن تُحدث فينا إنابة ، كيف ؟ بتأملك، نظرك في السماء، تقليب نظرك في السماء وفي الأرض وما بث فيها من آيات من حولك ، كل هذا لا بد أن يحدث إنابة في قلبك . الإنابة تعني الرجوع بكل ما أنت عليه إلى الله . صحيح الإنابة عمل قلبي في الأصل ، ولكنك ترجع بقلبك إلى الله فتؤمن به ، وتخضع له ، وتسلّم قياد حياتك له سبحانه وتعالى ، فينعكس ذلك على طاعتك له وخضوعك لأمره. ثم تنقلنا الآيات إلى آية عظيمة إلى عبد من عباد الله أناب إليه ، عبد ملك ونبي من الأنبياء ، أعطاه عز وجل فضلا وقوة وملكا ومالا و قلبا منيبا . وهذا هو الأهم لأنه إذا أعطاك الله كل النعم المادية ، وما أعطاك قلبا منيبا وعقلا متبصرا وفكرا واعيا يسوقك إليه ، فما فائدة تلك النعم؟ ستنقلب عليك!. تدبروا في الآية، حيث يقول :
(وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴿١٠﴾)…
هؤلاء المعاندون من قريش يسألونك عن الآيات والمعجزات الحسية التي يريدون أن يروها بأعينهم ، بينما هم يرون عشرات الآيات الحسية من خلق السموات إلى خلق الأرض إلى أنفسهم . لكن القرآن يقص عليهم قصة إنسان أعطاه الله كل شيء : (وآتينا داوود منا فضلا) ، فضل في كل شيء . وفي آيات أخر في سورة النمل على سبيل المثال ، وفي سورة ص آيات تتكلم عن داوود عليه السلام، آتاه العلم ، و النبوة والملك : (يا جبال أوبي معه والطير) ، لماذا الطير؟ الإنسان حين يتفكر، ويتبصّر ويتأمل ، وهذه واحدة من أعظم العبادات يستشعر أن كل ما في الكون من حوله ، من شجر ، و سماء ، و شمس و طيور، كلها تسبّح للخالق. وهي خلق مما خلق الخالق: (يا جبال أوبي معه والطير) سبّحي، هللي، اذكري الله عز وجل.والكون كله يسبّح ويذكر ويهلل بكل تأكيد، إذاً لماذا الكافر لا يسمع كل هذا؟ . إنه إغلاق منافذ الإدراك والوعي، والجهل الذي يعمي البصر والبصيرة ويجعل الإنسان إنسانا متبلد الإحساس والشعور.
هل فقط ربي عز وجل أنعم عليه وأعطاه النعم وأغدق عليه بالفضل والمنّة وانتهى الموضوع؟ قال : (وألنّا له الحديد). وتدبروا في نسبة النعمة إلى المنعم عز وجل (ألنّا له الحديد) ، الحديد الصلب ألانه الله له حتى يصير بطبيعة الحال حديدا مرنا يستطيع من خلاله أن يصنع ما يشاء. الحديد لما يكون في الحالة الصلبة لا يستطيع الإنسان أن يطرقه ويتصرف به ، لكن عندما يصير الحديد لينا يستطيع أن يشكّله ويصنع منه ما يشاء . ولذلك الناس تعارفوا على سبيل المثال أن يمرروا الحديد في الأفران الحرارية لأنه تحت الحرارة يذوب وينصهر، وحين يذوب يمكن البدء في عمليات التصنيع المختلفة . إنها نعمة من نعم الله . لكن ما المطلوب؟ ، لنتدبر هذه الآية :
(أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿١١﴾)…
اعمل كل الأشياء بهذه المادة التي وهبك الله إياها، من الدروع المختلفة التي ذكرها الله في هذه الآية من أدوات الدفاع من الأسلحة التي تصنع من الحديد. والقرآن سمى سورة كاملة بسورة الحديد ، لكن القرآن العظيم ذكر لنا قضية مهمة جدا:(واعملوا صالحا) ، اعمل هذه الأشياء ، لكن الغاية التي يجب أن تكون دوما في ذهنك وفكرك في كل عمليات التصنيع المختلفة هي : العمل الصالح. تسلّح واعمل كل ما يمكن أن تعمل من أسلحة ومن أدوات الحروب وأدوات الدفاع التي تحمي بها مجتمعك ومدينتك ودولتك ؛ فمطلوب منك إعداد العدة . القرآن يوقظ النفوس والمجتمعات للاهتمام بجوانب التصنيع والتسليح والتصنيع العسكري ؛ حتى لا يفهم الناس أن العمل الصالح ينحصر فقط في عبادة في صلاة أو زكاة أو ما شابه . العمل الصالح شامل لكل شيء ، ولذلك القرآن العظيم في سورة سبأ في منتصف الآية ، والحديث عن العمل والتصنيع العسكري قال: (واعملوا صالحا) بعد (وقدّر في السرد) ، بمعنى آخر أن يكون مبتغاك والغاية الأساسية من كل الأعمال التي تقوم بها: العمل الصالح. أنت لا تعمل لأجل أن تفسد ، و لا تصنّع لأجل أن تخرّب، وتدمّر! فرق شاسع بين أن تكون لديك الأدوات والوسائل في الحماية والكفاية والدفاع لأجل أن تحقق عدلا وتنصر حقا وترفع ظلما ، وتؤسس وتبني العدالة بكل أشكالها وأصنافها وصورها ، وبين أن تأخذ كل هذه الآليات لأجل أن تهدّم وتدمر، وتخرّب بيوتا ومدنا على رؤوس أصحابها . فرق شاسع ، لا يستوي فيه الفريقان عند الله ! ولذلك ختمت الآية العظيمة بقوله عز وجل : (إني بما تعملون بصير) ، فالله محيط بعملك ، بصير بما تعمل و تفعل . الله بصير بما تبنيه وتؤسسه ، و بكل المعامل التي تقيمها من مادة الحديد التي هو خلقها لك وجعل فيها بأسا شديدا لأجل أن تدمّر بها و تخرّب فيها؟! أو لأجل أن تعمّر وتعمل صالحا؟!. عليك أن تنتبه دوما لـ : (إني بما تعملون بصير).
شيء عظيم في هذه الآية العظيمة ، حيث يقف بنا القرآن عند حدود هذه المملكة الكبيرة التي أسسها النبي داود عليه السلام على أساس المنهج الإلهي ؛ منهج العدل الذي يقوم على الحق ، والفضيلة و العدل ، ومبدأ : (إني بما تعملون بصير) . ولنا أن نتخيل ماذا سيحدث في حياتنا لو اتبعنا هذا المبدأ وتبنيناه؟ ماذا كان سيحدث في مدارسنا ومعاملنا ومستشفياتنا؟ ماذا كان سيحدث في هذه الأماكن التي نعمل فيها تحت شعار : (إني بما تعملون بصير. وتدبروا في الكلمة : (واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير) ، اعمل صالحا في بيتك ؛ فالله بما تعمل بصير، اعمل صالحا في مجتمعك ، و مصنعك ومستشفاك. إني بما تعملون بصير. العمل الصالح لا يضيع و الخيّر لن يذهب ، حتى وإن تنكّر له الآخرون : (والله بصير بما تعملون) ، حتى تعلم أن كل شيء عنده في كتاب مبين كتبه سبحانه ، ولن يضيّع عملا قمت به ، ولن يضيع عمل صالح أنت قمت به وأدّيته ، حتى ولو ضيعه الناس بنكران الجميل أو بغير ذلك ؛ فالله بما تعملون بصير.