بسم الله الرحمن الرحيم
تدبُّر في سورة الرعد (الحلقة الرابعة)
ولا زلنا في تدبُّرنا لسورة الرعد الكريمة، تلك السورة التي جاءت في محورها بسنة التغيير الماضية في الأفراد والجماعات والأمم وقواعد ذلك التغيير. وقلنا إن هذه السورة المكية العظيمة قد نزلت على النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قبيل فترة الهجرة الشريفة، فكانت بمثابة المرحلة الإعدادية للتغيير، للتغيير العظيم الذي سيطرأ على مسار الدعوة، دعوة الإسلام، وعلى مسار المسلمين، وعلى مسار التاريخ.
هذا التغيير لا بدَّ له من قواعد يستكملها الفرد في ذاته ونفسه أولًا، الفرد الذي هو عنصر التغيير الإيجابي نحو الأفضل، ثم بعد أن يستكمل ذلك الفرد هذه القواعد ستنعكس تلك القواعد على المجتمع الذي يعيش فيه، وعلى الواقع الإنساني الذي هو جزء منه، فإذا بذلك الواقع يتغيَّر نحو الأفضل .قد ذكرنا أن السورة الكريمة توصلت إلى هذه الغاية بآيات متنوعة ما بين تلك الدعوة المتواصلة للتأمل في الكون، والتدبر في آياته المبثوثة، ذلك التدبُّر الذي يهز وجدان الإنسان، وينفض عن تلك الفطرة ذلك الغبار الذي يعلق بها بحكم الاعتياد وألفة الأشياء.
ثم تنتقل الآيات من الآيات الكونية إلى الآيات في التاريخ وفي حياة الأمم، حياة الشعوب، وفي عمق ذاكرة التاريخ لتدعو الإنسان للتبصر في حياة الأمم التي سبقت، أحوال الأمم السابقة وكيفية تعاملها مع واقعها الإنساني. ثم إن السورة الكريمة بعد ذلك جاءت في آيات تتحدث عن النفس البشرية في ذاتها وفي عمقها فيما تخفيه في صدرها. النفس البشرية لها خواطر ولها أفكار ولها مشاعر ولها عواطف، وإذا بتلك الآيات العظيمة في سورة الرعد الكريمة تنفذ إلى تلك الصدور لتضعها أمام حقيقة واقعة يغفل عنها الكثيرون.
إن كلّ ما في ذلك الصدر من خفايا لا يخفى على الله سبحانه وتعالى منها شيء، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡكَبِيرُ ٱلۡمُتَعَالِ، سَوَآءٌ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۢ بِٱلَّيۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ﴾الآيتان 9-10. ربِّي عزَّ وجلَّ يؤسس لذلك التوحيد ويجدِّده في نفس الإنسان من خلال هذه الآية البينة العظيمة، إن السرَّ عند الله سبحانه وتعالى علانية: ﴿سَوَآءٌ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ﴾ من الآية 10 فإذا كان السر والعلانية عنده سواء، فكيف يكون الإنسان في تعامله مع سرِّه؟
إن أعظم قاعدة من قواعد التغيير الإيجابي في حياة الفرد والمجتمع أن ينتبه الإنسان لسره، ذلك أن السرَّ محطُّ نظر الله جلَّ وعلا، كلنا يهتم بالعلانية، كلنا يهتم بمظهره وشكله الخارجي، لأن ذلك المظهر الخارجي محطُّ أنظار البشر من حولنا، محطُّ أنظار الناس. ولكن القرآن العظيم يلفت أنظارنا إلى شيء آخر، إنما عليك بالدرجة الأولى الاهتمام بالسر، نقِّ ذلك السر من الشوائب، ولذلك قال بعض العلماء: (إن صحت النوايا أتت العطايا) ستأتي العطايا من الله عالم السر والخفايا.
النوايا التي تخفى على كلّ أحد، ولكنها لا تخفى على الله سبحانه وتعالى. فالإنسان قد يكون له ظاهر عمل يبدو عليه الصلاح، ويريد به فائدة الناس، والتقرب به إلى الله، ولكن كلّ هذا يبقى مجرد ادعاء إذا لم يرتبط بنية خالصة صادقه هي بين العبد وربه. وهي ما يعوَّل عليه في العمل وقبوله، ولذلك جاء في تصحيح السر قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿سَوَآءٌ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۢ بِٱلَّيۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ﴾ الآية 10 الناس في شؤونهم قد يتخفون فمن الناس من يقوم بالعمل في جنح الظلام حتى لا يراه أحد، يقول الله سبحانه وتعالى:﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ﴾من الآية 108/ سورة النساء، ولكن الله عزَّ وجلَّ بعلمه المحيط قد أحاط بكل شيء، أحاط بأعمالنا سواء منها ما كان في السر أو العلن، أو ما كان في الليل أو النهار، من سار في طريقه بالنهار أيَّ طريق يختاره، ومن استخفى في الليل ، كلّ شيء عنده سبحانه وتعالى معلوم مكشوف، فعليك أيها الإنسان أن تصحح تلك الأعمال، وأن تتيقن وأن يستقر في قلبك أن الله عزَّ وجلَّ مطَّلع على كلّ ما تقوله وتفعله بل حتى على خواطرك، فعليك بالتنقية وعليك بالتصحيح، وعليك بالارتقاء بسرِّك ليوم تبلى فيه السرائر.
إذن أعظم عنصر من عناصر التغيير في المجتمع أن يهتم الإنسان بسرِّه، وأن يلقى ذلك السر كلّ الاهتمام والعناية من التنقية والتصفية. فلا يُراد به إلا وجه الله سبحانه وتعالى. الناس يطالبون بالتغيير، تغيير في شؤون حياتهم تحت مسميات كثيرة. وهنا يأتي دور تصحيح النية في داخل ذلك الإنسان، لماذا تريد أن تغيِّر في واقعك؟ ألأجل مكسب ماديٍّ؟ ألأجل مطلب دنيويٍّ قريب؟ ألأجل مال؟ ألأجل منصب؟ ألأجل شهرة؟ لماذا؟ راقب نيتك. النية في حياة الإنسان وفي أعماله وفي توجهاته هي العمود الفقري: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ آية 162 / سورة الأنعام
هذا التلخيص هو ما تقف عليه سورة الرعد الكريمة في هذه الآيات العظيمة. يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٌ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ﴾من الآية 11 سبحان الله، ربِّي عزَّ وجلَّ جعل علينا ملائكة من أمره، حفظة، معقِّبات، يتعاقبون علينا بالليل والنهار يحصون علينا أعمالنا، وفي ذات الوقت يحفظون الإنسان في نومه، في ليله، في صحوه، في سفره، وفي حضرته ويقظته ؛ ولذلك أنت ترى أننا نسير بحفظ الله عزَّ وجلَّ، كلّ ما فينا من أجهزة وأعضاء هي بحفظه، حفظ الله سبحانه وتعالى، وفي نفس الوقت الملائكة يحفظونه من أمر الله، ويحفظون ما يقوم به؛ ولذلك كان قوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِن كلُّ نَفۡسٍ لَّمَّا عَلَيۡهَا حَافِظٌ﴾الآية 4 / سورة الطارق.
فطالما أن علينا حفظة كرام بررة يكتبون ما نقول، ويحصون علينا ما نعمل، فتدبروا في الربط ما بين الآية التي سبقت ﴿سَوَآءٌ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ﴾من الآية 10 وبين الآية التي تلتها ﴿لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٌ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ﴾من الآية 11 إذن أعمالنا، أقوالنا نحن محاسبون عليها، لماذا هذا النوع من المراقبة؟ لأجل أن يأتي سبحانه بالآية الصريحة التي تشكِّل محور هذه السورة الكريمة العظيمة وعمودها ومقصدها الأساس، يقول الله سبحانه وتعالى﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يغيِّر مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يغيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾ من الآية 11
تدبَّروا معي كيف أن الله جلَّ وعلا مهد لذلك القانون، وهذه قاعدة عظيمة، سنَّة من سنن التغيير الجارية، كلّ شيء من حولنا يتغيَّر، ولكن لكي يكون لك مقصد فردًا ومجتمعًا وأمة وشعبًا في مسار هذا التغيير الإيجابي نحو الأفضل، تحتاج أن تفهم القاعدة، تحتاج أن تفهم السنَّة الماضية التي جاءت في كتاب الله العزيز ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يغيِّر مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يغيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾ من الآية 11
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية التي قبلها أن تغيير ما في النفس من السرِّ، وتنقيته من الشوائب، وتخليصه من الشرك، ومراقبة الله عزَّ وجلَّ والاستشعار والاستحضار لتلك المراقبة هو الذي يدعو الإنسان للتغيير: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يغيِّر مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يغيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾ والقاعدة عامة، لا يغيِّر الله سبحانه وتعالى ما بك من نعمة إلا إذا تغيَّر ما بنفسك من استهانة بتلك النعم فيتغير الحال. يقول سبحانه وتعالى:﴿لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ﴾ من الآية 7 / سورة إبراهيم
ضرب الله عزَّ وجلَّ لنا في آيات عظيمة في كتابه الكريم أمثلة لأقوام أنكروا النعم، والكلام موجَّه كذلك بالدرجة الأولى لقريش، قبيلة قريش التي قال الله سبحانه وتعالى عنها في سورة كاملة: ﴿لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ ، إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ ، فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ ، ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۢ ﴾الآيات 1-4 سورة قريش
فإذًا السورة فيها عدة مقاصد جمعتها وحوتها في ذلك المقصد العظيم. ومنها أن يا قريش ربِّي سبحانه وتعالى أطعمكم من جوع، وآمنكم من خوف، وجعل في أرضكم أمِّ القرى ذلك البيت العظيم الذي يؤمُّه الناس من كلّ مكان، هذه نعمة وأي نعمة، وربِّي عزَّ وجلَّ في تلك السنَّة العظيمة سنَّة التغيير لن يغيِّر هذه النعمة إلا إذا تغيَّر شيء في نفوسكم، هذه نعمة أنعمها الله عزَّ وجلَّ عليكم على غير فضل سابق منكم، فإذا ما تغيَّر ذلك الإنسان على تلك النعمة بالجحود والكفر والعصيان، وأنكر فضل الله عليه ونعمته سبحانه وتعالى، ستنقلب تلك النعمة إلى نقمة.
لذلك هنالك العديد من القرى كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كلّ مكان، ولكنها كفرت بأنعم الله سبحانه وتعالى، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، لماذا هذا التغيير؟ هنالك شرط، ما هو هذا الشرط؟ ما في نفسك وما في واقعك، أخلاقياتك، تعاملك وسلوكك، هذا كله تابع ل(حتى يغيِّروا ما بأنفسهم﴾. تدبَّروا معي في هذا المعنى العظيم، وفي ذات الوقت إذا كان واقع الفرد والمجتمع والشعب وواقع الأمة واقعًا بئيسًا، كلُّه بؤس، فقر، شقاء، أمية وجهل وتخلف، هذا الواقع لا يمكن أن يتغيَّر من تلقاء نفسه، لا بدَّ أن تغيِّر ما بنفسك أولا، لا بدَّ أن تغيِّر الكسل والخنوع والخضوع إلى عزيمة وإرادة؛ عزيمة على التغيير، وقوة إرادة. لا بدَّ أن تنفض عنك داء الجهل والتخلف والاستسلام للواقع البئيس والمرير الذي لا يليق بالحياة الإنسانية، واقع الجهل والفقر والأمية والمرض، وإلى ما ذلك من السير في آخر الركب. هذا واقع مرير، كيف تغيِّره؟ غيروا ما بأنفسكم: ﴿حَتَّىٰ يغيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾ من الآية 11.
تخليص التوحيد لله عزَّ وجلَّ، العزيمة الصادقة والصدق والإرادة في التغيير الإيجابي للواقع، العزيمة التي تبتغي التغيير ليس لأجل هدف دنيويٍّ قريب، ومكاسب سريعة عاجلة، ومصالح شخصية دنيوية بقدر ما هي تريد ذلك التغيير لتحقيق ذلك النفع، لتحقيق أمر الله سبحانه وتعالى والانقياد له، فهو الذي أمر بالإصلاح ونهى عن الفساد. أمر بإصلاح الحياة بكل روافدها، بكل أبوابها ومناحيها: زراعة، صناعة، تعليم، صحة، كلّ أشكال الحياة الإنسانية والواقع الإنساني. فالله عزَّ وجلَّ استعمر الإنسان في الأرض.
إذن: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يغيِّر مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يغيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٍ سُوٓءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ﴾ من الآية 11 وتدبَّروا معي في هذه الكلمة في آية واحدة، لماذا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٍ سُوٓءًا﴾ ؟ لماذا لم يأت بالحديث عن النعم؟ إن الآية الكريمة فيها شيء من الإشارة والتأكيد على أن الإنسان الذي يخضع لواقع سيِّئ بئيس عليه أن يدرك أن هذا الواقع السيِّئ سينقلب عليه. إن الله سبحانه وتعالى لا يرضى الواقع المرير لعباده، ولذلك قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٍ سُوٓءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥ﴾ من الآية 11 ولماذا هنا ربِّي سبحانه وتعالى أراد بهم سوءًا؟ لأنهم لم يغيِّروا ما بأنفسهم، فالله عزَّ وجلَّ من رحمته وحكمته جعل الواقع الإنساني نتاجًا للفعل الإنساني. بإرادته هو سبحانه وتعالى وبحكمته سبحانه وبإعطائه الإنسان حرية الاختيار، حرية القرار، قرارك بيدك، قرارك المصيري بيدك أنت بإرادة الله، الله عزَّ وجلَّ أعطاك تلك الإرادة وأعطاك ذلك الاختيار. لماذا؟ لأجل أن تتغير، فإذا خضعت لذلك الواقع المرير ولم تغيِّر فيه شيئًا، واستكنت لذلك الواقع ورضيت به، وأخلدت إلى الأرض وإلى مطالبها العاجلة، وبكل ما فيها من تبعات، فكان الفقر وكان الجوع وكانت التبعية وكان وكان من الأمراض الناجمة عن الفساد، فماذا تتوقع؟ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٍ سُوٓءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ﴾ من الآية 11 لن يرد ذلك السوء شيءٌ إلا شيئًا واحدًا، إرادتك أنت في تغيير ذلك السوء، تدبَّروا معي في هذا المعنى العظيم.
الشيء الذي يوقف السوء والتردي والانحراف والانحدار والانحطاط والخنوع والخضوع لا يمكن أن يكون إلا من داخل نفسك، إرادتك، الإرادة التي تبتغي أن توقف ذلك الفساد وذلك الانحدار. ولذلك ما تمر به بعض المجتمعات المسلمة، والغالب عليها من انحدار ومن أمية ومن ارتفاع في مستويات التخلف وعدم التحضر، والسير في ذيل الأمم المتقدمة، هذا واقع مرير لا يمكن أن يتغيَّر، فلا مردَّ له ولا شيء يمكن أن يوقف ذلك الواقع المرير إلا شيئًا واحدًا هو أن يتحرك الأفراد وتتحرك الشعوب والأمم من أجل أن يغيِّروا ذلك الواقع المرير بإرادة وعزيمة قوية تبتغي الإصلاح وإيقاف الفساد، تبتغي ترك الخنوع والخضوع للأمية والفقر والأمراض بأنواعها النفسية والعضوية والفكرية والعلمية والعملية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بدون تلك الإرادة لن يوقف شيء ذلك السوء الواقع. هو قانون واضح وصريح جاءت به هذه السورة الكريمة العظيمة.
ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ﴾من الآية 11 لا تدعْ أحدًا غير الله سبحانه وتعالى يتولى شؤونك، لأنك مهما توليت من البشر أولياء من دون الله عزَّ وجلَّ، سيكونون لك أصنامًا، كما في قصة قريش، وكفار قريش، أو ما شئت من أولياء، أو من دول عظمى أو كبرى أو صغرى أو ما شئت من تلك القوى المعروفة التي عرفتها الشعوب وعرفتها الدول والمجتمعات عبر التاريخ. واقع الأمر أنه ما لك من دون الله عزَّ وجلَّ من والٍ. ربِّي سبحانه وتعالى فقط هو من يتولَّى شؤون عباده، فإذا ما توليت أحدًا من الخلق من دونه فالنتيجة خسارة بكل تأكيد.
إن القضية محسوبة وفق القوانين والسنن الجارية في الكون والأمم والمجتمعات، ولذلك ربِّي عزَّ وجلَّ جاء بعدها مباشرة بآية كونية ظاهرة في الطبيعة فقال: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ ، وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ مِنۡ خِيفَتِهِۦ وَيُرۡسِلُ ٱلصَّوَٰعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمۡ يُجَٰدِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلۡمِحَالِ﴾ الآيتان 12-13 والسؤال الذي يطرح نفسه هنا وفي صلب الحديث عن التغيير، وسنة التغيير في المجتمعات لم تأتيني الآية لتحدثني عن البرق والرعد، ظاهرة طبيعية لا تحدث كلّ يوم، قد تحدث أحيانًا فنراها؟ ربِّي عزَّ وجلَّ في صلب الحديث عن سنَّة التغيير في الأفراد والمجتمعات والأمم يبصرنا بقدرته سبحانه وتعالى، وآخر الآية الكريمة السابقة: ﴿ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ﴾ من الآية 11
وتأتي هذه الآيات العجيبة: البرق والرعد، آيات عظيمة، ولذلك قال تعالى في الآية الشريفة: ﴿ وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ مِنۡ خِيفَتِهِۦ وَيُرۡسِلُ ٱلصَّوَٰعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمۡ يُجَٰدِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلۡمِحَالِ﴾ كائنًا من كان، من يتولى شؤون حياتك وإدارة حياتك ومعاملاتك وشؤونك المختلفة، كائنًا من كان، هل يستطيع أن يقف أمام أيٍّ من هذه الظواهر التي يؤكدها القرآن العظيم؟ وأبسط مثال لها الرعد، ربي عزَّ وجلَّ حين يرسل الصواعق من يوقفها؟ من يوقف ما يرسل الله سبحانه وتعالى؟ ومن يستطيع أن يمضيه سواه جلَّ شأنه، تدبَّروا معي في هذه الظواهر العظيمة، وكلنا يعلم أن الأعاصير التي تحدث في بعض الدول والبراكين والفيضانات، لا أحد يوقفها سوى الله عزَّ وجلَّ. أعاصير تحدث في أكثر الدول والشعوب تطورًا وتقدمًا وكلّ الأجهزة لديهم، وكلّ أجهزة الإنذار المبكر لديهم، ولكنها لا تستطيع أن توقف تلك الأعاصير، تأتي الصاعقة فتضرب ما تشاء من مبانٍ عالية شاهقة بناها وشيدها الإنسان الذي يغترُّ بقوته ويعتقد أنه يستطيع أن يركن إلى تلك القوة من دون الله سبحانه وتعالى.
من الذي تهزه هذه الآيات؟ تهز الإنسان الغافل، الإنسان الذي يعتقد ويغتر ويتصور ويتوهم أن هنالك من يمتلك القوة من دون الله عزَّ وجلَّ، فتأتي هذه الظواهر الطبيعية لتعيد الأمور إلى نصابها لتذكره وتبصره وتعيده إلى خالقه العليِّ القدير ليتدبر تمامًا، ويدرك أن الذي يستحق أن يدبر شؤون حياته هو الله جلَّ جلاله وحده لا شريك له. وأن العبيد والخلق مهما بلغوا من القوة فهي قوَّة واهمة لا تعد شيئًا في جنب قوَّة الله عزَّ وجلَّ، ولذلك جاء بهذه الظواهر الطبيعية التي سميت السورة باسمها، سورة الرعد. آيات كونية، من صنعها؟ أفيقوا يا أيها الذين يتخذون من دون الله عزَّ وجلَّ أندادًا؟ اعتبروا يا أيها الذين يتخذون من دون الله سبحانه وتعالى أولياء؟ أجيبوا بعقلانية: من صنعها؟ من جاء بها؟ من يستطيع أن يوقفها؟ من يستطيع أن يوقف تلك الصواعق حين يرسلها الله عزَّ وجلَّ؟ من؟
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ﴾ من الآية 14 . دعوة القرآن العظيم، دعوة التوحيد حق، لا جدال فيها، تدبَّروا معي، سورة الرعد الكريمة ذكرت الحق والباطل في أكثر من موضع فيها .قضية في غاية الأهمية، قضية لا تنفك عن سنَّة التغيير، لم التغيير؟ يجب على الإنسان أن يغيِّر؟ يغيِّر لأجل أن يحقَّ حقًّا، يحمي الحق، يدافع عنه، يرسيه ويقيم قواعده، ويوقف الظلم والباطل والعدوان الذي لا يرضى به الله سبحانه وتعالى.
يقول الله جلَّ جلاله: ﴿ لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيۡءٍ﴾ من الآية 14 تدبَّروا معي، ذكرنا أن كلّ آيات كتاب الله عزَّ وجلَّ مرتبطة بعضها ببعض، وأن ذكر الربط يرتبط بمقصود السورة أو عمودها كما يطلق عليه بعض العلماء، وقبل قليل جاءت الآيات تكلمنا عن الرعد والبرق والصواعق وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ﴾ من الآية 11 والآن تأتي الآية الكريمة فتقول:﴿ لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ﴿ و ﴿وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ﴾ بكل أشكالهم وصورهم، كلّ من يدعو أحدًا أو شيئًا أو مخلوقًا من دون الله سبحانه وتعالى لا يستجيبون لهم بشيء.
هذا واقع، وهذه حقيقة لا يبصرها إلا الإنسان الذي يرى النور الحقيقي، الإنسان الذي يرى الحق، البصير، وسيأتي قول الله سبحانه وتعالى:﴿هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ﴾ من الآية 16كما لا تستوي الظلمات والنور، شتان، من الذي يفرق بينهما؟ صاحب النور البصير يرى الحقائق كما هي. أما الأعمى الذي يسير في الظلمات فلا يرى الحقائق، يرى أشياء موهومة، يتخبط، فلا يرى أن كلّ من يدعو من دون الله سبحانه وتعالى لن يستجيب له بشيء إطلاقًا؟ والوعود والعهود والمواثيق والاتفاقيات، لا قيمة لها.
تدبَّروا معي، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿لَا يَسۡتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيۡءٍ إِلَّا كَبَٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٍ﴾ من الآية 14 تدبَّروا معي في هذا المثل العظيم، هذه السورة الكريمة حوت العديد من الأمثلة لتقرِّب للإنسان العاقل الحقائق ولتوقظه، سورة الرعد الشريفة من أعظم سور القرآن الكريم التي جاءت لتهز الوجدان الإنساني، وتحرك المشاعر والعواطف، تحرِّك النفوس التي تبلد فيها الإحساس. يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ كَبَٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ فَاهُ ﴾ إنسان يريد أن يشرب، هو بحاجة إلى الماء، فعوضًا عن أن يضم كفيه، فإذا هو يبسطهما ويضعهما في الماء! كيف سيبلغ ذلك الماء فاه؟؟ كيف سينتفع به، كيف؟؟ مستحيل: ﴿ كَبَٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَٰلِغِهِۦ﴾ من الآية 14، ولو رفع كفيه ألف مرة لن يصل إليه شيء من الماء الذي يحتاج إليه، لماذا؟ لأن طريقة بسطه لكفيه طريقة غير صحيحة، تدبَّروا معي في الربط، سنَّة التغيير لن نصل إليها، ولن أتغير أبدًا تغيرًا إيجابيًّا إلا إذا استكملت شروط التغيير، قواعد التغيير، نواميس التغيير الإيجابي. هذا الإنسان يريد أن يشرب والماء بين يديه، ولكن أين الخطأ الذي ارتكبه ولم يحصل على ما يريد؟ ﴿ كَبَٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ فَاهُ﴾ من الآية 14 المفروض أن يضم كفيه، فإذا ما ضمهما بقي فيهما الماء، قانون طبيعي معروف، يعرفه الإنسان.
إن هؤلاء الذين يدعون من دون الله كمن يبسط كفيه إلى الماء، لن يبلغ فاه، هو يريد معونة، يريد مساعدة، لماذا يتولى الإنسان أحدًا؟ حين يشعر بالضعف يتولى من هو أقوى منه لأجل أن يصبح له وليًّا معينًا، لأجل أن يسدده، لأجل أن يقوي جوانب الضعف فيه، يستقوي به، ولكن الخطأ أن يركن الضعيف إلى ضعيف مثله، أو حتى أضعف منه. تدبَّروا معي في هذه الآية العظيمة.
خطأ فادح أن يركن المخلوق إلى الخلق، وأن يركن العبد إلى العبيد، لماذا؟ لأن العبد يجب ألا يركن إلى عبيد مثله، المفروض أن يركن إلى سيِّد، والضعيف المفروض أن يركن إلى قوي، والمملوك أن يركن إلى مالك، والفقير يركن إلى غني. وكلنا مهما اختلفت وتباينت فينا مظاهر القوة الوهمية المزعومة ففي نهاية الأمر نحن عبيد، عبيد له سبحانه وتعالى، فقراء إلى رحمته وعطائه، محتاجون إلى قوته، فنحن ضعفاء وهو القوي.
يقول ربنا عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا دُعَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٍ﴾ من الآية 14 قد يدعو الكافر ويلح بالدعاء ولكن ما الفائدة؟ دعاؤه في ضلال، في تخبط، لا يدعو أبدًا الجهة الصحيحة، وأين الوجهة الصحيحة؟ لمن يتجه الإنسان في دعائه؟ من هو الذي ينبغي أن يُدعَى؟ من هو الذي ينبغي أن نتوجه إليه بالدعاء؟ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ من الآية 15 تدبَّروا معي في ذلك الربط العظيم في هذه السورة الكريمة ربط واضح يوقظ النفس، ويجعل هذه الآيات العظيمة تنزل على القلب فتنقي فيه التوحيد، وتجعل القلب يسجد قبل الجباه خضوعًا وانقيادًا واستسلامًا لأمر الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعًا وَكَرۡهًا وَظِلَٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ﴾ الآية 15 إذن قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا دُعَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٍ﴾ من الآية 14 وقال:﴿ وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ دعاء الكافرين وتوجهاتهم في ضلال، إذًا أين الهدى؟ أن يسجد الإنسان لله عزَّ وجلَّ ﴿ وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ من الآية 15 ولا يملك الإنسان العاقل الذي استيقظ من بعد غفلة، الذي أبصر من بعد عمًى إلا أن يسجد لله سبحانه وتعالى استسلامًا، انقيادًا، خضوعًا، حين يستشعر عظمة الله سبحانه وتعالى، حين يستحضر قوَّة الله عزَّ وجلَّ أمام ضعف كلّ المخلوقات وكلّ الأولياء، فتتساقط تلك المسميات وتلك الصور ويتساقط كلّ أولئك الأقزام من حوله ويعود إلى فطرته السليمة، فيسجد خضوعًا لخالقه مدركًا متيقنًا أن لا قويَّ على وجه الحقيقة إلا الله عزَّ وجلَّ، وأن لا وليَّ على وجه الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى.
قال جلَّ جلاله: ﴿وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعًا وَكَرۡهًا﴾ من الآية 15 حتى الكافر يسجد كرهًا، أعضاؤه تسجد لخالقها، هو لا يملك شيئًا، هو لا يملك أي نقطة من نقاط التحكم في أعضائه التي في جسده، جسده هذا الذي يحمله هنا وهناك ويتنقل به، هو لا يملك سيطرة عليه، ولا حتى على قلبه الذي ينبض، ولا على رئته التي تستنشق الهواء، ولا على دمه ولا نفسه ولا على قدميه، ولذلك يصاب بالشلل، ويصاب بالكسور ويصاب بالجلطة والسكتة وبكل ما يمكن أن يصاب به العبد الضعيف. حينها تنكسر تلك الإرادة الموهومة المزعومة، وتنجلي تلك الغشاوة عن عينيه فيدرك أنه ضعيف.
الكل يسجد لرب العالمين بما فيهم الحيوان والكافر والملحد، سبحان الله العظيم ﴿ طَوۡعًا وَكَرۡهًا﴾ الكل يسجد لله رب العالمين سبحانه وتعالى، ولكن سورة الرعد العظيمة تريد أن تبني الإنسان الذي يسجد طواعية لله عزَّ وجلَّ، سجدة يؤمن بها أن الله سبحانه وتعالى هو خالقه وولي أمره، وأن لا ولي له ولا خالق إلا الله جلَّ جلاله، سجدة عظيمة، سجدة تعيده إلى خالقه، تعيده إلى توحيده النقي، تنقي فيه التوحيد .وتدبَّروا في الآية الكريمة: ﴿وَظِلَٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ﴾ من الآية 15 تقلب الليل والنهار على المؤمن، وتعاقبهما بالشروق والغروب يذكِّره بخالقه، يعيده إلى خالقه فيسجد خضوعًا واستسلامًا، كما أن ذلك الكون من حوله يخضع لأمر الله سبحانه وتعالى. وكلّ شيء يسجد له، ويستسلم لأمره ولا تتحرك شمس ولا قمر إلا بأمره. كلّ شيء يجري لأجل مسمى لخالقه الذي أمر، يقابله في نفس الوقت ذلك الإنسان الذي يرى تلك الآيات من حوله فيسجد خضوعًا وانقيادًا لأمر الله في واقعه الإنساني.
قلبك يسجد انكسارًا وإخباتًا وانقيادًا واستسلامًا لأمره ونهيه سبحانه وتعالى، وفي واقع حياتك يأمرك فتأتمر، وينهاك فتنتهي، هذا الذي تؤسِّسه سورة الرعد العظيمة. وهنا تأتي هذه الآية العظيمة، آية تهز القلب: ﴿قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ ﴾من الآية 16 تتضمن سؤالًا استنكاريًّا، تستنكر على الإنسان كفره وجحوده ومجادلته في الله سبحانه وتعالى ومحاجَّته في الله عزَّ وجلَّ: ﴿ قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ من رب السماوات والأرض بعد كلّ هذا؟ ﴿ قُلِ ٱللَّهُۚ﴾ ويقول سبحانه وتعالى: ﴿قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ لَا يَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعًا وَلَا ضَرًّاۚ ﴾من الآية 16 حتى يستشعر الإنسان حجم الكفر والغلو والمعصية والعدوان الذي يقع فيه حين يتخذ من دون الله أولياء. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ﴾ كيف تتخذون من دون الله أولياء وهو رب السماوات والأرض صاحب القوة، صاحب الملك والملكوت، الذي له الأمر من قبل ومن بعد، الذي تخضع له في كلّ أبجديات حياتك، في سكناتك وفي أنفاسك تخضع له في نبضات قلبك؟ كيف تخضع لغيره في أمره ونهيه وتتخذ من دونه أولياء؟ يا للعجب !!!!
تدبَّروا معي كيف يوقظ القرآن العظيم، كتاب الله العزيز الحكيم، الإنسان من غفوته وغفلته، يستفيق إذا كان الإنسان في غفلة، ونتيجة لتلك الغفلة والخضوع لأولياء من دون الله، فقد جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى: ﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ﴾ من الآية 41 / سورة الروم.
فسد الواقع الإنساني فشاع فيه الجهل والظلم والفساد والعدوان والحرام وأكل أموال الناس بالباطل، والاعتداء على حريات الآخرين والخوف وعدم الأمن، لماذا؟ هذه كلها مظاهر وأعراض لأمراض، أين المرض؟ أين الداء الحقيقي؟ ضع يدك على الداء الحقيقي.
هكذا القرآن العظيم يبصرنا أين موقع الداء؟ موقع الداء أن تتخذ أحدًا من دون الله سبحانه وتعالى يتولى شؤون حياتك. ما المطلوب؟ أن يتولى الله عزَّ وجلَّ وحده أمورك، يتولى الله سبحانه وتعالى تسيير حياتك ومعاشك أمرًا ونهيًا وإباحة وتحريمًا وتحليلًا، لا ينبغي أن يملكها إلا الله جلَّ جلاله، فإذا ما تحقق ذلك، تغيَّر واقعك الذي تعيشه، الواقع الذي تعيشه لو كان يجري فيه أمر الله سبحانه وتعالى نهيًا وأمرًا وحلالًا وحرامًا وامتثلت لأمره لا يمكن أبدًا أن يشيع فيه فساد، كان سيمشي كما يمشي هذا الكون الذي تراه من حولك منضبطًا، هل ترى فيه من قصور؟ هل ترى فيه من فطور؟ والإجابة في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة الملك ﴿ ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ الآية 4
هل ترى في السماء تصدعات، هل ترى في الشمس والقمر وفي سيرهما أيَّ نوع من أنواع الاعوجاج؟ أي نوع من أنواع الفساد؟ لا. لماذا؟ لأنها تسير بأمر الله جلَّ جلاله لا خيار لها. إذن انظر إلى نفسك: ﴿وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ﴾الآية 21 / سورة الذاريات. هذه الأجهزة التي في داخلك تعمل ليل نهار دون انقطاع، هل فيها شيء من الخراب، أو عدم الانتظام؟ لا. إن عدم الانتظام يأتي من قبيل البشر، وكذلك الإفساد الواقع في حياتنا. أما هي فتسير بأمر الله سبحانه وتعالى.
إذن الواقع الإنساني لذلك الفرد وواقعه المجتمعي لو سار وفق أمر الله سبحانه وتعالى لكان في دقته وسيرورته واستقامته وصلاحه كذلك الكون العظيم الذي من حولنا لا فساد ولا انحراف فيه، من أين يأتي الفساد؟ يأتي من الانتكاس عن تلك القاعدة العظيمة، سنَّة الله عزَّ وجلَّ وهي ماضية. فأنت حين تتخذ وليًا يتولى أمور حياتك من دون الله سبحانه وتعالى، وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا ماذا تتوقع أن يحدث في واقعك؟ مزيد من الانتكاسات، مزيد من الانحدارات ومزيد من التردِّي، ومزيد من الانهيارات، ومزيد من المرض ومزيد من الجوع ومن الخوف ومن الحرب ومن الدمار ومن الفساد.
تدبَّروا معي في هذه الآيات العظيمة، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ﴾ من الآية 16 من هو الأعمى؟ هو الذي لا يرى هذه الحقائق. هل تولي شؤون جسدك لأحد من البشر؟ هل تقبل بذلك ممن تتولاهم في شؤون حياتك الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها؟ هل تولي منهم أحدًا على شؤون جسدك؟ أكيد لا. فكيف تقبل إذًا أن تولي شؤون حياتك الأخرى البشر؟ تدبَّروا معي، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ﴾ من الأعمى؟ هو الذي لا يرى أن الذي يستحق الولاية هو الله جلَّ جلاله ولا شريك له سبحانه وتعالى فاطر السماوات والأرض. تدبَّروا معي في هذا المعنى العظيم.
من هو البصير؟ هو الذي أبصر هذه الحقيقة، فيتولى الله عزَّ وجلَّ شؤون حياته، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ ﴾ من الآية 257 / سورة البقرة، لا مخرج لك من الظلمات، ظلمات الواقع الإنساني المعاش، من الجهل والبؤس والفقر والدمار والحروب، إلا حين يخرجك الله سبحانه وتعالى بإذنه، ومتى يخرجك؟ حين تتخذه وليًّا. ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ من الآية 257 / سورة البقرة، اتخذه وليًّا، ودع عنك كلّ الأولياء الذين اتخذتهم من دونه سبحانه وتعالى، معنًى عظيم.
يقول الله جلَّ جلاله: ﴿أَمۡ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلۡقِهِۦ﴾ من الآية 16. سبحانه وتعالى، كلّ الشركاء الذين يتخذهم البشر عبر التاريخ، عبر مسار البشرية أصنام، أحجار، كواكب، نجوم، أشخاص، إلى آخره، هل خلقوا شيئًا؟ هل خلقوا سماءً؟ هل خلقوا أرضًا؟ هل خلقوا ماءً؟ ماذا خلقوا؟ فكيف يتشابه الخلق عليك، فتعتقد أن هنالك خالقًا من دون الله سبحانه وتعالى؟ تدبَّروا معي كيف ينقِّي الإسلام التوحيد، كيف ينقِّي القرآن التوحيد الخالص، كيف يستخرج ومن عمق الضلال، ومن عمق الغبش، ومن عمق ما أحاط به من أوهام في النفس البشرية، كيف يستخرج نقاء التوحيد، وكيف يرد الفطرة إلى خالقها بعد كلّ ما أصابها من ذلك العمى.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلِ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كلِّ شَيۡءٍ وَهُوَ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّٰرُ﴾من الآية 16 ، تدبَّروا معي،﴿ قُلِ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كلِّ شَيۡءٍ وَهُوَ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّٰرُ﴾ واحد -سبحانه وتعالى- واحد قهر عباده بكل ما خلق، سبحانه قهرهم بالموت، وقهرهم بقوته، فإذا كان هو الواحد القهار سبحانه وتعالى، فما الذي ينبغي له؟ ينبغي أن تكون له العبادة وحده، توحيد خالص، واتخاذه وليًّا دون سواه. تدبَّروا معي كيف يُسقط الله عزَّ وجلَّ في هذه الآيات الكريمات العظيمات كلّ ولاية لغيره، وكلّ ولاية من دونه، يستخرج التوحيد من النفس البشرية؛ لأن الأصل في الفطرة السليمة أن تكون على التوحيد وليس على الشرك، فمن أين يأتي الشرك؟ واتخاذ الأولياء؟ يأتي من تلك الظروف المحيطة بواقع الإنسان. هذه الظروف تغيِّر الفطرة السليمة، وتكسوها بشتى أنواع الأتربة والظلمات والغشاوات التي يأتي القرآن العظيم في هذه السورة العظيمة ليزيلها عن الفطرة البشرية، ويعود بها إلى خالقها جلَّ وعلا الواحد القهار.