بسم الله الرحمن الرحيم
تدبُّر في سورة الرعد (الحلقة الخامسة)
ولا زلنا في تدبُّرنا لسورة الرعد الكريمة ووصلنا في آياتها إلى تلك الآية العظيمة التي تخلِّص التوحيد مما علق به من شوائب، كأن يكون للإنسان وليٌّ من دون الله عزَّ وجلَّ. تلك الآية هي﴿قُلِ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كلِّ شَيۡءٍ وَهُوَ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّٰرُ﴾ من الآية 16 وهذه حقيقة ينطق بها كلّ شيء من حولنا في هذا الكون، بل كلّ شيء في داخلنا وفي أنفسنا ينطق بها. ربِّي سبحانه وتعالى ينقل بعدها الإنسان ليوقظه من جديد مرة أخرى، وتهتز تلك الفطرة التي علاها ما علاها. ينقله مرة أخرى إلى ظاهرة طبيعية يراها الإنسان، يقول عزَّ وجلَّ: ﴿أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً﴾ من الآية 17 ظاهرة نراها دائمًا، من الذي ينزل الغيث من السماء؟ هل هنالك من أحد من كلّ من يتولاه البشر في حياته، كلّ من يتولاه مهما بلغت قوته، قادر على أن ينزل الماء من السماء؟ لا.
يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدًا رَّابِيًاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٍ زَبَدٌ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ﴾ من الآية 17 .مثال حيٌّ، وقد قلنا إن هذه السورة الكريمة تميزت بضرب الأمثال حتى تقرِّب المعنى، فالسورة بما حوته من هذه الأمثال تهز العواطف، وتهز الفطرة، وتوقظ الإنسان، فتنوعت فيها أساليب تقريب المعاني العظيمة التي حوتها. ماء السماء ينزل فيسيل في الأودية، وتسيل الأودية حاملة زبدًا رابيًا في مسار الماء، والزبد هو تلك الرغوة التي تعلو الماء من شدة جريانه، الماء يسيل في تلك الأودية، ولكن ما الذي يطفو على الماء؟ الزبد الرابي، الرغوة، التي هي في واقع الأمر مجرد فقاعة لا شيء فيها، فقاعة هواء. فبحركة الماء الجاري بشدة في تلك الأودية تتكون تلك الفقاعة، ولكن الذي يفعل فعله الحقيقي في الأرض وفي الواقع وفي الوادي هو الماء الرائق الصافي الذي نزل بقدرة الله سبحانه وتعالى من السماء.
فالماء يسيل، ولكن الذي يطفو على السطح هو ذلك الزبد، يسميه القرآن العظيم زبدًا، ويسميه كثير من الناس رغوة. ويقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٍ زَبَدٌ مِّثۡلُهُۥۚ﴾ من الآية 17 الناس يستفيدون من ذلك الماء الصافي الذي تغطى بالزبد، وأشكال الانتفاع به متنوعة ومتعددة. أيضا مما ينتفع به الناس وفيه متاع لهم، وفي استخراجه زبد أيضا هذه المعادن التي يستخرجها الإنسان من باطن الأرض مثل الذهب والفضة فيوقد عليها الإنسان النار لأجل أن تخلُص من الشوائب ويبقى المعدن الخالص. لذا كان لا بدَّ من تمرير هذه المعادن على النار، لتتخلَّص مما فيها من شوائب وتبقى المعادن الخالصة.
﴿كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ﴾ من الآية 17. هذا مثل من الأمثلة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءًۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ﴾ من الآية 17. ما العبرة من هذا المثل؟ لتبيين الحق والباطل. قلنا إن السورة ناقشت قضية التغيير لأجل إحقاق الحق. وسنة الله ماضية في الخلق وفي المجتمعات، فهنالك تدافع وصراع ونزاع بين الحق والباطل، ولكن ما النتيجة التي يبتغيها الإنسان ويريد أن يدركها في السنن، سنن الأفراد والمجتمعات والأمم وحياة الشعوب، النتيجة أن الزبد سيذهب جفاء، الزبد تلك الرغوة التي علت وطغت وطفت وغطت، تلك الفقاعة، هذا الزبد سيذهب وهكذا الباطل، قد يطول عمره، وقد يسير مسافات طويلة مع الماء، ويغطيه ويعلوه ويكسوه ولا يرى الناس الماء بل يرون الزبد فقط، ممكن جدًّا، ولكن واقع الأمر أن ذلك لن يغيِّر شيئًا من الحقيقة. أن الزبد سيذهب جفاء، وأن الذي سيمكث ويبقى في الأرض هو الخير، هو الماء، وهو الحق. الحق الذي لا يظهر أحيانًا نتيجة لكثرة ما انتفش من الزبد وعلاه. هذه طبيعة الباطل. الباطل ينتفش ولكنه فقاعة، والحق قد يغطَّى ويعلوه الباطل أحيانًا، فصوت الباطل قد يعلو أحيانًا، يضج ضجيجًا عاليًا مرتفعًا، ولكن هذا لا يعني أبدًا أنه أصبح كالحق، لا. الذي سيبقى هو الحق، والذي سيذهب هو الباطل.
يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءًۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ﴾ من الآية 17. تدبَّروا معي، بعض المفسِّرين والعلماء أوَّلوا الماء هنا بالقرآن العظيم الذي نزل على الواقع الإنساني، وعلى الواقع البشري كالماء الصافي، كالماء الصافي حين ينزل على الأرض وعلى الأودية فيسيل فيها ويحييها وينتفع به الناس، ولكن ما الذي حدث؟ أن أباطيل المبطلين ومنهم كفار قريش ومشركوها، وما أثاروه حول القرآن العظيم من افتراءات وأباطيل كاذبة ارتفع صوتها وعلا.
وقد قلنا إن هذه السورة الكريمة قد نزلت قبيل الهجرة الشريفة إلى المدينة المنورة. فبعد أكثر من عشر سنوات والنبي الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مكة يدعو ويجاهر بدعوته، ويواجه في دعوته ما يواجه، وقريش تكذب. أمعن النظر في التضليل وإبعاد الناس بالافتراء والتكذيب وزعم الأباطيل على هذا القرآن العظيم. فمرة يقولون على النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنه ساحر، ومرة يقولون إنه مجنون، ومرة يقولون إنه كاهن، ومرة يقولون إنه افترى القرآن، هذا زبد وسيذهب جفاء، ما الذي سيبقى؟ القرآن العظيم.
ونحن الآن وبعد كلّ هذه القرون التي مرت، مئات السنين، أين أباطيل المشركين؟ أين ادعاءاتهم؟ أين افتراءاتهم؟ أين ما قالوه؟ هل بقي منها شيء؟ أبدًا. ذهبت جفاء، ما الذي بقي؟ القرآن العظيم الحق. أين باطل المشركين وآلهتهم؟ ذهبت كلها جفاء، هي علت فترة من الزمن، علوًّا موهومًا علوًّا كاذبًا، فقاعة، لماذا سمح الله عزَّ وجلَّ بهذا؟ لأجل أن يختبر به عباده، وهو أعلم بهم، من يعرف الحق، ومن يعرف الباطل. وقد ضرب مثلًا في الآية التي سبقتها مثَل الأعمى والبصير. البصير يبصر هذه الحقيقة ويدرك تمامًا أن الزبد مهما علا فهو جفاء، ويدرك تمامًا أن الحق هو الذي سيبقى، ولكن الأعمى لا يدرك هذه الحقيقة، الأعمى لا يرى هذه الحقائق، الذي يسير في الظلمة، ظلمة الجهل والكذب والغرور لا يمكن أبدًا أن يرى هذه الحقائق.
ثم تدبَّروا معي في هذه الآيات العظيمة، يقول الله سبحانه وتعالى:﴿لِلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُۥ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعًا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡحِسَابِ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ﴾ الآية 18 نقلة سريعة جدًّا من الكلام عن الحق والباطل إلى الاستجابة في واقع الحياة، لماذا؟ لأن التغيير يحتاج إلى استجابة، استجابة عملية، لا يكفي أن تؤمن بالحق فقط، إيمان بدون عمل، لا يكفي. وتدبَّروا في الآية التي قبلها، قال سبحانه وتعالى: ﴿كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ﴾ من الآية 17. إذن ما المطلوب؟ أن تستجيب للحق، تستجيب له في واقعك الإنساني المعاش، في سلوكك، في كلّ تعاملاتك، في أسرتك وفي إحسانك، تدبَّروا معي قوله عزَّ وجلَّ: ﴿لِلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾ والفريق الآخر، الذين لم يستجيبوا، الفريق الأعمى: ﴿لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعًا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦٓۚ﴾ شيء طبيعي، فقد عاشوا حياتهم في غفلة. ويوم القيامة سيدركون الحق من الباطل، ولكن يومها لن ينفع الندم، مدة الاختبار محدودة، فإذا لم يدرك الإنسان الحقائق في فترة الاختبار ضاع الأمر وضاعت عليه حياته. يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡحِسَابِ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ﴾ .ولذلك جاء مرة أخرى بمثَل فقال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن ربِّك ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ الآية 19. وتدبَّروا معي في الربط بين هذه الآيات وبين أوائل هذه السورة الكريمة حين قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن ربِّك ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ الآية 1. والآية الكريمة هنا تقول﴿ أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن ربِّك ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ الآية 19.يتذكر أصحاب العقول، العقول السليمة التي تتفكر وتتدبر وتربط، ترى الآيات العظيمة في الكون وفي الظواهر الطبيعية فلا تمر عليها مرور الغافلين، ولكن تتحرك فيها دواعي الإيمان، فتنقي إيمانها وتوحيدها من كلّ شائبة، وتنطلق في ميادين الحياة عملًا وإحسانًا وعطاءً وفق الاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى، ولا تتخذ وليًّا من دونه عزَّ وجلَّ، ربِّي يتولاها ويتولى تصريف شؤون حياتها كلها.
ويقول الله جلَّ وعلا: ﴿ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ ٱلۡمِيثَٰقَ﴾ الآية 20 تدبَّروا معي، هذا الربط العظيم، أولو الألباب ليس مجرد أناس يقولون ويشهدون بشهادة لا إله إلا الله قولًا دون فعل. قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿يُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ﴾ أيُّ عهد؟ ﴿ وَإِذۡ أَخَذَ ربّك مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ ﴾ من الآية 172 /سورة الأعراف عهد بيننا وبين الله عزَّ وجلَّ أن نؤمن به وحده لا شريك له، ألا نتخذ من دونه وليًّا، ولا ينقضون الميثاق. هذا الميثاق يحتاج إلى وفاء به، يحتاج إلى التزام، يحتاج إلى إصلاح ويحتاج إلى ائتمار بأمر الله سبحانه وتعالى.
وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلۡحِسَابِ﴾ الآية 21 تدبَّروا معي في الآيات، يصلون كلّ ما أمر الله به من صلة رحم، ووفاء بالعهود، صدق مع الله سبحانه وتعالى، ووفاء لحقوق الله عزَّ وجلَّ، ووفاء لحقوق الوالدين، ووفاء بكل العهود. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف سيكون هذا الإنسان حين يوفي بكل هذه العهود والمواثيق في الواقع يا ترى؟ هل سيكون فاسدًا أم صالحًا؟ من أين يأتي الفساد؟ الفساد يأتي من نقض العهود والمواثيق، من الكذب ومن الافتراء ومن الباطل ومن عدم الصدق مع النفس ومع الآخرين.
تدبَّروا معي كيف يربط القرآن العظيم: ﴿وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلۡحِسَابِ﴾ الآية 21 وفي خشيتهم لربهم عزَّ وجلَّ تنقية للتوحيد، لماذا؟ لأن الإنسان قد تعترضه التحديات والعوائق حين يصل ما أمر الله به أن يوصل، فذلك المؤمن لا يخشى إلا الله سبحانه وتعالى، يخشون ربهم يعظِّمونه ويهابونه، ولا يخشون أحدًا غير الله جلَّ جلاله. تدبَّروا معي في هذه المعاني العظيمة، لأنها من التحديات. لماذا يكذب بعض الناس؟ لماذا لا يطبقون أمر الله في واقعهم؟ لماذا يرتشون؟ لماذا يفترون؟ كثير من الناس يفعلون ذلك لأنهم يخشون الناس، ولا يخشون الله عزَّ وجلَّ، أو يخشون الناس وخشيتهم منهم أكثر وأشد من خشيتهم من الله سبحانه وتعالى. فجاءت الآية لتصحح وتعيد الأمور إلى نصابها: ﴿وَيَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلۡحِسَابِ ﴾ من الآية 21.
ولكن الأمر لن يسير بدون صبر، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ﴾ الآية 22. تدبَّروا معي في القواعد، في سنن التغيير، إلامَ تحتاج؟ خشية من الله عزَّ وجلَّ وخوف من يوم الحساب، وصبر ابتغاء وجه ربهم، لماذا صبروا؟ لأن التغيير يحتاج إلى صبر وإخلاص، تغيير الواقع الفاسد يحتاج إلى صبر، تغيير نفسك وإخضاعها للطاعة وإبعادها عن المعصية وجعلها تنقاد لخالقها من جديد يحتاج إلى صبر على الطاعة وصبر عن المعصية. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ﴾ ماذا تحتاج أيضًا في مسيرة التغيير والإصلاح، ﴿وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ إقامة تامة بخشوعها، لماذا؟ لأن الصلاة زاد المؤمن في مسيرة التغيير ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ﴾من الآية 45 /سورة البقرة .
وتدبَّروا معي في الربط بين هذه الآيات العظيمة، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ من الآية 22 . وهذا مما يعينك على التغيير أن تنفق من مالك، تنفق من كلّ ما أعطاك الله سبحانه وتعالى، ومنَّ به عليك سرًّا وعلانية، وجاء بالسر قبل العلانية، لماذا؟ لتنقية السر والسريرة لدى المؤمن، السر الذي تكلمت عنه الآيات ﴿سَوَآءٌ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ﴾من الآية 10 المؤمن يداري ويصلح بالسر والعلانية،﴿وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ﴾من الآية 22
تدبَّروا معي في تلك المواصفات العظيمة التي جاءت بها هذه السورة الكريمة، قواعد التغيير حين يقول ربِّي عزَّ وجلَّ:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يغيِّر مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يغيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾ من الآية 11. هنالك مواصفات مطلوبة؛ لا يكتفى فقط بصلاح النية وصلاح السريرة، أبدًا، ولا بتنقية التوحيد بشكل نظري، أبدًا، ولكن لا بدَّ أن تكون هذه المواصفات منعكسة على أخلاقي وفي تعاملي وفي سلوكي، فما هو ذلك الانعكاس؟ صبر، وفاء بالعهود، وفاء بكل العقود، صدق مع النفس ومع الله عزَّ وجلَّ وبالتالي مع الناس، إقامة الصلاة بخشوعها وبكل أركانها، جعل الصلاة ملاذًا أستريح إليه، وألوذ به وأطمئن إليه، وأحتمي به وأنا أسير في الحياة لأغير وأصحح، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ﴾ الآية 88 / سورة هود
ثم هذه النفقة في السر وفي العلانية، ونفقة السر لها أهمية كبيرة جدًّا، ولا تغني عنها نفقة العلانية التي لها أهدافها من تشجيع الناس على إقامة شعائر الله، إلا أن المرء يحتاج أن يكون له فيما بينه وبين ربه خبيئة، لماذا؟ لتنقية التوحيد، لتخليص التوحيد من الشوائب حتى لا يكون هنالك أيُّ نوع من أنواع المراءاة للناس، أو الجري وراء ثنائهم أو مدحهم أو ما شابه، فلا يكون هم المؤمن أن يقال إنه كريم أو أصيل أو متعاون، إلى آخر ذلك من ألفاظ ومواصفات.
هذه المعالجة التي تأتي بها سورة الرعد الكريمة في ثنايا الكلام عن الاستجابة لله سبحانه وتعالى، والوعد لهؤلاء بأن لهم الحسنى شيء عظيم جدًّا، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ﴾ من الآية 22 وهذه مزية عظيمة لا يقوى عليها إلا المؤمن، ولكن في ذات الوقت القرآن العظيم ينبهني هنا أن هذا التعامل إنما هو يكون على مستوى الفرد، يدرءون بالحسنة السيئة، فأنت كفرد ﴿ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ الآية 34 سورة فصلت.
لا تقابل الإساءة بالإساءة، قابل الإساءة بالإحسان. ولكن ليس إحسان الضعفاء، بل إحسان الأقوياء، إحسان الإنسان الذي يستطيع أن يرد الإساءة بمثلها، ولكنه يتعالى عن ذلك ويترفع، لماذا؟ لأن إيمانه الذي رفعه، واستجابته لأمر الله سبحانه وتعالى ترفعه عن مواطن الانتقام للنفس وللذات، فالانتقام ليس من شيم المؤمنين، ليس من خلق الأقوياء، ليس من خلق أولئك الذين يبتغون التغيير الإيجابي في واقعهم وسلوكهم وحياتهم، لا يقابلون الإساءة بالإساءة أو أشد منها، يقابلونها بالحسنة. أما على مستوى الأمم فلا بدَّ من مقابلة الإساءة بالإساءة، يقول الله جلَّ وعلا: ﴿ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡۚ﴾ من الآية 194 / سورة البقرة
لماذا؟ للحفاظ على هيبة المجتمع، وهيبة وسلطة القانون، فالقضية هنا مختلفة، ولكن على المستوى الفردي أنت بحاجة إلى تفعيل هذه المزية العظيمة.
يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ 22 جَنَّٰتُ عَدۡنٍ يَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَدۡخُلُونَ عَلَيۡهِم مِّن كلّ بَابٍ﴾ الآية 23 حفاوة، وأي حفاوة، وجزاء عظيم، وتدبَّروا معي، ما جاء بما يجازيه به في الدنيا، ما جزاؤهم في الدنيا؟ لم يُذكر؛ لأن الجزاء الحقيقي هو في الآخرة. والإنسان لا ينبغي أبدًا أن ينتظر الجزاء في الدنيا، فلم يذكر جزاء على الدفع بالحسنة، ولا الجزاء على صدقاتهم، ولا الجزاء على الصبر، لماذا؟ لأن الجزاء في الآخرة. المؤمن قلبه معلق بما سيعطيه الله له في الآخرة من رضاه ومن عطائه الذي لا ينفد، وحفاوة بهم يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَدۡخُلُونَ عَلَيۡهِم مِّن كلّ بَابٍ ٢٣ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ﴾ من الآية 24 نعم العاقبة ونعم الجود أن يُرفع الأدنى إلى الأعلى إكرامًا لهما معًا، ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٍ﴾من الآية 21 / سورة الطور
ربِّي هنا في هذه الآيات العظيمة من سورة الرعد يعطينا قانونًا، هو أن الأمور بعواقبها، أن الأمور بنتائجها، والمقدمات وما أفعله في الدنيا من صلاح له نتائج مترتبة عليه.
تدبَّروا معي في هذه القوانين والسنن العظيمة التي تعطينا إياها سورة الرعد الكريمة لتقف بنا مع أولئك الذين استجابوا لربهم، استجابة فعلية، استجابة حقيقية، استجابة تنعكس على كلّ تصرفاتهم ﴿ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ ﴾ من الآية 24 وما ذكر من كلّ ما ذكر إلا الصبر، ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٍ﴾ من الآية 10 سورة الزمر. أعظم منزلة، وأعظم قانون في حياتك، أعظم ما يمكن أن يدفع بك إلى التغيير الإيجابي، الصبر عليه، لماذا؟ لأن التغيير يحتاج إلى الصبر، ففيه مكابدة ومشقة وعناء. أنت تغيِّر أو تحاول أن تغيِّر شيئًا قد يكون شاب عليه الصغير، شاب عليه الناس، امتدت بهم الأيام والسنوات وهم على هذا الشيء الذي هو في أصله غير صحيح، فاسد، بعيد عن الحق، باطل، وأنت تعالجه تحتاج إلى صبر، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ﴾ الآية 24
التغيير الإيجابي لا تتوقع أن يكون بين يوم وآخر أو بين يوم وليلة، فمن سنن وقوانين قواعد التغيير ألا تستعجل النتائج. تدبَّروا معي فيما ذكرناه من ظروف نزول هذه السورة العظيمة على نبينا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فمنذ أكثر من ثلاث عشرة سنَّة وهو يكابد ويعاني أنواعًا من المشقة وهو يدعو المشركين وما آمن معه إلا قليل، وكذلك كلّ المصلحين من بعد، لماذا؟ لأن طريق الإصلاح فيه وعورة ومشقة، وفيه عناء يحتاج إلى طول نفَس، ويحتاج إلى صبر ويحتاج إلى أناس لا يستعجلون النتائج، يزرعون ولا يستعجلون الحصاد، الحصاد قد لا تجنيه أنت، المهم أن تكون قد زرعت، المهم أنك قد ساهمت في الزرع، المهم أنك قد قمت بدورك، ولكن من الذي سيحصد الثمار؟ العلم عند الله عزَّ وجلَّ سبحانه وحده، لماذا؟ لأن جزاءك محفوظ عند من لا يضيع عنده مثقال ذرة من عمل، من خير أو من شر. ولذلك ربِّي عزَّ وجلَّ طمأن المؤمنين وطمأن المصلحين وطمأن أولئك الذين اتخذوا الإصلاح منهجًا في حياتهم، يأمرون بما أمر الله به، يصلون ولا يقطعون، يوفون ولا يخلفون، يعطون ولا يمنعون، يحسنون ولا يسيئون، الذين صبروا، وجزاء الصبر لا يكون إلا من عند الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ لأنه عمل عظيم أبى الله جلَّ وعلا إلا أن يجعله له وحده: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٍ﴾ من الآية 10 / سورة الزمر
هذه الآيات العظيمة من سورة الرعد الكريمة هي التي تدعو الإنسان ليراجع ذاته، تعيده لصوابه، وتعيده لإيمانه، وتعيده لتقواه وتوحيده ويقينه بالله عزَّ وجلَّ.