تدبر سورة الشورى : الحلقة الثالثة

الحلقة الثالثة: (من الآيةِ الثالثةَ عَشْرَةَ إلى العشرين)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 وصلنا في تدبرنا في سورة الشورى العظيمة عند تلك الآية التي تشكل دستورًا لكل أولئك الذين يؤمنون بأن المنهج الذي ينبغي أن يحكم حياتهم هو المنهج الذي أنزله الله على أنبيائه وصفوة خلقه، قال: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: من الآية 13]، ولنا أن نقف طويلًا عند هذه الآية العظيمة، وما جاء قبلها من قوله (جَلَّ شَأْنُهُ): ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الشورى: 12]. ذاك التناسب الذي يجعل الحق في التشريع وتبيين وتبيان وتقديم المنهج للبشر من الرب الذي بيده مقاليد السماوات والأرض. من له حق التشريع؟ ومن له حق الحكم في حياة الناس والتحريم، والتحليل، والأمر والنهي فيما يخص شئونهم وحياتهم سوى ذاك الرب الذي خلق؟ الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وهو الذي بيده الأرزاق، وتبينوا في ذلك الربط العجيب بين: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ [الشورى: من الآية 12]، وبين قوله (جَلَّ شَأْنُهُ): ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الشورى: من الآية 13]، وفي ذلك رد صريح على أولئك الذين كانوا يجادلون من كفار قريش في أحقية وأفضلية النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، والحكمة من اصطفائه على غيره من خلق الله (جَلَّ شَأْنُهُ) ليكون نبيًّا، وهاديًا، ومبشرًا، ونذيرًا.

﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ [الشورى: من الآية 12]. الرزق لا ينحصر فيمال، ولا في عز، ولا في جاه، ولكن النبوة والرسالة هي كذلك من الرزق الذي يبسطه الله لمن يشاء، ويصطفي من عباده من يشاء، ويختار من خلقه من يشاء ليكونوا رسلًا مبشرين ومنذرين. هؤلاء الصفوة من الخلق هم كذلك ممن قد بسط لهم الرزق في النبوة والرسالة، ليكونوا هم الأئمة الذين بهم يهتدي البشر ويقتدون على آثارهم وسيرهم. وتدبروا في دقة المفردات القرآنية، قال: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ﴾ هو الذي شرع، فالشرع بيده، الله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وهو الذي له حق التشريع، والأنبياء ما هم إلا أوصياء على ذلك الشرع، أما الذي يشرع فهو الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى).

والشرع هنا بمعنى أن يسلك كذلك ويقدم طريقًا للخلق يسيرون وفقه وعلى هداه، فمن ذلك القول والتعريف والمعنى اللغوي من معاني الشرع وشرع في اللغة، هذا التناسب بين المعنى اللغوي وبين ما جاء به القرآن في هذه المفردة العظيمة، شرع شق لكم شرعًا، شق لكم طريقًا تسيرون عليه، وما هؤلاء الأنبياء إلا أوصياء على ذلك الطريق، تدبروا في المفردة والتناسب بين المفردتين، شرع ووصى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ﴾ هو الذي شرع ولم يشرع أحد غير الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) ﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ [الشورى: من الآية 13]، كل الأنبياء جاءوا بشرعة واحدة (شرعة التوحيد)، وجميع الشرائع التي جاءوا بها على اختلاف تفاصيلها بناء على اختلاف من أرسلوا إليهم، وبناء على تغير الزمن، وبناء على ختم هذه الرسالات برسالة النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، إلا أنها في الأصل واحدة قائمة على التوحيد، ذلك التوحيد الذي جمعت به وصايا الأنبياء جميعًا، ما الذي وصى به نوحًا؟ ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾.

وكلمة الوصية ومفردة الوصية توحي بأهمية ما وصى به، فالإنسان على سبيل المثال، ولله المثل الأعلى، الإنسان في حال احتضاره وفراقه لهذه الدنيا يوصي بأي شيء لأقربائه، وأحبابه، وأبنائه، وأهله، يوصي بأي شيء؟ يوصي بالأهم من الأمور، لا يوصي بالأشياء ذات الأهمية البسيطة أو المحدودة، ولكنه حين يوصي بشيء فذاك يعني أهمية هذا الأمر بالنسبة إليه. هذا فيما يتعارف عليه البشر، ولله المثل الأعلى، حين يقول رب العزة: ﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ [الشورى: من الآية 13]، هذا يدل على أهمية ذاك الشأن الذي وصى الله به (جَلَّ شَأْنُهُ) أنبياءه، ما هو ذاك؟

قال: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: من الآية 13]. ولنا أن نقف هنا عند كل مفردة مستعملة في هذه الآية العظيمة ﴿أَقِيمُوا الدِّينَ﴾، الدين يقام، ﴿أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾، أي دين؟ دين التوحيد الذي جمع كل هؤلاء الأنبياء، أما التفاصيل المبنية على التعاملات، والواجبات، والأوامر، والنواهي، فقد يكون ثمة اختلاف فيما بين شريعة اليهود وما بين الشريعة الخاتمة شريعة الإسلام التي هي شريعة التخفيف وشريعة الرحمة، بينما تلك الشريعة التي كانت عند بني إسرائيل كانت شريعة فرضت عليهم فيها الكثير من القضايا التي فيها إصر وفيها أغلال، لأجل أي شيء؟ لأجل ذاك الذي فرضوه هم على أنفسهم، من التعنت، والتعسف، والسؤال في غير مجاله ومحله، فبذلك كانت الشريعة لديهم تختلف في بعض الجزئيات، والمحرمات، والنواهي، والواجبات عن شريعة النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وما جاء فيها من التخفيف والرحمة، هذا أمر مختلف في التفاصيل، ولكن عند الوحدة، الدين واحد، لماذا؟ لِأَنَّ الكلام عن التوحيد والكلام عن الإيمان وأركان الإيمان والكلام عن الأصول في الدين التي هي واحدة لا تختلف بين شريعة موسى عليه السلام، وشريعة النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وشريعة إبراهيم، وشريعة عيسى عليه السلام، كلهم في ذلك سواء.

ولماذا لفظة ﴿أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ﴾؟ لبيان أن أحكام الدين يجب أن تقام في واقع الحياة ﴿أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ﴾، وكأن ذاك الدين بناء لا بُدَّ أن يقام، ولا بُدَّ أن يكون له قواعد يؤسس على أساسها ويرفع، الدين جاء لكي يقام. الدين جاء لكي يحقق في واقع الناس والبشر. ﴿أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ﴾. قال: ﴿وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾، ولماذا هذه اللفظة ﴿وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾؟ بمعنى ألا يكون ذلك الدين الذي وصى الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) بإقامته الأنبياء جميعًا ومن على نهجهم من أتباعهم ومن يسيرون على طريقتهم ﴿لَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ أي: لا تجعلوا ذلك الدين يمكن أن يستعمل كوسيلة للتفرقة بين الناس.

الدين يجمع، الدين يؤلف، الدين يوحد، ولكنه لا يفرق. لماذا القرآن العظيم يقول: ﴿وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾؟ كيف يتفرق الناس في الدين؟ الآيات التي بعدها بينت، قال: ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم﴾ [الشورى: 15]، لن يتفرق الناس في الدين إلا عند اتباع الأهواء. الأهواء هي التي تفرقهم وليس الدين. الأهواء التي تصور لهم أن هذا الدين ممكن أن يختلف في الطرق ووسائل التطبيق والتنفيذ له، هذه الشرائع المبتدعة، هذه التأويلات الفاسدة المنحرفة التي تبتعد بعيدًا وتأخذ الناس بعيدًا حتى لا تترك للدين إلا قشورًا، إلا رمزًا، أما معانيه؟ أما ما يمكن أن يرمي إليه ويؤسس في حياة الناس؟ فهذا لا تترك لهم فيه شيئًا، لماذا؟ الأهواء التي تفرق بين الناس، قال: ﴿وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾، ولا تسمحوا لأحد أن يجعل من الدين أداة ووسيلة للتفرق ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشورى: من الآية 13]، ولذلك كبر على المشركين ما تدعوهم إليه، لِأَنَّ ما تدعوهم إليه أن تتوحد الصفوف، وأن تتألف القلوب، وأن تجمع الكلمة على كلمة التوحيد السواء التي تجمع ولا تفرق، كبر هذا على المشركين. لماذا كبر على المشركين؟ لِأَنَّهُمْ يريدونها شرعة أهواء، وأمزجة، ومصالح شخصية، وليس شرعة دين يؤسس لخير البشر جميعًا.

من هنا قال: ﴿اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: من الآية 13]، لماذا؟ لِأَنَّ الدين، وإقامة الدين يحتاج إلى اجتناب وإنابة، يحتاج إلى أناس يحملون ويدركون قيمته ومعانيه ومقاصده. يحتاج إلى أناس يعرفون كيف يخضعون أهواءهم وحياتهم ومجتمعاتهم لحكم ذلك الدين وليس العكس. يحتاج إلى أناس يعرفون كيف يتجاوزون نقاط الضعف لديهم، كيف يتجاوزون أهواءهم لأجل أن تخضع لذلك الدين وأحكامه. الأهواء التي هي في واقع الأمر، لو بحثنا في القديم وفي الحديث عن المرض العضال الذي جعل الناس يتفرقون لوجدناه في كلمة واحدة يقدمها القرآن ﴿أَهْوَاءَهُم﴾ هذه الأهواء التي لا تخضع، ولذلك: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشورى: من الآية 13]، لماذا كبر على المشركين كلمة التوحيد؟ لماذا كبرت عليهم؟ لماذا استكبروا وأعرضوا وعاندوا؟ حتى لا يقولوها ولا يخضعوا حياتهم لأجلها، لماذا كبرت عليهم؟ لِأَنَّ أهواءهم كانت كبيرة في قلوبهم وعقولهم، وحين يكبر الهوى في قلب الإنسان وفي مساحة حياته، وعقله، وتفكيره، لا يمكن بعد ذلك أن يخضع ذلك الهوى لحكم الشرع، ولكنه يأتي إلى الشرع بتأويل فاسد منحرف أو بإخضاع، أو بِلَيٍّ لأعناق النصوص، والشرع لأجل أن تساير وتماشي أهواء نفسه ومصالحه الشخصية الذاتية. وكم من أمم فرقتها أهواء قائد ممن قادوها، أهواء من سار بها يمينًا وشمالًا، كم من أمة من الأمم؟ كم من شعب من الشعوب في القديم والحديث ما فرقه إلا أهواء شخص أو ثلة من البشر؟ والقرآن لا يريد للناس أن يتفرقوا. القرآن يريدهم أن يجتمعوا على كلمة سواء ولن يجمع الناس في القديم والحديث إلا على كلمة التوحيد الخالدة التي هي وصية الأنبياء جميعًا. من هنا جاء بقوله عز وجل: ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: من الآية 13].

الأمر يحتاج إلى إنابة، وإقامة الدين في واقع الحياة. وعدم التفرق في الدين والثبات عليه قضية تحتاج إلى إنابة، وتحتاج إلى قلب رجاع منيب إلى الله سبحانه، خاضع إليه، لا يبتغي مصالح شخصية يقدمها على ذلك الدين وأحكامه. ولك أنت أن تنظر وتتساءل؛ كم من البشر أصبحوا أثرياء وأغنياء بناء على حروب، وصراعات، ونزاعات افتعلوها بين البشر، فأصبحوا كما يعرف أو يقال، تجار حروب.

وكم من الناس ممكن أن يقال عنهم تجار صراعات، وتجار تفرقة، وتجار نزاعات وخصومات بين البشر، يقتاتون على التفرقة بينهم، ويعيشون على تمزيق صفوفهم ووحدتهم، لكل هؤلاء يقول الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى): ﴿أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾. هذه الوصية الخالدة التي بها وصى صفوة الخلق وجميع الأنبياء، والتي على المؤمنين بأولئك الأنبياء ورسالاتهم أن يحفظوها، وأن يقيموها في حياتهم، وأن يحافظوا عليها، وألا يتركوا وسيلة ولا قضية ولا مبدأ من المبادئ المرتبطة بها إلا ويرفعون شأنه ويعلونه، لأجل أي شيء؟ لأجل الحفاظ على الوحدة، قال: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: من الآية 14] بمعنى آخر، إن العلم الذي ينبغي أن يكون مدعاة للوحدة وليس للتفرقة، هؤلاء تفرقوا بعد ما جاءهم الوحي وبعدما جاءهم العلم بغيًا بينهم. لماذا قال ﴿بَغْيًا﴾؟ عُدوانًا وظلمًا، والبغي أشد من الظلم، لماذا؟ لِأَنَّهُ ما يفترض أن يحققه العلم في حياة الناس الوحدة، وجمع القلوب، وتأليف القلوب، وليس تمزيق الصف، ولا تفريق القلوب، ولا شق الكلمة، فهذه الأشياء لا يمكن أن يأتي بها علم.

الجهل وحده هو الذي يمكن أن يأتي بالتفرقة، أما العلم فجاء لينير القلوب والأبصار والبصائر. فَأَنَّى للعلم، ذاك العلم الخاضع للوحي، أَنَّى لذاك العلم أن يعبث بحياة الناس ويفرق كلمتهم؟ أَنَّى للعلم أن يفرق كلمة الناس؟ هذا ليس بعلم هذا جهل، ولكن العلم إذا اقترن معه البغي حصل بذلك ما حذر منه القرآن، قال: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: من الآية 14] تدبروا في القرآن كيف يشخص، تدبروا في القرآن كيف يقرر حقيقة الأمراض والأدواء، كيف يقرر للناس ما يفسد معاشهم وحياتهم، البغي بينهم، تدبروا في الكلمة ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾. عملية ظلم، عملية شدة ظلم واعتداء، قال: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُم﴾ [الشورى: من الآية 14] قضي بينهم بأي شيء؟ لأجل ذاك البغي الذي وقع بينهم. ذاك الفساد الذي شرع للتفرقة والتمزيق بين الناس. ذاك البغي الذي جعل بعض الناس من أصحاب الأهواء وأتباع شرعة الأهواء يرون في التمزيق علوًّا، ورفعة، وشرفًا، وتحقيقًا لمقاصدهم الدنيئة.

ويرون في الوحدة وجمع الكلمة يرونها ضعفًا ونهجًا لا ينبغي أن يسيروا عليه ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾، ولكن الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) قضى أن يكون ذلك إلى أجل مسمى، قد يكون أجل الإنسان وأجل الأمم على الأرض الذي ينتهي بالموت، وقد يكون الأجل الذي ينتهي بالقيامة وقيام القيامة. بكل الأحوال ثمة أجل مسمى. ثمة فترة محدودة حددها الخالق (جَلَّ شَأْنُهُ)، لأجل أي شيء؟ لأجل أن يكون الابتلاء فيها، وجود الزمن وعامل الزمن وتفاعل الإنسان مع عامل الزمان والمكان جزء من الابتلاء.

﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُم﴾ [الشورى: من الآية 14]، لن يقضى بينهم في الدنيا، الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) يقضي ويفصل بينهم يوم القيامة، الدنيا إلى أجل مسمى. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيب﴾ [الشورى: من الآية 14]، هذا الكتاب الذي ينبغي أن يجمع ولا يحدث شكًّا ولا ارتيابًا في نفوس الناس إذا به في حياة هؤلاء القوم وممن خلفهم من أقوام من بعدهم في شك مريب. بمعنى آخر، تلك التبعية التي أعمت الأجيال التي جاءت بعدهم عن الاستدراك، عن التصحيح، عن إعادة النظر فيما فعله الأولون، والقرآن هنا يحقق قضية مسئولية الأجيال، أجيال لاحقة والأجيال السابقة، الأجيال السابقة التي وقعت في أخطاء، أي أخطاء؟ أخطاء التفرق، وأخطاء التمزق، وحوادث تاريخية مضت، ولكنها فرقت بين الناس، مسئولية الأجيال اللاحقة ألا تعيد التاريخ مرة أخرى، وألا تكرر تلك الهزائم، وألا تكرر حلقات التفرقة بين الناس، وألا تعيد الحروب التاريخية المفتعلة التي افتعلها البشر ففرقت بين صفوفهم وفرطت في تلك الوصية الخالدة التي وصى الله بها الأنبياء، من إقامة الدين واحدًا دون تفرق، وودون تمزق، ودون جعله أداة لتحقيق التفرق والتمزق بين الناس، وأنت لو نظرت اليوم في تاريخ الكثير من الأمم والشعوب لوجدتها ومع الأسف الشديد تستعمل الدين أداة للتفرق والتمزق بين الناس، أداة! فتقول قال الله كذا وتستشهد وتستدل بمواقفها وتأويلاتها الفاسدة بما قاله الله ورسوله، والله ورسوله بريئان من كل تفرقة وتمزيق بين وحدة الناس ولم الشمل وتأليف القلوب، ولكنها الأمزجة والأهواء، والتأويلات الفاسدة والمنحرفة التي أضيف إليها البغي فكان الناتج مرًّا قاسيًا يعاني منه كل البشر على اختلاف مستوياتهم وأزمانهم ومعيشتهم. من هنا قال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيب﴾ [الشورى: من الآية 14] ليجعل مسئولية الأجيال اللاحقة عن التصحيح مسئولية واضحة، مسئولية قائمة. وأنت ترى في زماننا وفي كل زمان وفي مواضع كثيرة في القرآن ذكر هذه الإشكالية والعقبة التي كانت تقف صادًّا أمام كفار قريش فيقولون وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. هذا المنهج الذي يجعل من الجيل اللاحق أسيرًا لما خلفه وتركه وراءه الجيل الذي سبق، جيل الآباء والأجداد، أما وأن جيل الآباء والأجداد قد حط رحاله عند التفرقة والتمزق، فَلِمَ لا تكون الأجيال اللاحقة أكثر تعقلًا وقدرة على مراجعة ما ورثته عن آبائها وأجدادها؟ في ضوء أي شيء؟ في ضوء الكتاب، لِأَنَّ الكتاب لا شك فيه، أن قد تشك في الحوادث والأحداث التاريخية، قد تشك فيما وردت، نعم، ولكن أن تشك في كتاب صانه الله من كل تحريف، هذه الإشكالية المريبة التي تدعو إلى كل شك وكل حيرة. من هنا جاء الأمر الإلهي، الأمر الصريح الواضح، قال: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِم﴾ [الشورى: من الآية 15]، ادعُ لأي شيء؟ ادعُ للوصية الأولى التي وصاك بها: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: من الآية 13]، ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِم﴾ [الشورى: من الآية 15]. وتدبروا التناسب بين ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: من الآية 13]، وبين قوله (جَلَّ شَأْنُهُ): ﴿وَاسْتَقِم﴾، و﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [الشورى: من الآية 15] لماذا؟ لِأَنَّ ثمة تناسب واضح بينهما، أنت لا تستطيع إقامة الدين دون أن تستقيم في حياتك كما أُمرت. أنت لا تستطيع أن تحقق إقامة الدين في الدنيا والعالم من دون أن تستقيم كما أمرت، في أسرتك، وفي مجتمعك، وفي اقتصادك، وفي تربيتك، وفي تعليمك، وفي سائر شئونك. تدبروا في ذاك الترابط والتناسب العجيب بين آيات هذه السورة المباركة: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [الشورى: من الآية 15]. وواضح جِدًّا من مفردات الكلمات في السورة العظيمة أن السياق فيها سياق دعوة، وسياق خطاب عالمي ما جاء ليخاطب فقط أم القرى، وتدبروا في الربط بينها وبين أول السورة قال: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الشورى: من الآية 7]، نعم مطلوب منك أن تنذر أم القرى باعتبار أنها أول بقعة شرفها الله بنزول هذه الآيات المباركة العظيمة في هذا الكتاب المبين، ولكن من تلك البقعة المباركة إلى العالم، كيف تدعُ العالم؟ ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِم﴾ [الشورى: من الآية 15]، ادعُ العالم إلى وحدة الصف وجمع الكلمة والقيام بوصية الأنبياء الخالدة التي كثير من دول العالم اليوم هي من أتباع (أو هكذا تدعي) أنها من أتباع عيسى عليه السلام، أو أتباع موسى عليه السلام، أو إسماعيل عليه السلام. ادعُ هؤلاء جميعًا، ادعُ أمم الأرض وشعوب الأرض إلى أن تقيم الوصية التي جاء بها أنبياؤهم، الوصية الخالدة التي وصوا بها، عاشوا عليها وماتوا عليها وسيبعثون على كلمة التوحيد التي لأجلها أُرسلوا؛ فلذلك فادع واستقم في دعوتك.

تدبروا في معنى الاستقامة، استقامة تنضوي على معنى الإقامة، مع الزيادة؛ لِأَنَّ فيها الطلب، استقم. أنت حين تطلب، تطلب بأي شيء؟ تطلب أن تكون قائمًا، تطلب أن تكون مستقيمًا، في ترابط بين مفردات ومصادر هذه الكلمة، وكل المفردات المنبثقة عنها في منظومتها. استقام، مستقيم، قائم، أقيم، أقم، لأجل أي شيء؟ لأجل أن تقيم هذا الدين، قال: ﴿كَمَا أُمِرْتَ﴾ [الشورى: من الآية 15]، ما الذي أمرت به؟ في الآية الأولى وضحه (جَلَّ شَأْنُهُ): ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الشورى: من الآية 13]، أنت أمرت بما أوحى الله إليك (جَلَّ شَأْنُهُ). هذا الوحي العظيم، ﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [الشورى: من الآية 15]، ابْقَ على طريقك مستقيمًا لا تنحرف عنه بتأويل، ولذلك جاءت في نفس الآية: ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [الشورى: من الآية 15]، لماذا؟ لِأَنَّ أهواء القوم ستأخذك بعيدًا عن الطريق المستقيم. أهواء القوم ستأخذك يمينًا وشمالًا. أهواء القوم ستجعل بك منحرفًا عن الطريق المستقيم.

أنت كلما زدت وأوغلت في اتباع أهواء الناس ومداراتهم، والسير وراء ما يقولونه، ووراء ما يشرعونه ويقرونه من أعمال وقرارات، أنت في واقع الأمر تزداد انحرافًا عن ذلك الطريق المستقيم. فاستقم كما أمرت. أنت لديك طريق تقيم من خلاله القرارات التي تتخذها، تقيم من خلاله ما أنت فيه، تقيم من خلاله الرسالة التي أنت تؤمن بها فاستقم كما أمرت. وتدبروا في الربط، الأمر والنهي: ﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [الشورى: من الآية 15] والنهي ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [الشورى: من الآية 15]، كلما اتبعت الهوى (هوى النفس وأهواء الآخرين) ابتعدت عن طريق الاستقامة، وكلما تمسكت بطريق الاستقامة (كما أمرت) جافيت شريعة الهوى، ولا شيء أخطر على الفرد والمجتمع والأمم من اتباع شريعة الأهواء، شريعة الأمزجة التي لا تستقيم على حال. يوم تقول لك هذا فيه ضرر ويوم آخر تقول لك هذا فيه منفعة. تحركها الأمزجة، وتحركها المصالح الذاتية، ويحركها البغي والعدوان والاعتداء على الآخرين: ﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ [الشورى: من الآية 15]، تدبروا في تلك الآية الواحدة، هذه آية واحدة فقط في سورة الشورى، ولكن كم من مبدأٍ عظيم ودستور عظيم حققته وحوته هذه الآية.

أول الآية قال: ﴿فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [الشورى: من الآية 15]﴾ ما جاء بقضية القول؛ لِأَنَّ المسألة ليست مسألة قول، ولا مسألة شعار أنت ترفعه، ولا مسألة أسماء أنت تتبناها، ولكنها مسألة تنفيذ وتحقيق وتطبيق في واقع الحياة: ﴿فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ [الشورى: من الآية 15]. إيمانك بما أنزل الله من كتاب، والإعلان عن هذا الإيمان، هذا الإعلان ليس بالضرورة أن يكون من خلال الشعارات والأقوال، ولكن من خلال التطبيق والواقع المعيش الذي تعيشه في أبجديات وتفاصيل حياتك الفردية والمجتمعية. وأمرت أيضًا بأي شيء؟ قال: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [الشورى: من الآية 15]، فارق شاسع بين البغي بينهم، وبين أعدل بينكم. ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ تحقيق العدل مبدأ من المبادئ العظيمة التي جاءت في هذه السورة المباركة، نحن نتكلم عن سورة الشورى.

الشورى واحدة من أعظم معانيها ومقاصدها إقامة العدل وتحقيق العدل بين الناس. أنت لا يمكن أن تحقق وحدة حقيقية (وليس وحدة مصطنعة) ولا تجمع القلوب بناء على الشعارات، أنت بحاجة إلى إقامة العدل، ولا تتحقق الوحدة على أنقاض العدل، لا! الوحدة في الدين، والوحدة في القرآن تقام على أساس العدل، والحق، والإنصاف، وإعطاء كل ذي حق حقه، وليس على هضم الحقوق، وليس على انتقاص حقوق الآخرين، ولا النيل من كرامتهم وإنسانيتهم: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [الشورى: من الآية 15] أعدل بينكم هذا ما أمرت به.

تدبروا في الربط، تدبروا القرآن بقيمه، ونحن نتكلم عن الفترة المكية، تدبروا القرآن كيف يريد أن يبني ويحقق العدل بين كل البشر بمختلف أعراقهم وأجناسهم وأديانهم، أنت مطالب بتحقيق العدل بين الناس وإن خالفوك في الدين، وإن اختلفوا معك في قضية الإيمان. العدل قيمة مطلقة، أنت مسئول عن إقامتها: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: من الآية 13]، ذاك الدين الذي لا يقام إلا على العدل، ومن تمام العدل أنك تقيم الدين؛ لِأَنَّهُ لا شيء يضمن للعدل أن يعيش ويتحقق ويسمو على كل الأهواء والأمزجة الذاتية إلا الدين والتمسك به؛ ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [الشورى: من الآية 15]، تدبروا في الترابط والتناسب. قال: ﴿اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُم﴾ [الشورى: من الآية 15]، ما الذي يجمع بيننا؟ إن الذي ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الشورى: من الآية 12]، ﴿رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم﴾ [الشورى: من الآية 15]. تدبروا في ذاك الفصل بين شعوب وأمم الأرض. أنت مطالب بإقامة العدل، والاستقامة عليه، وعدم اتباع الأهواء والأمزجة التي عصفت بالبشرية، ومازالت تعصف بالبشر يمينًا وشمالًا، وأنت لو نظرت في حال الأمم والشعوب المعاصرة اليوم لرأيت عَجَبًا، وما ذاك العجب الذي نراه أنا وأنت إلا لِمَا أحدثته شرعة الأهواء من تمزق في صفوف الناس. قال: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [الشورى: من الآية 15] أنا لست مسئولًا عما تعملون، ولكني مسئول عما أمرت بعمله، ماذا أمرت؟ أمرت بأن أعدل بينكم، ولكني لست مسئولًا عن بغيكم: ﴿لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [الشورى: من الآية 15]، سيجمع بيننا الله سبحانه وآيات أخر في سور كثيرة بينت: ﴿إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الحج: من الآية 17]، يفصل بينهم في أي شيء؟ فيما اختلفوا فيه، الله الذي يقضي، والله الذي يفصل.

بمعنى آخر لا تأخذك النزاعات الجانبية بعيدًا عما طُلِبَ منك وَأُمِرْتَ به، أنت أُمِرْتَ بالعدل فاشتغل به واعمل على صيانته وتحقيقه في واقعك، ولا تشتغل بما يفعلون ولا ما يقولون: ﴿لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ [الشورى: من الآية 15]، ليس ثمة حجة من الآخر، فالدنيا ليست دار قضاء، وإنما الدنيا دار عمل: ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [الشورى: من الآية 15] (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) فسيقضي بيننا بالعدل وبالحجة، بالعدل الذي هو أمر عباده به (جَلَّ شَأْنُهُ). يا لها من آيات عظيمة!

وتدبروا في الآيات التي جاءت بعدها، قال: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى: من الآية 16]، يحاجون بعد ماذا؟ أرادوا كتابًا ينزل عليهم؟ نزل عليهم كتاب، أرادوا نبيًّا يرسل إليهم؟ أرسل إليهم نبي، حجتهم داحضة، لا حجة لهم، لا حجة لهم عند ربهم ﴿يُحَاجُّونَ فِي اللهِ﴾ من بعد أي شيء؟ وأنت تعلم أن اليهود ومن كان من أهل الكتاب كذلك فيما بعد لا حجة لهم، بشر هذا النبي الكريم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في كتبهم: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: من الآية 6]، ما هي حجتهم؟ داحضة! وزاهقة، وباطلة، ولذلك قال: ﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى: من الآية 16]، لماذا؟ لِأَنَّ الحجة قامت عليهم، كيف قامت؟ برسالات الأنبياء، بالكتب التي أنزل الله على عباده. الحجة قائمة على الخلق، حجة الله على خلقه قائمة، أمرهم بالعدل، وأمرهم بالتوحيد، وأمرهم بما وصى به الأنبياء، فأين رسالات الأنبياء؟ وأين من يدعي السير على نهج الأنبياء في إقامة العدل؟

تدبروا في الترابط، لماذا ذكر هنا قضية الحجة داحضة ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ﴾؟ لِأَنَّ القرآن يقرر في هذه الآية الكريمة أن إقامة العدل والحق في الأرض وصية الأنبياء، لا حجة لهم بعد ذلك، بمعنى آخر: حين يشيع الظلم، ويتضاءل الحق، وتتضاءل مساحة إقامة العدل بين الناس، سَيُسْأَلُ عن ذلك هؤلاء الذين يصدقون ويدعون أنهم أتباع الأنبياء! أين الحجة في ذلك؟ الآية مترابطة جِدًّا مع قوله عز وجل: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [الشورى: من الآية 15]، كل البشرية سَتُسْأَلُ عن إقامة العدل بينها، كلنا سَنُسْأَلُ، ولا حجة لنا، لماذا لا حجة لنا؟ لِأَنَّ الله أمر بهذا العدل. وتدبروا في الآية التي جاءت بعدها ومدى التناسب والترابط العجيب بين الآيات، قال: ﴿اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ [الشورى: من الآية 17]، تدبروا في الترابط مع الآية: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [الشورى: من الآية 15]، والآية التي بعدها: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى: من الآية 16]، لماذا داحضة؟ حين لا يقيمون العدل في حياتهم، فحجتهم داحضة، وَسَيُسْأَلُونَ: ﴿اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ [الشورى: من الآية 17]، الميزان الذي هو أداة لتحقيق العدل. الميزان الذي هو أداة ممكن أن تكون متغيرة. الميزان نحن على سبيل المثال، أنت تزن، تزن الأشياء بمقاييس وأدوات للقياس مختلفة وكلها لغاية واحدة، تحقيق العدل. الميزان ممكن أن يختلف في شكله وفي صورته من مكان إلى مكان، ومن زمن إلى زمان، ومن بيئة إلى أخرى، وأنت لا تزن كل الوحدات بذات الميزان، فالموازين مختلفة! الميزان الذي تزن به على سبيل المثال الحنطة والشعير ليس هو الميزان الذي تزن به الذهب والفضة، وهذا واضح؛ لِأَنَّ الميزان مجرد أداة، ولكن ما الغاية من هذا الميزان؟ الحق والعدل، وتختلف الموازين، ولا إشكال، ولكن المهم دومًا وأبدًا أن تبقى تلك الموازين محققة للحق والعدل: ﴿اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ﴾ [الشورى: من الآية 17]، أنزله بالحق ولإقامة الحق.

تدبروا في المفردات ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ قال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: من الآية 17] ما دخل الساعة في قضية الميزان والحق؟ الساعة والإيمان بالساعة والبعث ويوم الحساب كفيل ومن أعظم الضمانات لتحقيق العدل بين الناس.

الإنسان حين يبلغ درجة معينة من القوة والسلطة والمنعة والجاه والمال قد يتوهم أنه فوق الحساب، فوق المساءلة القانونية، لا أحد يملك أن يحاسبه ولا أحد يملك أن يسائله، ممكن جِدًّا، ولكن حين يؤمن بأن الساعة قريب وأن يوم الحساب أقيم على أسس الحق والعدل التي لا ظلم فيها، كيف ستكون نظرته للأمور؟ سيشعر أن هناك من يحاسبه، سيدرك تمامًا أنه في الدنيا قد يفلت من محاكم الدنيا بلا حساب ولا كتاب، لِأَنَّ الموازين قد انقلبت رأسًا على عقب، أصبح ميزان القوة هو الذي يجعل الحق حقًّا، وهو الذي يجعل الباطل شيئًا آخر!

القوة هي التي تتحدث؛ فميزان البشر اليوم الذي يحكمونه بينهم أصبح مختلفًا، وأصبح مقلوبًا، وأصبح منكوسًا، ولكن هذا لن يغير شيئًا من حقيقة الأمر، قال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: من الآية 17]، وهذا تذكير وحض وتوبيخ لأولئك الذين لا يقيمون الحق والعدل في حياتهم وحياة الآخرين، هذا وعيد، فالآية تضمنت وعيدًا وإن كانت لم تأت بأسلوب التهديد، وإنما بأسلوب الإخبار: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: من الآية 17]، ولكن فيها وعيد أن الناس الذين لا يقيمون الحق والعدل الذي أمر به الله سبحانه: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [الشورى: من الآية 15]، هؤلاء ليسوا من الساعة ببعيد، والساعة هي يوم الحساب، اليوم الذي سَيُحَاسَبُ الناس فيه على أعمالهم، يحاسب العدل على عدله، ويحاسب الظالم على ظلمه، لا ظلم اليوم. قال تعالى: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ [الشورى: من الآية 18]، الذي لا يؤمن بها يستعجل بها لسفاهة عقله ومنطقه؛ لِأَنَّهُ لا يؤمن بها ويعتقد أن كل ما لا يراه قريبًا فهو بعيد، والواقع غير هذا تمامًا، هم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا، هذا الذي لا يؤمن به ولكن ما حال الذين يؤمنون به؟ قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ [الشورى: من الآية 18]، لماذا أشفق منها الذين آمنوا؟ ما ركز في قلوبهم من الإيمان بالحق ومن الإيمان بأن الله سبحانه يحاسب الناس على عدلهم وظلمهم، فأشفقوا، أشفقوا شفقة تجعلهم يراقبون أعمالهم وأقوالهم وخواطرهم، شفقة تدفع بهم نحو العمل الصالح، شفقة يخالجها خوف، ورهبة، ورغبة، ومحبة، وهذه معاني الإشفاق. قال: ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ [الشورى: من الآية 18]، لماذا أشفقوا منها؟ لِمَا ركز في قلوبهم من العلم والإيمان بأنها حق. الساعة حق، والموت حق، والإيمان بالبعث حق، أما وأنك تؤمن بأنه حق، كيف لا تشفق منه؟ قال: ﴿أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيد﴾ [الشورى: من الآية 18] بكل تأكيد!

وقد يَسْأَلُ الإنسان سؤالًا مشروعًا؛ لماذا لا يريد الناس الساعة؟ بعض الناس لا يريدون الساعة، لماذا لا يريدونها؟ لماذا لا يريدون قيام الساعة؟ لشدة ما أساءوا في حياتهم؛ لِأَنَّهُمْ يريدون حياة عبثية بلا حكم، بلا قانون، بلا نواهٍ، بلا أوامرَ، حياة أقرب إلى حياة العبث والضياع والجنون والسفه منها إلى حياة العقلاء الذين كرمهم الله بالعقل، وزينهم بالوحي، وأمرهم بالعدل والحق، لا يريدون بعثًا، لا يريدون حياة يقومون بها بأوامر الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) وبما جاء على لسان أنبيائه الكرام. قال: ﴿أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيد﴾ [الشورى: من الآية 18]، بكل تأكيد في ضلال! ضلال في أهوائهم، وضلال في الشرائع التي يشرعونها لأنفسهم، وضلال في الوساوس التي أخذتهم بعيدًا، وضلال في شكوكهم التي أخذتهم بعيدًا عن الإيمان بيوم القيامة في الوقت الذي كل ما في الدنيا يأكد حقيقة القيامة ويوم البعث، قال: ﴿اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز﴾ [الشورى: 19]، ولنا أن نتساءل؛ ما وجه الترابط ﴿اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز﴾؟ لطيف بعباده سبحانه ومن لطفه بعباده أن شرع لهم هذا الدين، ومن لطفه بعباده أن أمرهم بالإيمان بالبعث، ومن لطفه بعباده (جَلَّ شَأْنُهُ) أنه ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز﴾ [الشورى: من الآية 19] ومن أعظم أشكال الرزق أن يكون لك وصل بهذا الكتاب العظيم، أن تؤمن بالبعث، وأن تؤمن برسالات الأنبياء، وتدبروا في دقة ما انتهت به الآية وختمت ﴿وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز﴾، أولها لطيف بعباده، ووسطها يرزق من يشاء (يعني الرزاق)، وآخرها القوي العزيز. القوي الذي لا يعجزه أحد، والعزيز الغالب على أمره، والقاهر لعباده، بأي شيء؟ بما فرض عليهم من شرائع في الدنيا وبما حكم عليهم في الفصل بينهم يوم الحساب ويوم القيامة، ولذلك إليه المصير: ﴿وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز﴾، إليه تصير الأمور وإليه يرجع البشر، الله لطيف بعباده.

وتدبروا معي في ذاك النداء الذي يجمع بين اللطف والرزق، والقوة والعزة. الذي يجعل الإنسان يفكر، ويعيد النظر في حياته، ويتأمل فيها، ويدرك تمامًا أنه لن يأخذ من الدنيا أكثر مما قُدِّرَ له، وهذه حقيقة ولكنَّ الكافرين غافلون عن هذه الحقيقة، الذين لا يؤمنون بيوم الحساب غفلوا عن هذه الحقيقة: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾، تدبروا في حياة الناس اليوم.

الله يرزق الناس أشياء متنوعة متعددة، يرزق هذا علمًا ويرزق ذاك مالًا ويرزق هذا ولدًا، وستأتي الآيات: ﴿لِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: 49، 50] وتتفاوت الأرزاق بين الناس، ولكن كل ما رزقك الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) (جَلَّ شَأْنُهُ) في هذه الدنيا إن لم تحقق فيه ما وصى وما أمر به الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) فهو عليك وليس لك: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [الشورى: من الآية 19]، رزقك وهو قوي بعزته (جَلَّ شَأْنُهُ) فاتق الله فيما رزقك، قال: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِه﴾ [الشورى: من الآية 20]، من جَعَلَ الآخرة مبتغاه، وغاية مناه، ومنتهى ما تطيب به نفسه: ﴿نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِه﴾. يفتح الله لك من أبواب الطاعات ما يزيد لك من حسناتك وأعمالك فيها، وهذا رزق!

تدبروا في الربط بين الحديث عن الرزق و﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾، و﴿لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾، وبين الآية التي بعدها: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِه﴾ [الشورى: من الآية 20]، أعظم أبواب الرزق أن يزاد لك في حرثك في الآخرة، في الأعمال التي تنفعك في الآخرة، فما قيمة أن ترزق ملايين أو حتى مليارات من الأموال ولكنك لم تشتر بها عملًا يقربك وينفعك في الآخرة! كلها أنفقتها في هذه الدنيا الفانية، فما قيمة كل هذه الأموال؟

﴿نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِه﴾ فهذا من أعظم الرزق، حتى يدرك الناس أن الرزق لا ينحصر في عطاءات الدنيا. الناس في الدنيا قد يُعْطَوْنَ أشياء كثيرة جِدًّا، وقد تفتح لهم أبواب يتوهم بعضهم حين يراها أنها كل الخير، والخير الحقيقي أن يكون ما رزقك الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) من أموال، وأولاد، وصحة، وقوة، وعلم، يزاد لك في حرثك فيه في الآخرة. هذا المقياس.

﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [الشورى: من الآية 20]، لن نعطيه كل حرث الدنيا؛ لِأَنَّهُ لن يأخذ إلا ما قسم الله له: ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى: من الآية 20]، فما قيمة أن تأخذ من حرث الدنيا؟ والدنيا بأسرها وبأكملها ستنتهي إلى زوال. ما قيمة أن تمتلك عشرة قصور وعشرة بيوت وعشرة مصانع، ما قيمة كل هذا؟ وليس لك في الآخرة من نصيب، تلك إشكالية خَطِرَةٌ في حياة كثير من الناس، يكدسون الأموال للدنيا ويكنزونها للدنيا، ولا يبقون لآخرتهم، ولا حتى شيء واحد، ولا يرحلون للآخرة ولا حتى شيء واحد، يمتلك في الدنيا عشرة بيوت ولم يترك بيتًا واحدًا في الآخرة ينفعه، ليس له فيها نصيب، إشكالية خَطِرَةٌ! هذه هي التعاسة الحقيقية، وهذا هو النقص الحقيقي في الرزق. ليس النقص في الرزق أنك لا تملك في الدنيا الكثير من المال، فقد يعطيك الله اليسير من المال وتنفق منه على نفسك وعلى عيالك وعلى أهلك وأقاربك بما مكنك الله، وربما حتى تنفق على من هو أقل منك حاجة، ممكن جِدًّا، وأقل منك حالًا وأكثر منك احتياجًا، ممكن، فيفتح الله لك ويزيد لك في حرثك في الدنيا وفي الآخرة ويبارك لك، وممكن أن يفتح للإنسان أبوابًا من الدنيا وليس له في الآخرة نصيب.

وها نحن نسمع في كل يوم عشرات الأخبار عن كبار المشاهير والأغنياء والأثرياء في العالم، هذا ترك ثروته بالملايين وأوصى بها لكلب أو لقطة، وذاك ترك ثروة بالملايين وتأتي عليها الضرائب المختلفة، وهذا ترك ذاك وهذا ترك…، ماذا أخذ معه؟ سيترك كل شيء، كلنا سنترك كل شيء وراءنا ولكن يبقى السؤال مفتوحًا، وهذا ما يعززه القرآن في هذه الآية المباركة، ماذا ستأخذ معك من متاع الدنيا؟ ماذا ستأخذ معك من مال الدنيا؟ ماذا ستأخذ معك من متاعها من بيوتها من مساكنها؟ إلا ما أردته أن يكون حرثًا للآخرة!

أنت حين تجعل الآخرة غاية لك تكون من أصحاب تلك الآية ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِه﴾ [الشورى: من الآية 20]، أنت حين تكون الإرادة فيك تهون عليك الدنيا وما فيها. حين تكون الآخرة هي غايتك تهون عليك مصائب الدنيا ولو تكالبت. حين تكون الآخرة هي غايتك تهون عليك مصاعب الدنيا، وضيقها، وشدائدها، وأحزانها، وآلامها، وآمالها.

حين تكون الآخرة هي غايتك تختلف لديك كل المقاييس والموازين، وتختلف لديك الطرق والنظرات التي تقيس بها الأمور. لا شيء يقيم العدل ويحقق العدل في حياة الناس كأن تجعل الآخرة غاية لك، لا شيء!

وتدبروا في الترابط بين قوله عز وجل: ﴿اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: 17]، ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِه﴾ [الشورى: من الآية 20] ترابط واضح، كلما ازداد الإنسان تعلقًا بالآخرة وإيمانًا بها ويقينًا بقربها -أقام الدين والحق والعدل في حياته، واقتص للناس من نفسه التي بين جنبيه. وكلما نسي الآخرة (وما عادت الآخرة غاية له، وإنما هي الدنيا آخر مآله وغاية طموحاته) -أفسد في الدنيا وازداد بغيًا وظلمًا وعدوانًا.

الآخرة تقلل مساحة الأشياء الدنيوية التي أنت تتمسك بها. الآخرة تجعل الأشياء الدنيوية تتضاءل قيمتها في قلبك وصدرك وتراها بحجمها الحقيقي، وحجمها الحقيقي أنها ضئيلة، أنها صغيرة ولو رآها الناس كبيرة وضخمة ولكنها قليلة ضئيلة في جنب الآخرة، فارق شاسع! على سبيل المثال أنت ترى بيوت الدنيا، والناس يحبون أن يتوسعوا في مساكنهم في الدنيا، أين سعة مساكن الدنيا من مساكن الآخرة وقصورها؟ أين؟ ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]، أين سعة الدنيا من سعة الآخرة؟ يا لها من قيمة عظيمة حين يبدأ الإنسان يغير طبيعة القياسات التي يتخذها في حياته، فيقدم لآخرته ويرحل إليها من دنياه ما شاء أن يرحل! ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 110] سبحانه! (جَلَّ شَأْنُهُ)، لماذا يريدنا القرآن العظيم في هذه الآيات أن نصغر من مساحة الدنيا وحجم الدنيا في قلوبنا؟

تلك إشكاليةٌ خَطِرَةٌ حين تزداد مساحة الدنيا وتتضخم في عقل الإنسان وفكره! يهون عليه العدل فيضن، يهون عليه الحق فيقع في الباطل، يهون عليه الأمر بالمعروف فيتركه، ويهون عليه النهي عن المنكر فيأتيه، وتلك إشكاليَّةٌ خَطِرَةٌ! حب الدنيا، وإرادتها، والتمسك بها، بينما الإيمان بالآخرة الذي لا يعني أبدًا أن الإنسان يترك إعمار الأرض أو إصلاحها (على العكس تمامًا) يقيم التوازن! ولكن المهم جِدًّا ألا تتضخم مساحة الدنيا في قلبك وعقلك، فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا، وَأَبْقِ على مساحة كل واحدة منهما بحجمها الحقيقي الذي قدمه القرآن. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *