الحلقة الرابعة (من الآية الحاديةِ والعشرين إلى السادسةِ والعشرين)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقفنا في تدبرنا في سورة الشورى العظيمة عند تلك الآية المباركة التي جاءت تبين للإنسان أن أعظم ما في هذه الدنيا أن يجعل الآخرة هي الهم الأكبر والأوحد في حياته، وأن الإنسان حين تصبح الآخرة غاية له ومبتغًى له يفتح الله له من خيري الدنيا والآخرة ما يزيد له في حرثه، وهنا يأتي دور النية والصدق مع الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) في القول وفي العمل. فأنت تسعى في الدنيا، وتعمل، وتأخذ، وتربح، وتكسب، ولكنَّ الفارقَ شاسعٌ بين أن تركض وتلهث وراء الدنيا لأجل حطامها وتجعل حطام الدنيا غاية لك ونهاية لطموحاتك وسقفًا لآمالك وبين ألا تقبل إلا بالآخرة غاية ومبتغًى لك تعمل، وتربح، وتكسب، وتتاجر، وتتعلم، وتَدْرُسُ، وَتُدَرِّسُ لأجل الآخرة صدقًا ونية خالصة لله وحده لا شريك له، ومن هنا جاءت الآية التي قبلها: ﴿اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز﴾ [الشورى: 19] ومن لطفه بعباده أنه يتطلع على سرائرهم (جَلَّ شَأْنُهُ) فعليك بالسر فيما بينك وبين الله سبحانه، صَفِّ السِّرَّ وَطَهِّرِ النيةَ واجعلها خالصة لوجه الله لا تبتغي بها حطامًا زائلًا يزول بزوال هذه الدنيا ثم إذا بالآيات العظيمة بعدها تنتقل إلى واحدة من أعظم الإشكالياتِ الْخَطِرَةِ التي تعالجها سورة الشورى المباركة، وهي إشكالية التفرق بين الناس، وثمرات اتباع الأهواء والأمزجة، وإشكالية البغي والظلم والعدوان، وهذه الإشكاليات الرئيسة التي جاءت سورة الشورى لتعالج من خلالها الطغيان والاستكبار في الأرض، وتلك هي مشكلات كل المجتمعات قديمها وحديثها، قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: من الآية 21] تدبروا في الربط مع الآية التي في البداية التي بدأنا بها: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الشورى: من الآية 13] وبعدها بآيات يقول سبحانه: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: من الآية 21] في سياق الاستنكار والتوبيخ والوعيد!
أنت إذا لم تتخذ الله مشرعًا لك في حياتك فمن تتخذ؟ شركاء من أصنام وأحجار؟ وأرباب وأشخاص وكبراء، من تتخذ؟ قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: من الآية 21] وبطبيعة الحال الشركاء حين يشرعون للناس يحلون لهم ما حرم الله، ويحرمون عليهم ما أحل الله كما ذكر القرآن في سياق الكلام في سورة الأنعام وغيرها عن كفار قريش السائبة والنطيحة وغيرها، وما أكل السبع وأشياء كثيرة جِدًّا افتعلوها تحريمًا وإباحةً على غير ما شرع الله ليحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله، لماذا؟ لِأَنَّ التشريع لا ينبغي إلا أن يكون بيد من له مقاليد السماوات والأرض، أما البشر؟ البشر من الممكن أن تتحكم فيهم الأمزجة والأهواء، ونحن نرى آيات أخر وسور أخر ذكرت ما عاب القرآن ونعى على بني إسرائيل حين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، ما اتخذوهم أربابًا يعبدون، بمعنى يركعون أو يسجدون لهم، ولكن ساروا على نهجهم على التحليل والتحريم والتشريع، والله يريد ما شرع لكم من الدين، لا ما شرع لكم هؤلاء من الأمزجة والأهواء، وتدبروا في الربط، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: من الآية 21] فما كلمة الفصل؟ كلمة الفصل التي قال الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) فيها إنه سيحكم بين عباده، كلمة الفصل أن هذه الدنيا وأمد الدنيا لأجل مسمى وَمِنْ ثَمَّ فالدنيا ليست دار الجزاء: ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: من الآية 21] وهذا يدل على شدة تخبط أولئك الذين يتخذون من يشرع لهم من دون الله، وأن أساس الفساد في المجتمعات والأمم إنما جاء من قبيل التشريع بما لم يأذن به الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) تحريمًا وتحليلًا، وها نحن نرى اليوم كثيرًا من الناس يسيرون وفق ما يقوله فلان وما يقوله هذا وما يقوله ذاك فيقعون في تحليل وإباحة ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله! من أين جاء كل هذا؟ شرعة الأهواء، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: من الآية 21] إن نجى هؤلاء مما في الدنيا فالآخرة موعد لهم، قال تعالى: ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا﴾ [الشورى: من الآية 22] وكعادة القرآن في الربط الواضح المباشر السليم بين الدنيا والآخرة قال: ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا﴾ خائفين، وَوَجِلِينَ، ولكن ذلك الإشفاق جاء وقته متأخرًا جِدًّا، فتدبروا في الربط بين قوله (عَزَّ وَجَلَّ) قبل ذلك بآيات حين قال: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ [الشورى: من الآية 18] الفرق بين الذين آمنوا والذين كفروا أن الذين آمنوا يؤمنون بالآخرة فأشفقوا منها في الدنيا فدفع بهم ذاك الإشفاق إلى الزيادة في طلب الآخرة والحرص عليها، وأولئك الذين لم يؤمنوا بالآخرة أشفقوا من الآخرة إن حلت بهم ووقعت بهم فكان الوقت قد فات! وهم مشفقون مما كسبوا وهو واقع بهم ما أشفقوا به حين لم يقع بهم أو قبل أن يقع بهم، ولو أشفقوا منه قبل أن يقع بهم لكان خيرًا لهم، ولكن إشفاق هؤلاء جاء متأخرًا جِدًّا بعد فوات الأوان، من هنا قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ﴾ [الشورى: من الآية 22] لماذا؟ ما وجه المقارنة بين هؤلاء وهؤلاء؟ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانوا قد أشفقوا منها قبل وقوعها، فدفعهم ذلك إلى زيادة الإيمان والعمل الصالح، وهؤلاء ما أشفقوا منها، تدبروا في ذاك الترابط الجميل، قال تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [الشورى: من الآية 22]، حتى يبين لك القرآن أن زمن الطاعات والإيمان والعبادات محدود بوقت معين، أنت تستطيع أن تتوب، والقرآن العظيم ذكر في أكثر من مرة عن الكافرين أنهم ندموا في الآخرة وأسروا الندامة وأشفقوا ويتمنون العودة إلى الدنيا ليعملوا صالحًا، ولكن كل ذلك وقع بعد فوات الأوان، فالإشفاق من الآخرة له زمن لا بُدَّ أن يكون ذلك الزمن في الدنيا، فإذا ما فات زمانه ما عاد له بعد ذلك أهمية في الوقوع، فما قيمة أن يشفق المجرم من الآخرة والآخرة قد حلت به ووقعت به؟ وما قيمة أن يشفق من عذاب الله وهو واقع به؟
تدبروا في الفارق الشاسع القيمة الآن! هذا هو زمن الإشفاق الحقيقي! ذاك الإشفاق الذي يدفع الإنسان إلى العمل، والخير، والعطاء، وإقامة الحق والعدل بين الناس، والخشية من الظلم، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [الشورى: من الآية 23] في موضعين على التوالي ﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ كعادة القرآن في الربط بين الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان الحقيقي ليس مجرد كلمة تقال باللسان، وليس مجرد عمل بالقلب، وإنما عمل يصدقه الواقع الذي أنت تعيش فيه، وعمل ينعكس في الواقع، وفي السلوك، وفي الخلق وفي إقامة العدل، وفي النهي عن البغي والظلم والاعتداء على الآخرين: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: من الآية 23] ما دخل الأجر هنا؟ دومًا وأبدًا يأكد القرآن العظيم أن القيام بأداء الرسالة والدعوة إلى الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) ودعوة أولئك الأنبياء صفوة الخلق الكرام دعوة بدون مقابل وبدون طلب أجر مادي من البشر: ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ وهنا تأكيد وتذكير لكفار قريش علهم يعودون إلى أنفسهم، وعلهم يسمعون صوت العقل والمنطق في القرابة بيني وبينكم، وتلك القرابة تفرض عَلَيَّ الدعوةَ لكم للحق، وتفرض عَلَيَّ أن أحرص على هدايتكم، وتفرض علي أن أقدم النصح لكم.
تدبروا في الترابط الجميل، وتدبروا في الحكمة في الخطاب، وتدبروا في جمال الدعوة ولطفها على ما كانوا يعاندون فيه. نحن نتكلم عن ختام العهد المكي، نحن نتكلم عن فترة قبيل الهجرة إلى المدينة، نحن نتكلم عن سنوات من الدعوة من النبي الكريم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، نحن نتكلم عن فترات وسنوات طويلة من العناد، والتكذيب، والحصار، والتعذيب، والاضطهاد الذي قامت به قريش، ومن هنا كان القرآن العظيم مؤكدًا هذه الحقائق مرة بعد مرة، كل تلك السنوات المديدة في عمر الدعوة في مكة ما غيرت من نهج النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لا في رحمته، ولا في لطفه، ولا في أسلوبه الجميل المتسم بالحكمة والموعظة الحسنة، فلذلك فادعوا واستقم، استقم على العدل، واستقم على اللطف، واستقم على الموعظة الحسنة، ولو واجهت ما وجهت من ظلم وعدوان وبغي، يا له من دعاء جميل، ويا لها من دعوة عظيمة تؤكد مرة بعد مرة أن هذا الدين الحق، سيظهر بقيمه ومبادئه السامقة، وسيظهر بما جاء فيه من الحق والعدل، وما حث الناس عليه من التراحم والعدل والنصح والدعوة.
وتدبروا في الترابط والتناسب بين قوله (جَلَّ شَأْنُهُ): ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ [الشورى: من الآية 22]، ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: من الآية 23] بمعنى أن المطلوب منك أن تواصل في دعوتهم وتستمر، ودعوى بدون مقابل وبدون أجر مادي؛ لِأَنَّهُ لا أسألكم عليه من أجر فقد وقع أجره على الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، وتدبروا في الربط: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِه﴾ [الشورى: من الآية 20] فرق شاسع بين أن تعمل لله وتعمل عند الله، وبين أن تعمل للناس وتعمل عند فلان أو فلان، فرق شاسع ولله المثل الأعلى، فالمؤمن الذي لا يبتغي بدعوته إلا الخير والحق وإقامة العدل ولا يسأل الناس أجرًا لا من مدح، ولا من ثناء، ولا من مال، ولا من جاه، ولا من شهرة، ولا من خلاف ذلك كله يختلف تمامًا عن ذلك الذي يجري وراء كلمة من هنا، أو كلمة من هناك، ومن هنا قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ [الشورى: من الآية 23] حسنة واحدة ﴿نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ يا ترى يا الله كم ستزيد له؟ تركها مفتوحة ما قال: “نزد له حسنات بعشر أمثالها” لا، قال: ﴿نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ لماذا السقف مفتوح تمامًا إلى ما لا نهاية؟ وختم بـ: ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [الشورى: من الآية 23]؟ لِأَنَّ المسألة لا تقاس بالكم، بل تقاس بما وقر في قلبك من صدق الدعوة لله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، وعدم طلب الأجر من أحد، وتدبروا في الترابط: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ [الشورى: من الآية 23]، و﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ [الشورى: من الآية 23] بمعنى آخر: حين تدعو الناس لا تطلب منهم أجرًا، واطلب الأجر من الغفور الشكور الذي سيزيد لك حسنًا، ففي حسنة واحدة من الممكن أن تعملها ولا تلقي لها بالًا؛ وإذا بها يوم القيامة جبالًا من الحسنات، فمن الذي كبرها ونماها لك؟ (الله الغفور الشكور)، وما قيمة هذه المعاني في ظل هذه الآيات العظيمة؟ تعزيز النية الصادقة مع الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، وتعزيز أن يكون مرادك هو الآخرة ولا مراد لك غيرها.
يوجد فرق شاسع بين أن تطلب الآخرة وبين أن تطلب الدنيا، أنت حين تطلب الآخرة يزد لك الله فيها حسنًا في كل شيء، فالأعمال تكبر بالنية والصدق مع الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، وتصغر بما وقر في النية في قلبك، فماذا في قلبك؟ تدبروا في القرآن كيف يعزز قيمة الدعوة وهذه الآيات العظيمة مرتبطة بقوله: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [الشورى: من الآية 15] ادع وفي دعوتك لا تسأل الناس أجرًا، وادع وفي دعوتك لا تحابي، ولا تجامل، ولا تنافق، ولا تداهم، وادع ولا تتبع أهواءهم فتحيد بك عن الحق بعد أن آمنت به ورأيته، وادع ولا تجعل تلك الأهواء تقف حاجزًا بينك وبين إقامة الحق: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا﴾ [الشورى: من الآية 24]. التفاتة سريعة إلى الواقع الذي يعيشه النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فهم يقولون عنك أنك افتريت على الله كذبًا! فإن يشاء الله يختم على قلبك، لو أنك افتريت على الله كذبًا لختم على قلبك، ولماذا القلب؟ لِأَنَّ هذا القرآن يتنزل على القلب، نزله الله على قلبك لتكون من المنذرين، فحين يختم على القلب فماذا بقي من الدعوة؟ وماذا بقي من القرآن؟ قال تعالى: ﴿وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الشورى: من الآية 24].
وتدبروا في التناسب والترابط العجيب بين ما ذكرنا عن أهمية الصدق مع الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) ودور النية في العمل والدعوة إلى الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) وزيادة في الأجر: ﴿نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ [الشورى: من الآية 23] كيف يزاد لك فيها حسنًا؟ لا بالكم، وإنما بما وقر في قلبك من الصدق والنية وصدق التوجه لله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، فهذا تناسب عجيب: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا﴾ [الشورى: من الآية 24] فليقولوا ما يشاءون، وقلبك بيد الله سبحانه، وكل من يفتري على الله كذبًا فالله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) يتولى قلبه بالختم الذي يجعله مُعْرِضًا عن آيات الكتاب، وماذا يربح الإنسان حين يختم على قلبه فلا موعظة تنفذ إليه ولا نور من الكتاب والإيمان يدخل في قلبه، ولا دعاء من الممكن أن يتسلل إلى أعماق قلبه فيداوي القلب وما قد وقر فيه من أمراض وشبهات وشهوات فينتزعها! حين يختم الله على القلب ماذا يحدث؟ لا يمكن أن يحق القلب حقًّا ولا يبطل باطلًا، وتدبروا في الترابط قال تعالى: ﴿وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ﴾ [الشورى: من الآية 24] لماذا؟ لِأَنَّ الباطل يمحى بصدق القلب وما وقر فيه من الإيمان في ترابط وتناسب الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) سيمحو هذه الافتراءات التي يفترونها عليك وتلك الأباطيل التي ينشرونها عنك ويحق الحق بكلماته، ولا يخفى أن الآيات العظيمة فيها بشارة عظيمة مرتبطة بقوله (جَلَّ شَأْنُهُ): ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [الشورى: من الآية 23] لا يبشرهم فقط بالأجر والثواب في الآخرة، وإنما يبشرهم بما كانوا يطلبونه! بما هو عزيز في قلوبهم، فما هو؟ يمحو الله الباطل ويحق الحق بكلماته، فلا أعز على المؤمن من إظهار الحق، وبزوغ نوره وفجره، وإزهاق الباطل وإسكات كلمته.
تدبروا في الربط: ﴿وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الشورى: من الآية 24] فيها لفتة جميلة رائعة! الله هو الذي يمحو الباطل، وليس أنت، ولو كنت نبيًّا، والله الذي يحق الحق بكلماته لا بكلماتك أنت، حتى لا يغتر بعض الدعاة ويتوهمون أن أسلوبه في الدعوة وجميل منطقه وحسن كلماته هي التي تجذب السامعين فتجعلهم يحقون الحق ويبطلون الباطل. الله هو الذي يمحو الباطل وهو الذي يحق الحق بكلماته، ولا أحد سواه، ولا حتى نبي إلا بما يشاء الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، لماذا؟ لأجل أن يتخلص الإنسان من نوازع ما يمكن أن يأتي عليه وهو يدعو الناس إلى الحق، فلا يلتفت إلى ما وهبه الله من حسن منطق أو قوة حجة أو أسلوب أو ما شابه؛ فيتوهم أنه يصل إلى قلوبهم بتلك الوسائل، لا يصل إلى قلب وإنما الذي يصل هو الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) بإرادته، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الشورى: من الآية 24] لماذا ختم بـ ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ حتى ينتبه الإنسان وهو يدعو الناس إلى القلب، فيطهرونه مِمَّا علق بها من دنس الشبهات والشهوات والرياء والعجب، وما يمكن أن يداخل الصدور ويتسلل إلى القلوب، فيحول بينها وبين وصول الحق إليها، وَمِنْ ثَمَّ الختم على القلب، والختم على القلب عقوبة، متى يختم الله على القلب؟ يختم على القلب فلا تصل إليه كلمات الحق ولا يبصر الحق فيراه حقًّا ولا الباطل فيراه منكرًا، متى؟ حين يضل عن كلمات الله وحين يتعامل مع الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) بمنطق المصلحة والمنفعة العاجلة وحين يطلب الآخرة ولكن عين على الآخرة وعين على الدنيا، وحين يدعو الناس إلى الآخرة وعينه معلقة على ما يقولون وما يعطونه وما يمنحونه من ألقاب ومن مدح أو ثناء أو من متاع الدنيا الزائل ولو كان عظيمًا!
إشكالية خَطِرَة تتسلل إلى قلب كثير من الدعاة حين يدعون الناس والله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) كعادة القرآن يبرز هذه الأمراض ليعالجها: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الشورى: من الآية 24] فحين تعلم أن الله عليم بذات الصدور، ماذا تفعل؟ ستثوب إلى الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) وستتوب إليه وتتراجع عن كل ما يمكن أن يعلق بقلبك من سيئات القلوب والأعمال، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ [الشورى: من الآية 25] السياق سياق حديث عن توبة وتراجع عن الخطأ وتراجع عما يمكن أن يتعرض إليه الإنسان من تحديات في طريق الدعوة إلى الله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾[الشورى: 25] وتدبروا في الربط في مرتين: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الشورى: من الآية 24] والمرة الثانية: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: من الآية 25] فما بين علم الله بذات الصدور، وما بين علمه بما تفعل، كيف يكون عملك؟ قال تعالى: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى: 26] تدبروا في هذه الآيات العظيمة المعجزة في ترابطها وفي تناسبها؛ كل واحدة منها تبني جزءًا في شخصية الإنسان المؤمن؛ جزءًا سديدًا وعقلًا وحكمةً ومعانيَ ومقاصدَ ما كان لها أن تُبنى بعيدًا عن كلمات الحق في هذا الكتاب العظيم، فكما أن الله سبحانه يحق الحق بكلماته، فقد حقق الحق بكلماتك ومنطقك، وحقق الحق بأفعالك وحقق الحق بقصدك ومعانيك الصادقة في طلب الآخرة، ولا شيء غير الآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.