الحلقة السادسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وعلى آله وصحبه أجمعين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنا في تدبرنا في سورة الرحمن العظيمة عند تلك الأية التي تشكل واحدة من عجائب الخلق والتدبير في الكون لا يستطيع أحد من الخلق أن يماري أو يجادل أو يجاري في تلك الأية،قال سبحانه:{كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26) وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ(27)}لا أحد يستطيع أن يجادل في هذه الحقيقة مهما بلغ جبروته وطغيانه وظلمه،لا يستطيع مطلقًا أن يقف أمام هذه الحقيقة الدامغة،كل شيء سيرحل وسيفنى،وهذه عجيبة من العجائب،في نفس الوقت الأية العظيمة التي جاءت بذلك الترابط بما بعدها وما قبلها،ونحن ذكرنا في المرة السابقة ونذكر أن في كل موضع من السورة المباركة ذكر فيها قوله (جل شأنه):{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تؤسس وتبني في الإنسان حقيقة جديدة،حقيقة تجدد إيمانه وصلته بخالقه الذي خلق،وهنا في هذه الأية المباركة حين تستقر هذه الحقيقة في قلب الإنسان أن {كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26) وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ(27)فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(28)} هل تتعلق بالفاني الذي يرحل أم يتعلق قلبك وأنت العاقل بالباقي الذي لا يفنى ولا يرحل؟ تدبروا معي في هذا المعنى العظيم،بعد أن جاءت الأيات على ذكر ما يمكن أن ينشأه ويقوم به الإنسان في الأرض بتسخير من الله (سبحانه وتعالى)،بتيسير من تلك الموارد العظيمة التي خلق،في نفس الوقت القرآن جاء في هذه الأية ليؤسس لحقيقة أن مهما كثرت المنشأت من حولك {وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشََٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ (24)}إياك أن يتعلق قلبك بشيء منها،استعملها،اصنعها،سافر وارحل بها،استعملها فيما يرضي خالقك (جل شأنه)،هذا نوع من أنواع إقامة الوزن بالقسط،إقامة الوزن بالقسط في حياتنا الذي تكلمت عنه الأيات العظيمة الأول في سورة الرحمن{وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)}شكل من أشكال إقامة الوزن بالقسط وعدم إخسار الميزان أنك تصنع،أنك تركب ، أنك تملك،أنك تكون قويًا كما ذكرنا ووقفنا طويلًا عند قضية القوة،القوة المادية والمعنوية،فردًا ومجتمعًا مطلوب منك أن تكون قويًا،فقال القرآن في ذات السياق:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ}وليس بضعف،ولا بوهن،والقوة جامعة لكل المعاني المادية الروحية والمعنوية. إذن كيف يستطيع الإنسان أن يقيم الوزن بالقسط بين امتلاك القوة المادية والمعنوية،وعدم التعلق بها،وعدم التسلط على الأخرين،لأن تعلقك بأسباب القوة،خاصة القوة المادية مثل:(مال،جاه،رياسة،سلطة،منصب) تدفع بالبعض إلى أن يقع في الإجرام كما ستأتي عليه الأيات بعد ذلك، تسلط على رقاب الأخرين،الوقوع في ظلم وامتهان الأخرين وإهانتهم،وهذا مالا يقبل به القرآن العظيم {وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ} كيف تقيم الوزن في هذه الحقيقة؟ تمتلك القوة ولا تطغى،تكون قويًا ولا تظلم،تكون صاحب كلمة مسموعة ورياسة ولكنك لا تتجبر على الأخرين بل تكون عونًا لهم لا فرعون عليهم،إذن كيف تستطيع إقامة ذلك؟ بهذه الأية العظيمة،قال:{كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26)} لا تتعلق بشيء من غبار الدنيا، المنصب يرحل،والقوة تتحول إلى ضعف،والشباب يتحول إلى شيخوخة،وما أنت فيه من نعم ظاهرة أو باطنة ممكن أن تتحول عنك،هذه طبيعة الحياة الدنيا،جاءت الأية تؤسس هذا المعنى حتى تتحقق من إقامة الميزان بالقسط في حياتك،هذه الأية حين تكون دستورًا لك،هذه الأية حين ترتسم ملامحها أمام عينيك ليل نهار،هذه الأية حين تضعها أمامك وأنت تباشر أعمالك،أو ما تتولاه من شئون الناس والخلق وهي أمام عينيك {كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26) وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ(27)} تقوِّم اعوجاجك،تصلح ذاتك،تتمكن من الإنسان فتعقله عن الوقوع في ظلم الأخرين،لا تمتد يدك إلى الأخرين بالظلم،ولا بالطغيان،ولا بالعدوان،ولا بالاستعلاء والاستكبار الذي هو من سمات الإجرام والمجرمين كما أوضحه القرآن العظيم.إذن قال هذه الأية التي جاءت في موضعها لتبني الإنسان من جديد،لتحرره من الوقوع في أسر الفاني والتبعية له والدينونة،الخلق إلى فناء،المؤسسات والعمران وكل ما يشيده الإنسان سيفنى،حين يدرك الإنسان هذه الحقيقة يقطع حبل التعلق بها، فإذا قطع حبل التعلق بها ماذا سيحصل؟سيصبح الإنسان حرًا متحررًا من كل أشكال التبعية للأخرين،أنه يدرك ويستيقن تمامًا أنه لا أحد يبقى إلا الله {وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ(27)} فيتعلق قلبه بالباقي،بالله سبحانه دون سواه فتتحقق أعظم عطاءات التوحيد في قلبه،من هنا جاءت الأية التي بعدها تؤكد وترسخ،قال:{يَسَۡٔلُهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٍ(29)} تدبروا في قمة بناء التوحيد في القلب وفي النفس،وذاك الترابط العجيب بين أيات السورة،لبنات السورة العظيمة،قال:{يَسَۡٔلُهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ} و(من) جامعة شاملة لا تكون فقط للأشياء،ولا للأحياء،بل كل شيء {مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ}،الكافر والمؤمن،الملحد،المشرك،المنافق،المجرم،الظالم،الطاغية،القوي،الضعيف كلهم يسألونه.وهنا لابد أن نتوقف،قد يقول قائل:ولكن نحن نعلم أن المجرمين والظلمة والكافرين والجاحدين لألآء الله لا يسألونه،السؤال هنا إما سؤال الحال أو سؤال المقال،سؤال الحال بمعنى أن كل أحد مفتقر لعبوديته ولحاجته لله (سبحانه وتعالى) بما فيهم الكافر والملحد،هذا الافتقار الذي يقوده إلى السؤال،السؤال ليس هو دعاء،الإنسان الكافر ممكن أن يستكبر عن عبادة الله ولا يدعوه،ولذلك توعد الله الذين يستكبرون عن عبادته سيدخلون جهنم داخرين باعتبار أن من أعظم أشكال العبادة الدعاء والتوجه إلى الله سبحانه،ولكن المسأله هي عبارة عن الطلب، مطلق الطلب،مطلق الافتقار والاحتياج إليه.وقل لي بالله عليك:كافر،ملحد،جاحد هل يستطيع أن يأخذ نفسًا من أنفاس الحياة إلا بإرادة الله (سبحانه وتعالى)؟ إذن سواء اعترف بذلك مقالًا أو لم يعترف فكان الأمر سؤال الحال،هو واقع في الافتقار إلى الله (عز وجل)،كلنا عبيد ربوبيته (جل شأنه)،لا نستطيع أن نحرك ساكنًا بدون إرادته ومشيئته وقدرته،لا نستطيع أن نأخذ نفسًا من أنفاس الحياة نعيش فيه على الأرض بدون رحمته ومعونته،فسواء كفر الإنسان أم لم يكفر بين القرآن العظيم في السورة وفي هذا الموضع الحقيقة،قال:{يَسَۡٔلُهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٍ(29)} يفرِّج كربًا،يشفي مريضًا،يبتلي أخرين،يضع قومًا،يرفع غيرهم،فإذا كان يسأله من في السموات والأرض فيا عاقل كيف تتوجه بسؤالك وحاجاتك ومسائلك لغير الواحد الأحد؟ من تسأل من الخلق مِن مَن تتوهم أنهم يملكون لك نفعًا أو ضرًا من دون الله هؤلاء يسألونه سؤال اختيار أو سؤال اضطرار،والأخير الذي قلنا عنه أنه سؤال عبيد الربوبية،وكلنا عبيد ربوبيته،المؤمن والكافر،بينما الأول،سؤال الاختيار هو الدعاء الذي هو سؤال عبيد الأُلوهيِّة،ولذلك ربي (جل شأنه) يقول:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ }(46) قريب مِن مَن؟ قريب من المؤمنين،قريب من المحسنين،قريب من الذين يتعرضون لرحمته بالدعاء والسؤال،تدبروا معي في هذه المعاني،هذا سؤال العبادة،وفي كل لحظة المؤمن يدرك هذه الحقيقة أنه لا يستطيع أبدًا أن يوجد ويعيش بدون رحمة الله (سبحانه وتعالى)،هذا أصل الوجود أنك مفتقر إليه،والمؤمن لما أن تستقر هذه الحقيقة في سويداء قلبه يتحرر من سؤال الخلق ليبدأ يرتقي بسؤال رب الخلق،سؤال الله (سبحانه وتعالى).تدبروا في القرآن كيف يصنع القوي،تدبروا في الربط مع ما ذكرنا في البداية،في بدايات الأيات وفي الأيات التي سبقت أن القرآن يبني الإنسان المؤمن القوي العزيز. وذكرنا أن عملية وصفة القوة والعزة ينبغي أن تكون ملازمة للمؤمن،لأن المؤمن ينطلق من مسلمات،واحدة من تلك المسلمات أن كل الخلق ضعفاء إلا من قواه الله،وكلهم أذلاء إلا من أعزه الله بطاعته،قال:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ولا ينالها الإنسان لا بمال ولا بجاه ولا بمنصب ولا بغيره بل ينالها بالإيمان،هذه صفة،سمة،لا تشترى ولا تباع في الأسواق،قد يكون الإنسان عنده أموال وكنوز الدنيا مثل ما كان قارون عنده، ولكنه لم يكن عزيزًا،لأن العزة ليست مجرد مدح وثناء من الخلق،ولا نفاق،ولا غش،ولا خداع،ولكن صفة تنبع من داخل الإنسان يشعر بأنه عزيز،يشعر بأن كل ما يطلبه عند الذي خلقه وليس عند أحد ممن خلقه الله،هذه الأية تكرس هذه المعاني {يَسَۡٔلُهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ} بمعنى أخر:يا عبد لا تتوجه بمسألتك ولا بحاجاتك إلى أحد في السموات والأرض،وقد يقول قائل ولكن كل الخلق يحتاج بعضهم بعضًا،نعم هذا أكيد،وكل الناس شعروا بذلك أم لم يشعروا فهم لبعضهم البعض خدم،بمعنى أنهم يخدمون ويتعاونون مع بعضهم البعض لأجل أن تستقر الحياة، صحيح،ولكن في فارق شاسع بين أن تستقر هذه الحقيقة في قلبك وأن تعلم يقينًا أن لا أحد قادر على أن يجيب ما تسأل إلا الذي خلقك، وأنك لا تكون مفتقرًا إلا إليه،ولا تكون متذللًا إلا بين يديه،ولا تسجد ولا تركع ولا تضع جبهتك على الأرض إلا بين يديه،وأن ذُلَّك بين يديه عزةٌ لك بين خلقه،وأن ضعفك وإظهار مسكنتك بين يديه عز لك بين الخلق.هذه المعاني العظيمة التي تؤسسها الأية {يَسَۡٔلُهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ} فإذا كان كل الخلق رئيسهم و مرؤوسهم يسألون رب العزة رب السموات والأرض،فأنت تسأل من؟ تسأل من يسأل غيره ام تسأل من يسأله كل الخلق ولا يسأل سبحانه أحد؟ ثم أن في نفس الأية العظيمة في قوله (جل شأنه):{كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٍ}نافذة على الأمل،انتزاع واجتثاث لكل ما يمكن أن يدخل اليأس في قلبك {كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٍ} بمعنى أخر:أصبحت أنت اليوم مهمومًا،مريضًا،متعبًا،مثقلًا بالهموم،ربما مثقلًا حتى بالديون{كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٍ}.وتدبروا في الربط بين (يَسَۡٔلُهُۥ) و(كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٍ) فالذي يفرِّج كربًا،ويشفي مريضًا،ويصلح ما قد خرب وفسد،ويعطيك،أصبحت ممنوعًا أو فقيرًا،أمسيت مكتفيًّا،ليس لأن القضية تدور بعيدًا عن الأخذ بالأسباب المادية لا،المؤمن مطالب أن يأخذ بالأسباب المادية،ولكن مطالب كذلك ألا يستقر في قلبه إلا شيء واحد أن الله هو مسبب الأسباب،وأنه هو الذي يمضي هذه الأسباب المادية،وأنه هو الذي يجريها كما يشاء فالأمر بيده فسله،قال:{يَسَۡٔلُهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ}وتدبروا معي في الربط بين السؤال،ولذلك العلماء قسموا قالوا:دعاء العبادة ودعاء المسألة،كلاهما عبادة في الحقيقة،أنت كلما سألت دعوت وتعبدت الله سبحانه،المؤمن الأمر بالنسبة إليه يرتبط بالنية ويدور معها وجودًا وعدمًا،إذن أنت حين تسأل فاعلم أنه {كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٍ} بيان لتغير وتبدل الأحوال،والعلاقة بين إلحاحك بالسؤال على الله (جل شأنه) وتغير حالك إلى أحسن حال،بمعنى أخر:يا فقير،يا صاحب الهم،يا صاحب الحزن،يا صاحب الكرب،يا من أقعدك الحزن والهم وأثقل كاهلك لا تيأس،سل الله من فضله،إن أُغلقت دونك أبواب الخلق وكلهم يردوك عن أبوابهم فاعلم أن ثمة باب لا يغلق أبدًا، أدِم الطرق عليه ولا تيأس فالله كل يوم هو في شأن،يفرِّج كربًا،ويشفي مرضًا،ويصحح أوضاعًا،ويبدل حالًا،ويلبس عريانًا،ويشبع جائعًا،ولا تدري كيف تتبدل الأحوال،فلا يقعدن بك اليأس،ولا الحزن،ولا الهم،اعلم أن الله سيفرِّج،وسيعطي،سيعطي بعد منع،وسيشفي بعد مرض،وسيسعد قلوب الناس وقلبك بعد تعب وعناء،سنن الحياة المتغيرة،وأنت في كل ذلك لا تسل إلا الله،أصبحت حرًا ولو ماكنت تملك حتى قرشًا،الحرية لا تحتاج إلى أموال مكدسة في البنوك،ولا صكوك،ولا عقارات،ولا بيوت،ولا قصور،ولا مصانع،الحرية تحتاج قلبًا ينبض بالسؤال لله (سبحانه وتعالى) والاستكانة بين يديه،قد يكون الإنسان يملك عشرات بل مئات عقارات على أموال مكدسة ولكنه عبدًا ضاقت به نفسه،خنقته تلك الأموال المكدسة فأصبح عبدًا لها،فتعس عبد الدينار،المؤمن حر لأنه عبد لله (سبحانه وتعالى)،وكل من لا يكون عبدًا لله فهو عبد لسواه،وتلك هي العبودية المؤلمة،عبودية الخلق للخلق،أو عبودية الخلق للأشياء،أو سمها ما شئت،هنا يحرر القرآن في أية واحدة،قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)}هذه حقيقة،هذه من دلائل لطفه وعجيب تدبيره وحكمه في خلقه أن الجميع يسأله{يَسَۡٔلُهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ} فإذا ماتحرر العبد وعاش حياته حياة سوية تليق بإنسانيته وكرامته،فلا أحد يمتلك أن يدوس على كرامته لأجل حفنة أرز،ولا أحد ممكن أن يكسر له عزًا لأجل مالٍ أو منصبٍ أو وظيفةٍ أو ماشابه،يعيش حرًا غنيًا ولو كان فقيرًا،طليقًا ولو كان أسيرًا،صحيح الروح والعقل ولو كان مريض الجسد.هذه المعاني حين تستقر في القلب يأتيك القرآن بالأية التي بعدها في تناسب عجيب قال:{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ(31)} فيها تهديد ووعيد.ولنا أن نتساءل لماذا ينتقل وتنتقل الأيات العظيمة المحملة الزاخرة بمعاني الرحمة والهدى والرأفة بالعباد إلى التهديد والوعيد،لأن الإنسان المؤمن كما يبنيه القرآن لابد أن يُحمل على جناحيه الخوف والرجاء،صحيح رجاءك بالله (سبحانه وتعالى) ينبغي ألا ينقطع أبدًا،لكن في ذات الوقت عليك أن تفهم دومًا وتدرك أنك لابد أن تخشى الله (سبحانه وتعالى)،صحيح هو غافر الذنب،ولكن عليك دائمًا أن تستوعب وتستحضر أنه شديد العقاب. لنا أن نتساءل لماذا هذا الحفاظ على ذاك الاتزان؟ اربط مع الأيات التي قبلها قال:{وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)}اتزان في حياتك بين الخوف وبين الرجاء،بين الأمل وعدم اليأس من رحمة الله سبحانه وبين الخوف،الترغيب والترهيب،عليك أن تخاف الله (جل شأنه)، أن يكون القلب دومًا ممتليء بالأمل والرجاء برحمة الله (سبحانه وتعالى)،وفي نفس الوقت يخاف الله (عز وجل)،وأنت حين تنظر إلى طائر تلاحظ أنه كي يطير أنه يحقق التوازن بين جناحيه،والمطلوب منك أن تحقق التوازن بين الخوف والرجاء،وهذا شكل من أشكال إقامة الوزن بالقسط{وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ}فإذا غلَّبت جانب الرجاء وضاع الخوف وقل،وأخسرت في جانب الخوف قد تتجرأ وتقدم على ما لا يرضيه سبحانه، وإذا غلبت الجانب الأخر قد تقع في اليأس من رحمة الله،المطلوب الاتزان {وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)}. قال:{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ(31)} تهديد ووعيد،بمعنى أن الله (جل شأنه) سيقصد إلى الثقلين،لأي شيء؟ للحساب،الحساب بناءًا على أي شيء؟ الحساب على أي شيء؟ الحساب على التكليف الأول الذي ذكره في بداية سورة الرحمن،وأنت حين تُكلَّف بشيء عليك أن تنتظر الحساب،أليس كذلك؟ تكليف أو توكل إليك مسئولية من المسئوليات اعلم أن هناك محاسبة،نحن ذكرنا في الكلام عن الميزان قضية الحساب،في البداية قال:{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} نهي {وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ} أمر{وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ}هذه أشكال التكليف،مبادىء التكليف،أما وأنك قد كُلِفت بذلك فماذا بعد التكليف إلا الحساب؟ قال:{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ(31)} بمعنى أخر:ستسأل عن الميزان،ستسأل عن إقامة الوزن في حياتك،ستسأل عن عدم الطغيان في الميزان،ستسأل عن إقامتك لهذه الحقائق التي جاء بها القرآن،أخذتك الدنيا بعيدًا بترهاتها وألهتك عن الأخرة؟شغلتك الدنيا حتى سلبت منك أجمل ما فيك لحظات الوقوف بين يدي خالقك؟هذا طغيان في الميزان،فتح الله عليك من أموال الدنيا وزخرفها فإذا بك تتسلط بتلك الزخارف على عباد الله عوضًا عن أن تكون عونًا وخادمًا لهم؟هذا طغيان في الميزان{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ(31)} تهديد ووعيد،وهذه أية من أيات تدبير الله سبحانه وقوته ولطفه وحكمه في عباده،يالها من أية.الحساب آتٍ وهو ليس أي حساب،هو حساب بالميزان،قال:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}توزن النوايا،وتوزن الأقوال،وتوزن الأعمال،في الدنيا أقصى ما ممكن أن تحاسب عليه العمل،لكن في الأخرة الحساب يطال كل شيء،نواياك التي أخفيتها عن الخلق،وكتمتها في الصدر،أقوالك وكلماتك ماذا كنت تقصد وتعني بها؟أعمالك،كل شيء بالقسط.قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)}أمام هذه المعاني العظيمة ألا يتجدد ويتعزز الإيمان في قلب المؤمن؟ ألايثبت الإيمان في القلب وهو يدرك تمامًا أنه محاسب على مايقول ويفعل؟ محاسب على الخاطرة التي تدور في رأسه ولايطَّلع عليها الخلق. ماذا تفعل هذه المعاني حين تستقر في القلوب؟ تجعل حياة الإنسان حياة قائمة على الميزان،من هنا نستطيع أن نفهم ونحن نقرأ سير الصالحين ومن أمثالهم عمر (رضي الله عنه) هذه القولة المشهورة التي تنسب إليه:”لو أن دابةً في أرض في أرض العراق عثرت لسئلت عنها يا عمر لما لم تصلح لها الطريق؟”كيف ممكن أن تبنى هذه المعاني في نفس الناس؟كيف ممكن أن يصل إليها المسئول؟كيف ممكن أن يصل إليها المعلم وهو يعلم؟ المربي وهو يربي؟المرأة وهي تدير بيتها وحياتها وشئون أولادها،الزوج وهو يقيم علاقة سوية مع زوجته وأهله وأقاربه،حياة. هذه المعاني العظيمة التي جاء بها القرآن هذه إقامة للوزن بالقسط،قال:{وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ} هذه لا تحدث هكذا في طرفة عين أبدًا،هذه تحتاج بناء وهو في سورة الرحمن يبنيها بالأية فقال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}أتستطيع أن تُكذِّب بأن الله (جل شأنه) سيحاسب الخلق على ما فعلوه؟ على ما صنعوه؟على ما اجترحوه؟المسألة ليست هكذا. جاءت الأية التي بعدها،تدبروا معي قال:{يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ} معشر؟ تدبروا معي القرآن حين يريد أن يجمع،وكأن الجن والإنس منذ أن قامت الحياة على الأرض إلى أن تقوم الساعة مجموعين مع بعضهم البعض لأن الله قادر على ذلك،والمعشر مايزيد عن العشر،بمعنى أن الأية كذلك فيها تهديد ووعيد،كيف؟ المقصود بالمعنى أن اجتمعوا،ولذلك في أية أخرى في التحدي قال:{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ}(47) وفي الأية تحدى،قال:{إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَٰنٍ} تحدي لأي شيء؟وتدبروا معي،هذه الأية من أعظم قواعد التدبر أنك تربط بين الأية وسابقتها ولاحقتها حتى تفهم،بمعنى:أنك تهتم بدراسة السياق،السياق من كل أوجهه. واحدة من الإشكاليات التي توقعنا في فساد وسوء التأويل أننا في بعض الأحيان نجتزيء ونقتطع الأية من سياقاتها،لا نربطها بما قبلها ولا بما جاءت بعدها فنخرج بأشياء بعيدة عن المعاني التي تتبادر إلى ذهن القاريء المتدبر المتلقي إبتداءًا لكتاب الله (جل شأنه)،ولذلك نجد أن في هذه الأية العظيمة تاه واحتار فيها كثير من الخلق،فهناك من يقول:ينفذون من أقطار السموات والأرض والقضية فيها إعجاز علمي لأن لا أحد يستطيع أحد أن ينفذ بسبب الحرارة،وبسبب كذا،ومركز الأرض،والأقطار وإلى أخره،في حين أن الأية حين تضعها في السياق تجد أنها تتحدث عن النفاذ من أمر الله وحكمه ضمن الأية الأولى{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ(31)} هنا يتكلم عن يوم القيامة،كل السياق هنا والكلام عن يوم القيامة وليس عن الدنيا،وليس عن الكشوفات العلمية،وهب أنك تريد أن توضح وتبين بأن القرآن قد حوى العديد من الأيات العلمية والمعجزات التي لم تكن معروفة وقت نزول القرآن،هذا صحيح ولكنك لا تخضع القرآن لهذا،ولا تتكلف في الوصول إلى هذه الحقائق،ولا تأخذ الأيات بعيدًا عن سياقاتها،ولا تقتطع من الأيات ما يمكن أن يكون له صلة بقضية أو بكشف علمي أو ما شابه فـــقوله:{يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ} متصل بما قبله {سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ(31)} الأية الأولى قال فيها (ٱلثَّقَلَانِ)،وللعلماء وللمفسرين وعلماء اللغة دلائل وطرائق في معنى (ٱلثَّقَلَانِ)، البعض أرجعوا هذا المسمى لأنهم قد ثقلت بهم الأرض،والبعض قال:لأنه يثقل به عمله،وبقطع النظر القرآن ذكرها هنا هكذا،وما بعدها تفصيل فقال: {يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ} كلكم مشمولون بهذا الخطاب،فإذا استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض من أمر الله،من الحكم فيكم لأنه سيحكم فيكم،سيحاسب.تدبروا معي في الربط ما بين أوائل السورة عن قضية:{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)}ثم{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ(31)} وسنأتي على الأيات التي بعدها في الحديث عن المجرمين،كثير من الخلق لا يحاسبون على ما اجترحوا وما اقترفوا في الدنيا بالعكس،ممكن أن يتحول المجرم الظالم الطاغية إلى بطل بمنطق المفسدين في الأرض،ايترك هذا هكذا؟ قال: {سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ(31)} ولن تستطيعوا أن تنفذوا،تدبروا في دقة المفردة:(تَنفُذُواْ)،والنفاذ ليس خروج،لأن القرآن يستعمل كلمة خروج، وخرج، ولكن (تَنفُذُواْ) أدق وأعمق وأبلغ وأخفى من الخروج،لأن النفاذ هو اختراق من طرف إلى أخر،والاختراق غالبًا ما يكون في شيء أو في نقطة أو في مكان ثغرة،بسيط لا يكون ظاهرًا،الخروج يحتاج إلى مكان أوسع،أكبر،ولكن النفاذ لا يحتاج،ممكن أن يكون من نقطة صغيرة في الحجم أو في المعنى،والقرآن يتحدى فيقول:{يَٰمَعۡشَرَٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ} ما قال عن السماء الدنيا،حتى لا تنحصر القضية في الدنيا فقط،وتتناولها من ناحية نفاذ من أقطار،والقطرهو مايصل بين طرف إلى طرف مرورًا بالمركز{أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ} هل تستطيع أن تخرج؟ هل تستطيع أن تنفذ؟ هذا ليس مجرد تحدي فقط لا،هذا إشعار للإنسان أنك أنت تستطيع أن تهرب من محاكم الدنيا سواء أكان ذلك بحصانة دبلوماسية أو غيرها،عشرات الأشياء والطرق،ولكن إذا نفذت من بلد إلى بلد هل تستطيع أن تنفذ من أقطار السموات والأرض؟ قال:{فَٱنفُذُواْۚ} ولم تذكر كلمة النفاذ في القرآن بـــ (حرف الذال) إلا في هذه الأية،لأن الأية فيها تحدي،والأية جمعت الجن والإنس،الجن ممكن أن يكون له خاصية السرعة والنفاذ،ولكن هنا تحداه القرآن قال:{فَٱنفُذُواْۚ} تحدي كامل. قال:{لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَٰنٍ} أي بقوة،أي قوة؟ قوة تكون لكم أكبر من تلك القوة التي الله (جل شأنه) وضعها فيكم فجعل عدم النفاذ هو الحقيقة المطلقة{يَٰمَعۡشَرَٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ} كيف تنفذون من حكم الله (سبحانه وتعالى) وأمره إلا بسلطان {فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)}وهنا هذه الأية التي هي أية على طلاقة قدرة الله (جل شأنه) وعجيب صنعه،وحكمه،ولطفه،وأمره وقضاءه في خلقه تجعل الإنسان يستشعر بالمسئولية،تجعل الإنسان يفهم أنه إن هرب من محاسبة الخلق لن يهرب أبدًا ولن ينفذ من محاسبة الخالق،تزرع في نفس الإنسان مبدأ المحاسبة.كثير من الناس اليوم واحدة من الإشكاليات الخطيرة التي تجعلهم يستكبرون في الأرض،ويطغون،ويدوسون على الخلق،ويستعلون على غيرهم من الضعفاء،ويهينون العباد،ولا يكرمون الضعيف،ويظلمون الخلق،ويأكلون أموال هذا،ويسلبون من هذا وذاك،الإطمئنان أن لا أحد يحاسبهم.تدبروا في القرآن في سورة الرحمن كيف يبني مبدأ المحاسبة،يحييها من جديد،أنت محاسب،لا تنظر إلى الدنيا فهي زائلة فانية {كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26)}،والفاني لن يحاسبك،فإذا كان الأمر كذلك فلا تطمئن لأن الباقي سيحاسبك.تدبروا معي في هذه المعاني،لا تركن إلى الفاني الذي لن يحاسبك على أخطاءك لأسباب متعددة مثل:سلطان،جاه،شفاعة،سمي ما شئت،ولكن من أين تنفذ من حكم الذي يبقى ولا يفنى،كيف ستنفذ من الحساب؟ ولذلك الأيات التي جاءت بعدها كلها في سياق الكلام عن مواقف الحساب يوم القيامة.وتدبروا في جمال التعبير والربط بين التكليف في بداية السورة وبين المحاسبة في وسط السورة،وبين الحديث عن الجزاء بين الخلق والفصل بينهم في أواخر السورة،هذا الترابط والتناسب العجيب الجميل البديع. قال:{فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَٰنٍ}فالمسألة ليست متعلقة بقضية إعجاز علمي حتى يتم الحساب والقول بأنه فعلًا القرآن كشف بأن الإنسان لا يستطيع أن ينفذ من هنا لأن الجاذبية كذا،والحرارة كذا أي معطيات القيم والنسب،قضية في الحساب.وأنت إذا تريد أن تبيِّن ذكر القرآن للعديد من القضايا العلمية فهذه مجالاتها غير هذا،ولكن واحدة من القواعد التي ينبغي أن تضعها لنفسك وأنت تتحدث عن هذا ألا تخرج الأيات من سياقها،اهتمام بالسياق،فلا تأتي بأية تتحدث عن مواقف يوم القيامة والناس وتقول لي هذه معجزة لأن كشف العلم الحديث عنها وهي في الدنيا،هذه ليس السياق فيها هنا،بل بالعكس السياق سياق يشجع الإنسان على أن يبذل كل ما في وسعه لينظر في مديات قدرته،لأنه من يصل إلى الحد الأقصى سيدرك أنه عاجز،بمعنى أخر:أقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من القدرة والقوة بالضبط هي تلك النقطة التي سيدرك فيها مدى عجزه،هذا معنى دقيق،وإذا شعر الإنسان وهو في تمام قوته أنه ضعيف،أنه مفتقر إلى قدرة الله (سبحانه وتعالى)،أنه جاهل،أنه لا يعرف،أنه لا يفهم {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}(48) سيخضع بين يدي الله وهذا وجه من أوجه فهم قول الله (جل شأنه):{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(49) لأنهم حين علموا شيئًا مما علمهم الله أدركوا أنهم ما علموا شيئًا وأن العلم كله بيد الله،وهكذا في كل شيء،هذه أية من أيات الله(جل شأنه) لذلك جاءت بعدها {فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)} تكذِّب بأي شيء؟ بعجزك؟ تكذِّب بقدرة الله عليك؟ تكذِّب بعجزك عن الفرار من حكمه وأمره،والله أعطانا أيات،شتى الأيات،واحدة منها أقدار الله (سبحانه وتعالى) فينا والتي لا نستطيع أن نهرب منها، ولا من أي مكان حين يقضي الله عليك بقضاء ويقدر عليك بشيء لن تهرب منه،أنت في واقع الأمر تسير إليه،ولذلك نحن حتى أحيانًا في العامية نقول:فلان كأنه ذهب إلى أجله،هذه حقيقة،أنت لا تستطيع أن تفر مما قدره الله عليك،أنت تفر من قدره إلى قدره،حتى يتبين لك مدى قدرته ومدى عجزك أنت،فالله باقٍ وأنت الفاني،لا وجه أبدًا من أوجه التلاقي أو المقارنة،ولله المثل الأعلى،كل ما ينبغي أن تستوعبه هو عجزك وقدرة الله (سبحانه وتعالى) عليك،إذا استقرت هذه الحقيقة في نفس الإنسان قدرة الله عليه وضعفه وعجزه خضع،تواضع لعباد الله،استكان،ذل بين يديه،انكسرت شوكة ظلمه وطغيانه على الخلق،دان للحق،وبدأ مرة أخرى يقيم الوزن بالقسط ولا يخسر الميزان،لأن الذي أمرك بإقامة الوزن بالقسط يعلم ما بين يديك وما خلفك،يعلم كل صغيرة وكبيرة،فلا تطفف في العلاقة مع الله (سبحانه وتعالى)،تدبروا معي في هذه المعاني العظيمة، الذي كلفك،الذي أمرك،الذي قال لك:{وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)}قادر عليك،الخلق الذين استضعفتهم،والعباد الذين شردتهم،والناس الذين أرهبتهم بقوتك وجبروتك وطغيانك وسلطتك،مثل ما فعل فرعون مع بني إسرائيل،الله قادر عليك وعليهم،تدبروا في هذه المعاني العظيمة،قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)} بماذا تكذِّب؟ أنت محاط بعناية الله (سبحانه وتعالى) الإلهية،وإرادته،ومشيئته، ومراقبته،فأين تهرب؟”لا منجى منك إلا إليك” تدبروا في هذه المعاني،لا منجى من الله إلا إليه،وتدبروا معي في الربط هناك أيات قال فيها:{ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ }(50) وتدبروا معي:(تَنفُذُواْ)،(فَفِرُّوا) أما وأنك لا تستطيع أن تنفذ من ملكه وملكوته فر إليه،فر إليه مهما كنت محملًا بالذنوب،فر إليه واحتمي بحماه واستجر به وبرحمته،استجر برضاه من سخطه،استجر بمعافاته من عقوبته،استجر به منه،استجر برحمته من عذابه،فر إليه مهما كنت محملًا بالأثام،والذنوب،والخطايا،والمعاصي.إن كنت تائهًا سيهديك،إن كنت فقيرًا سيغنيك،إن كنت ظالمًا وجئته صادقًا في توبتك سيهديك ويفتح لك أبواب التوبة والتراجع عن الظلم،إن كنت فاسدًا سيصلحك،إن كنت ضائعًا سينجيك،إن كنت غائبًا سيحضر لك قلبك الذي ضاع منك،وغاب عنك،فماذا تريد؟ وإلى من تفر إلا إليه؟ قال:{يُرۡسَلُ عَلَيۡكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ(35)}شكل من أشكال العذاب ،والنحاس والنار،هذه الفلزات الحقيقية،ونحن نعلم أن النحاس كفلز درجة الانصهار والغليان فيه فوق الألف مئوية،فكيف سيكون إذا يصب أو يرسل،وتدبروا في الكلمة {يُرۡسَلُ عَلَيۡكُمَا شُوَاظٌ} وليس أنه يصب فوق رأسه الحميم لا،يرسل إرسال،لبيان أي شيء؟ عظمة ومقدرة الله (سبحانه وتعالى)،وعظمة قدرته على خلقه،قال:{فَلَا تَنتَصِرَانِ} لاأنس ولا جن،لماذا جاء بقضية النصر هنا؟ كان من عادة العرب،ومازال البعض إلى اليوم،مسكون بقدرة الجن الهائلة،يقول لك:الجن يستطيع أن يفعل أي شيء.أعوذ بالله،فجاء القرآن فحرر الإنس من الخوف من الجن وسلطته والدينونة له،لأن بعض الناس يقولون لك:الجن يفعل الأعاجيب،ماذا يفعل؟ تدبروا في القرآن ماذا يقول:{يُرۡسَلُ عَلَيۡكُمَا} جمع بينهما حتى يزيل خوف الإنس من الجن والعكس،ولكن الشائع بيننا هو خوف الإنس من الجن،وقدرة الجن الهائلة،حتى أن بعض الناس سُكِنَ بهذا الهاجس،سيطر على عقله وفكره وحياته،فمن اعتقاده وظنه أن البيت مسكون بالجن،والعقل مسكون بالجن،والزوج خطفه الجن،والزوجة خطفتها الجن،ضاعت تجارته فقال لك الجن،فسد ولده فقال لك الجن.قال:{فَلَا تَنتَصِرَانِ} فإذا كان الجن عاجز عن نصرة ذاته فهو عاجز عن نصرة غيره {فَلَا تَنتَصِرَانِ(35) فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)} يالها من أية،يا لها من أيات في كل أية حين تقول،وحين تقرأ،وحين تتلقى،تفتح أمامك بابًا جديدًا من أبواب العلاقة مع الله سبحانه،ليست فقط علاقة روحية،ولكن علاقة فعلية عملية قائمة في واقع الحياة على إقامة الوزن بالقسط.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته