الحلقة الثالثة (الآيات 12 – 14)
تفريغ د. سمر الأرناؤوط
وقفنا في تدبرنا في سورة سبأ العظيمة عند تلك الآيات المباركة التي تبين ما أعطاه الله عبده داود عليه السلام من ملك عظيم . والقرآن العظيم وفي آية واحدة يعطينا طرفا من تلك القوة التي مكّن فيهاالنبي داود عليه السلام . تلك القوة جعلت من أعماله الحربية والعسكرية أعمالا صالحا : (واعملوا صالحا إنه بما تعملون بصير) ، ثم إذا بالآيات العظيمة تنتقل بنا إلى مَلك آخر ؛ النبي سليمان الذي ورث داود وآتاه الله الملك والحكمة والعلم ، قال الله :
(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴿١٢﴾) .
سخّر الله لهذا الملك النبي سليمان عليه السلام الريح تعمل بإذنه . طبعا بكل الأحوال ما يمكن أن يفعله أو يقوم به الإنسان في فترة طويلة من الزمن ، الريح تقوم به في أقل من هذا . سخّر الله لسليمان الريح تجري بأمره كيفما أراد بأمر الله سبحانه وتعالى. (وأسلنا له عين القطر) ؛ أي أذبنا له النحاس . النبي داود عليه السلام قد ألان الله له الحديد ، وسليمان أسال له عين القطر وليس هذا فحسب، بل سخّر له الجن يعمل بأمر ربه وليس بأمر سليمان . لماذا القرآن يؤكد هنا أنها كلها تعمل بإذن الله عز وجل؟ حتى ينسب النعمة للمنعم جل شأنه ، و حتى لا يبطر الإنسان ويتوهم أن الله حين يسخّر له شيئا ما يصبح بين يديه يأمره كيف يشاء ، فلا يستطيع الإنسان أن يحركّ ورقة من هنا إلى هناك إلا بأمر الله . وسيتبين بعد قليل أن سليمان عليه السلام الذي عمل الجنّ معه بأمر الله كيف كان حاله حين مات؟ ما دلهم على موته إلا دابة الأرض، لأن الإنسان أمام قوة وقدرة الله المطلقة ضعيف قليل الشأن، هو بقوة الله وبأمرالله ، وليس بقوته هو ولا بأمره هو.
(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴿١٣﴾).
تلك الصناعة المعمارية الهائلة التي أشارت إليها الآية السابقة ، كانت على أشكال مختلفة. المحاريب هي الأماكن المرتفعة أو الأبراج عالية البنيان ، ولذلك المحراب ؛ أي المكان الذي يُصلى فيه مكان مرتفع في مكانته. محراب جمعه محاريب ، وغالبا ما يكون في الأماكن المرتفعة كما أسلفنا . وسمي المحراب محرابا للصلاة كما بينا أيضا ؛ لرفعته وعلو شأنه ؛ لأنه المكان الذي تقام فيه الصلاة . أما معنى (وتماثيل) ، فهو ليس كما كثير من المفسرين أشاروا إليه في إشكالية خطيرة ، حين فسروا الآية أنها التماثيل والصور والمجسمات وكانت لنباتات ولم تكن لذات أرواح . كلا ، التمثال هو عبارة عن مجسّم أو صورة ، بمعنى آخر أن النبي سليمان عليه السلام قد تفوق في عصره ومملكته تفوقا ماديا وهندسيا ومعماريا . وكلنا يعلم أن المعماريين والمهندسين المعماريين يستعملون الخرائط والمجسمات، فشيء طبيعي أن يأتي ذكر التماثيل في سياق الحديث التماثيل التي هي عبارة عن صور لما يبنيه النبي سليمان عليه السلام ، وما يبنيه الجن من صروح وأبنية ضخمة وأشكال فائقة ، ولذلك قال النبي سليمان لملكة سبأ : (إنه صرح ممرد من قوارير) ، فلقد كانوا يبنون صروحا، والمهندس المعماري لا يبني صرحا قبل أن يجسّمه بمجسمات من نحاس وطين و خزف و أدوات متوافرة. (وجفان كالجواب وقدور راسيات) ؛ أي الأواني والأفران التي قد تكون حرارية ؛ لأن سياق الكلام يجري عن عمليات التصنيع ، واستخدام النحاس في التصنيع ، واستخدام الأفران الحرارية والقدور العميقة التي توضع فيها المواد المختلفة لتذاب مع بعض . القرآن يكلمنا عن تصنيعات متقدمة وعمليات صناعية سابقة لزمانها كثيرا ، وعن تفوق حضاري و صناعي. تأملوا وسط الآية ، فمع النبي داود قال شكرا: (اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور) ، ومع النبي سليمان قال : (واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير) ، فلماذا الشكر؟ إنك تستعمل ما أنعم الله به عليك من أدوات ومواد خام مختلفة التي ذللت وسخّرت للإنسان لا ينبغي أن تستعمل للعبث. الكثير للأسف عندما يأتي إلى هذه الآيات يصوّر سليمان عليه السلام كأنه إنسان يعمل ويشيد بناء وصروحا بدون معنى وغاية ! ما كان ذلك ليكون لملك نبي، العبث منتفٍ . ما يبنيه كانت له غايات و أهداف ومعان : (اعملوا آل داوود شكرا) . ومن تمام شكرك للنعمة فيما يرضي الله سبحانه وفق منهجه وليس وفق منهج الأهواء! . أما أنت حين تشيد وترتفع بالبناء عاليا للتفاخر والتكاثر والتباهي والاستعلاء على أمم الأرض ، والاستيلاء على مقدراتهم ؛ غرورا وسفها ، فهذا ليس من قبيل الشكر! قال : (اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور) ، قليل من العباد من يدركون أن الله حين يسخّر لك أمرا ويجعلك في مكان ما ويمكّنك ، إنما هو من قبيل الابتلاء والامتحان فاصبر واشكر، الصبر والشكر متلازمان: صبر على أن لا تخرج بما مكنك الله عن منهجه ، وشكر على أن تستعمل ما مكّنك الله فيما يرضيه وليس في ما يرضي شهوات نفسك التي تأمرك بالسوء حينا وربما أحيانا كثيرة !
وتدبروا في النهاية :
(فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴿١٤﴾) .
النبيسليمان على ما آتاه الله من الملك والصحة والقوة ، و سخّر له من الجن ، هل بذلك سيخرج عن ناموس الحياة والموت؟ سنة الله ماضية في الكون : (كل نفس ذائقة الموت) مَلك، غير ملك، فقير، غني قوي ، ضعيف، صحيح ، مريض ، كل نفس ذائقة الموت. قال : (فلما قضينا عليه الموت) ، لقد أراد الله بعزته وقدرته وملكه وملكوته أن يجعل في موت سليمان آية . الموت في حد ذاته آية، أنت حين ترى على سبيل المثال كبيرا من الكبراء تحمل الناس أذاه فترة من الزمن ، وكانت الدنيا تقوم وتقعد على حسه وصوته وأوامره وربما صراخه ، تندهش كيف به يموت ، وقد جيء به والتف الناس حوله ، وهو لا يملك أن يحرك يدا كانت بإشارة ممكن أن تحرك جيوشا. ، هذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى. قال : (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته) ، دابة الأرض : الدودة الصغيرة ، أو النمل الأبيض تأكل منسأته ؛ أي عصاه التي كان يستعملها ويتكئ عليها . سميت منسأة ؛ لأن الإنسان يهش بها الأشياء التي لا يريدها أمامه . لقد مات النبي سليمان ، ولكنهم ما شعروا بموته ، ولا علموا بموته ، وما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل المنسأة التي كان يتكئ عليها ، (فلما خرّ) ، أي وقع وسقط من أعلى إلى أسفل لأنه قد مات : (تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) ، وهنا رد على كل الشبهات القديمة التي أعطت الجن كمخلوق العلم بالغيب : (قل لا يعلم الغيب إلا الله) ، لو يعلمون بموت النبي سليمان ما كانوا قد عملوا في السخرة والعمل لخدمة النبي سليمان عليه السلام ؛ لأن العمل عنده كان عملا مضنيا شاقا ، حتى تسقط كل الشبهات التي كان يتذرع بها الناس قديما وحديثا ، ومنهم كفار قريش أنهم يخافون الجن ؛ لأنهم يتوهمون أن الجن يعلم الغيب ، فيذهبون إلى من يقرأ الطالع ، وذاك يقرأ الكف وذاك يضرب بالرمل ، ولا يعلم الغيب إلا الله.
وتدبروا في الربط والتناسب بين بدايات الآيات في السورة : (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب معين) ، الله الذي يعلم الغيب ، و يعلم أي نفس بأي أرض تموت ، ولا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى . وهذا الملك القوي الذي شيد صروحا وبنى ملكا عظيما وعرشا كبيرا ومملكة ضخمة متقدمة متطورة بكل المقاييس المادية ، ماذا كانت نهايته ؟ الموت الذي هو نهاية كل حيّ، ماذا أخذ النبي سليمان من مملكته؟ ماذا أخذ من مملكته التي شيدها ؟ ماذا أخذ من قصوره وعرشه؟ ما أخذ شيئا إلا العمل الصالح الذي أمر الله به حين قال : (اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور) . القرآن يفتح بصيرة الإنسان على الحقائق لأجل أن يتعلم و يفهم ، و يدرك أن القوى المادية مهما علت ومهما كانت ، ومهما عمّرت من الزمن ، مصيرها إلى الفناء و الزوال . إن الذي يبقى هو ما تقدمه من عمل لا شيء آخر، فانتبه لهذه النقطة ؛ فهي نقطة في غاية الأهمية ينبغي أن يتنبه لها الأفراد والجماعات والأمم وشعوب الأرض ؛ ليدركوا أنهم مهما عمروا الأرض- وسيعمرونها أكثر مما عمروها – لن يبقوا فيها ولن يمكثوا فيها أكثر مما قدّر الله لهم أن يمكثوا . وأن النهاية واحدة للجميع ؛ الموت ، وألا أحد في الكون مهما أوتي من قوة ، ولو كان كالنبي سليمان في قوته وفي تسخير الله تعالى الجن له من حوله وغير الجن ، لا يمكن أبدا أن يخرج عن تلك النواميس والسنن التي تقضي على البشر بالموت بعد الحياة ، كان الموت هو النهاية ، أليس حريا بأن يقدّم الإنسان لخالقه عز وجل ما يؤهله لذلك اللقاء الذي لا يمكن إلا أن يكون قريبا ، ولو توهم البعض أنه بعيد.