الحلقة الثامنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آله وصحبهِ، ومن والاه
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنا اليوم إلى خواتيمِ سورة إبراهيم، هذه السورة الَّتي جاءت للحديثِ عن رحلةِ البشريَّة من الظُلُماتِ إلى النُّورِ، السورة الَّتي عرضت أشكالًا من الظُلُماتِ. وأعظم ظُلمة عرضت لها سورة إبراهيم هي ظُلمة الظُلم، فالظُلم ظُلُمات بِكُلِّ أشكالهِ وصورهِ، وابتدأت بأعظمِ أشكالِ الظُلم وهو ظُلم الإنسان لنفسهِ مُتمثِّلًا في ذلك التَّخَبُّط والبُعد عن نقاء التَّوحيدِ وصفائهِ؛ فما من ظُلمٍ أكثر من هذا “إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ “من الآية رقم 13/سورة لقمان. وكُل أشكال الظُلم الَّذي يقع النَّاس فيه، ظُلم النَّاس بعضهم لبعض لا يمكن أبدًا أن يبتعدَ عن قضيَّةِ التَّوحيد؛ فالإنسان كُلَّمَا ضعُفَ داعي التَّوحيد والإيمان بالله في قلبهِ زاد ظُلمه (والعكس صحيح) إذ إنَّه كُلَّمَا قوِي داعي التَّوحــيد في قلبهِ وقويت كُلُّ صور توحـــيد الله (سبحانه وتعالى)كــتوحيدِ الأُلوهيَّةِ، وتوحيدِ الأسماءِ، وتوحيدِ الصِّفاتِ، فكُلَّمَا قَويت في قلبهِ ابتعد عن ظُلمةِ الظُلم، لأن الإنسان لا يمكن أن يُحقِقَّ العدلَ في خاصَّةِ نفسهِ ولا في غيرهِ إلَّا من خلالِ قُربهِ من جانبِ التَّوحيدِ، وقُوَّةِ سُلطان التَّوحيد في حياتهِ؛ ولذلك سورة إبراهيم من أكثرِ سور القُرآن وقوفًا عند إشكاليَّةِ الظُلمِ . وذكرنا فيما ذكرنا أنَّ السورة العظيمةَ لا تتحدَّث عن شكلٍ واحدٍ من أشكالِ الظُلمِ؛ فكثيرٌ من النَّاسِ اليوم يعتقد أننا حين نتكلَّم عن الظُلمِ نتكلم عن إطارِ المسؤوليَّةِ العامة كالحُكمِ وولايةِ الأُمور، إطار قضاء أو محاكم. وهذا صحيح ولكن واقع الحياة أنَّ الإنسانَ قد يقع في الظُلمِ حتى وهو في بيتهِ مع أُسرتهِ، مع أهلهِ، مع أقاربِه، مع أبنائه، مع نفسهِ كما ذكرنا، ولذلك القُرآن في سورة إبراهيم تحديدًا جاء بأشكالٍ من الظُّلمِ بدءًا من الظُلم الفردي إلى الظُّلمِ الجماعي، ومن ظُلمِ الأُمَمِ إلى ظُلمِ النَّاس، حين يقع بعضهم في اتِّبَاعِ بعض بدون علم. القُرآن جاء لعرض هذه السورة فحدَّثَنا في سورة إبراهيم عن أُولئِكَ الَّذين يتَّبِعُونَ غيرهم في الأفكارِ في كثيرٍ من الإشكاليَّاتِ دون أن يكون لهم هُدًى أو بصيرة وهذا النُّوع من التَّبَعيَّةِ لا يمكن أن يقودَ الإنسان إلى النُّورِ، بل يُوقِعهُ في ظُلُماتِ حيرةٍ، شَكٍّ، تخبُّطٍ، ذُهولٍ عن الحَقِّ، خوضٍ في الباطلِ وأشكالٍ مُتَنَوِّعَةٍ من الظُّلمِ. ووقفنا في اللقاءِ السَّابقِ عند ذلك الدُّعاء الَّذي دعا به أبو الأنبياء إبراهيم (عليه السَّلام)، ذلك الدُّعاء الَّذي يعكس نقاء التَّوحيد في قلبِ أبي الأنبياء؛ ونحن إذ ذكرنا أنَّ من أعظمِ صفات إبراهيم (عليه السَّلام) نقاء قلبه، وسلامة صدره، وصدق الإيمان والتَّوحيد في قلبهِ حتى جاء ربَّهُ بقلبٍ سليم؛ وقد وُصِفَ في أكثرِ من موضعٍ في كتابِ الله. وأعظم صفة من صفاتهِ ذلك القلب السَّليم الَّذي حَمَلهُ في صدرهِ، ولا يسلَم القلب أبدًا إلَّا بقُوَّةِ التَّوحيدِ فسلامةُ القلب: سلامة في التَّوحيدِ، وسلامة في كُلِّ أعمالِ القلوبِ الَّتي لا ينبغي أن تتوجَّه إلَّا لله، فإذا ما سَلِمَ في التَّوحيدِ سَلِمَ من الشُّبُهَاتِ، من الشُّكوك، من الشَّهَواتِ الَّتي تدفع بالإنسان إلى الخوضِ في أشكالٍ من الباطلِ فأصبح القلبَ سليمًا، والقلب يسلم ويمرض، والسَّلامة درجات، والمرض درجات. والسُّؤال: كيف يسلم القلب؟ وكيف كانت سلامة قلب إبراهيم (عليه السَّلام) حتى وقف ذلك الموقف الشَّديد الصَّعب؟ موقف الإنسان البشر فكونه نبيًّا لا يلغي بشريته. ومواقف إبراهيم (عليه السَّلام) عُرِضَت في سور كثيرةٍ منها: حين وقف فقال:”رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ ” من الآية رقم 260 / سورة البقرة ؛ ومنها حين كان يبحث عن فطرةِ الإيمان في داخلهِ وينظُر يمينًا وشمالًا في الكواكب؛ مواقف إبراهيم (عليه السَّلام)كثيرة في القُرآنِ، ولكن الموقف الَّذي ذُكِرَ في سورة إبراهيم يتناسب مع مقصد رحلة الإنسان من الظُلُماتِ إلى النُّورِ، موقف إنسان بشر زوج وأب يقف في وادٍ غير ذي زرعٍ مُنقطِع تمامًا، وفي منطقة مُنقطعة لا شيء فيها من أسباب مادية فلا حياة ولا قُوَّة ماديَّة ولا معنويَّة، ولكنَّهُ كان يحمل ذلك القلب الموَّحِد الَّذي لا يشوبهُ شيء فــسَلِمَ، والقلب لأجلِ أن يسلُم في التَّوحيدِ لابد ألَّا يخالجه أدنى شك في قدرة الله عز وجل. إبراهيم (عليه السَّلام) وقف في ذلك الوادي الَّذي ما كان عامرًا كما هو عامر اليوم، فقد كان مُنقطِعًا ليس فيه أحد إذ انقطعت كل الأسباب، وتوجَّه هذا الإنسان النَّبيّ إلى خالقه يدعوهُ دعوة إنسان ما خالج قلبه شكٌّ في أنَّ رحمةَ الله قريبة، ولذلك ما كان أول ما دعا أن: يا ربّي هاجر وإسماعيل. لا.. لأنَّ هذه من المسلَّماتِ عنده.كيف؟ ربِّي (عزَّ وجلَّ) أوحى إليه بالتَّكليفِ، ولكن لم يُوحِ إليه بما سيأتي بعد، ولا بما سيحدُث لــهاجر وإسماعيل أبدًا. فلا يعلم الغيبَ إلَّا الله سبحانه، ولكن وقرَ في قلبِ إبراهيم السَّليم (عليه السَّلام) أنَّ هاجرَ وإسماعيلَ في كنفِ اللهِ وجوارهِ ومن هو كذلك عيبٌ عليه أن يقلقَ، أو حتى أن يطلُبَ شيئًا مع أن أبواب الدعاء والطلب مفتوحة ومتاحة للجميع. ولكنه أدرك وتيقَّن تمامًا أنَّ الله لا يُضيِّعُهُ بل إنَّ هاجرَ حين سألته: أتترُكنا لأمرٍ في نفسِكَ أم بأمرٍ من الله؟ قال: بأمرٍ من الله. فقالت: إذن لن يُضيِّعَنا، فاذهب. لا داعي لأن تقلق إذ أدركت بفطرتها السَّليمة وسلامة قلبها وصدرها أنَّه لا وجود لمخلوقٍ وأنا في كنفِ الخالق، وأن لا عليَّ من المرزوقِ (تقصد إبراهيم) وأنا في رعايةِ الرَّازِق. فإبراهيم (عليه السَّلام) في النِّهايةِ مخلوق وربِّي (عزَّ وجلَّ) يرزقه كما يرزق هاجر وإسماعيل والبشريَّة جمعاء؛ فهاجر في كفايةِ ورعايةِ وجوارِ الرَّزَّاقِ فلا يهمُّ إذا المرزوق بقي أو رحلَ لأنَّ الرَّزَّاق باقٍ سبحانه؛ فتوجَّه إبراهيم بتلك الدَّعوة الَّتي تفيض إيمانًا وتوحيدًا ويقينًا”رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا” من الآية 35. فمكَّةُ آنذاك ليست بالبلدِ هي صحراء لماذا سمَّاها بلدًا، وكيف؟ هو يعرف بفطرتهِ ونقاء صدرهِ أنَّ هذا المكان سيَعمَر وسيُصبح بلدًا، لماذا هذا اليقين العظيم بالله (عزَّ وجلَّ)؟ لأنه من علامات المؤمن أن يدعو الله وهو مُوقِن بالإجابة؛ ولذلك حذرنا في أكثرِ من موضــــعٍ أن إيَّاك أن تــدعــــو الله (سبحانه وتعالى) بالطَّلباتِ الدُّنيَويَّة بتحديدِ الطَّلبِ والاسمِ والزمانِ والمكانِ والتَّوقيتِ. فهذا لا يليق وليس من بابِ الأدب في العبُوديَّةِ، فأنت عبد وحين تدعو الله بأمرٍ ما من الطَّلباتِ الدُّنيَويَّةِ ذيِّلْهُ بقولِكَ: إن كان خيرًا لي في ديني ودُنياي وآخرتي فاكتُبهُ لي ويسره لي. ولكن حين أُلِح بالدُّعاء بشيءٍ دُنيَويّ مُعيَّن دون أن أُذيِّلَهُ بالخيريَّة من علم الله فهذا يعني أنني لازلت أحتاج إلى جرعة أُخرى من اليقينِ والإيمانِ بالله (سبحانه وتعالى).
حين تدعو الله بما يتعلَّق بالآخرةِ اُدعُه بإلحاحٍ ويقينٍ (اللهم إني أسألك الفِردوس الأعلى)، ولكن حين تدعوه بدُنيا فاترك الأمر بين يديّ الله (سبحانه وتعالى)؛ لأنَّهُ علاَّم الغيوب؛ ولذلك الإنسان قد يدعو بالشَّرِّ دعاءه بالخيرِ. فهذا من طبيعةِ البشرِ. وكمثالٍ تدعو إحداهُنَّ قائلةً بإلحاحٍ: يا رب اجعل فُلانًا من نصيبي، وفُلان لو صار من نصيب من دعت لأصبحت حياتها جحيمًا. قد يمنع الله مطلوبي ويُؤخِّرهُ، ويحرُسَني ويحفظني بعنايتهِ ولطفهِ وكرمهِ ورحمتهِ من أن أُصابَ بهذا الَّذي كُنت أُلِحُّ بالدُّعاءِ فيه، ولكني أُحبُّه! نعم أدعو بالأمرِ الَّذي أُحب وقد يكون شرًّا لي فمن الَّذي أُفوِّضَهُ؟ الله (سبحانه وتعالى)، فأنا حين أُفَوِّضَهُ يكون ذلك بما وقرَ في قلبي من الإيمانِ والتَّوحيدِ والاتِّكَالِ على الله بأنَّهُ قد سبق في علمهِ سبحانه أنَّهُ لن يكتُبَ لي إلَّا الخير. فكُلُّ أوراقك بين يديّ الله، ملفاتك الَّتي ينساها البشر، والَّتي ربما ركنوها أصلًا كــالقُضاة أو الموظفين وغيرهم. نحن نذهب بمُعاملاتِنا أحيانًا وطلباتِ التَّوظيفِ وكُلِّ شيءٍ والموافقة على أوراق رسميَّة وغير رسميَّة وتُركن بين يديّ البشر. افعل ما يُرضي الله (سبحانه وتعالى) وباشِر بالأسبابِ الَّتي أمر بها الله (سبحانه وتعالى)، ولكن كُن على ثقةٍ وأنت تُقدِّم كُلَّ الأوراقَ أنَّ ملفاتِكَ ليست بيدِ البشر. فباشِر حاجاتك وطلباتك الدُّنيويَّة بهذه الرُّوح. بذلك القلب السَّليم القويّ الإيمان، هذا القلب الَّذي تُحدِثُنا كلمات إبراهيم (عليه السَّلام) به. لماذا؟ لأنّي أعلم مُطمئِنًّا أنَّ أوراقي إذا نسيَها البشر فربُّ البشر سبحانه لا ينسى ولا يغفل عنها، وهنا وفي تلك اللحظة يتساقط البشر من قلبك ومن نفسك وذاتك فيرتفع منسوب التَّوحيد والإيمان واليقين بالله، فيُحقِّق اللهُ لك ما هو خيرٌ لك. فأسقِط البشرَ من حساباتِكَ لأنَّهُم لا تُحرِكهُم إصرارتك على الأشياءِ ولا إلحاحكَ، ولا حجم الوساطة الَّتي تتوسط بها عندهم. نحن اليوم في حياتنا الاجتماعيَّة الَّتي نعيش برزَ صنم الواسطة أو الوساطة، أو الشَّفاعة كما يطلق عليها القُرآن، والَّتي هي أشكال وأنواع، ولا بأس أن يطلب الإنسان الشَّفاعة من أحدٍ من البشرِ في نيلِ حقٍّ لا باطل، ولكن حتى يُباشِر ذلك الطَّلب لا بدَّ أن يبقى القلب مُعلَّقًا بالرَّبِّ (سبحانه وتعالى) وليس بالبشرِ، فلا يلتفت القلب، ولا حتى التفاتة إلى أحدٍ من الخلقِ، حينها يُصبح القلب سليمًا. وهذا معنى سلامة القلب إذ سَلِمَ من رُؤيةِ كُلِّ أحد، من تأثيرِ البشرِ وقُدرتِهم، ولكنهم مع ذلك عاجزون عن نيلِ أو كسبِ خيرٍ لأنفُسِهم أو دفع ضُرٍّ، ناهيكَ على أن يكونَ ذلك لغيرِهم. وعليه فعليك أن تستقِرَّ تلك الحقيقة في أعماقِ قلبِكَ.كُلَّمَا كَبُرَت هذه الحقيقة تهاوَت كُلُّ الأصنام من قلبِكَ، وصَغُرَ البشر في عودةٍ لحجمِهم الطَّبيعيّ. فالكبير الوحيد هو الله (سبحانه وتعالى) الكبير المتعال وهذه هي الحقيقة، فمن جوانبِ قُوَّة التَّوحيد في قلبك ألَّا يبقى كبيرًا في قلبِكَ إلَّا الله لأنَّه الأكبر. وعن البشرِ ليس فيهم كبير، ولكن كِبار السِّن يجب احترامهم، مع دوامِ الإبقاء على النَّظرِ إلى البشرِ على أنَّهُم بشر صغار ضعفاء فيهم عجز ولو ملكوا الدنيا. حاجتك بين يديّ الله فاطلُبها منه فهو الكبيرُ القويُّ الغنيُّ القادرُ ولكن البشرَ صغارٌ ضُعفاءُ فقراءُ عاجزونَ ، ولو توهَّمتَ أنَّهُم يمتلكونَ شيئًا فتوجَّه إلى الله كما توجَّهَ إبراهيم (عليه السَّلام) إذ قال:”رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ” من الآية 35.كُل الأصنام، فمكَّةُ اليوم لم يعُدْ فيها أصنام (لا هُبل ولا مناة ولا غيرها) ولكنها فينا. وبداخلنا نحن البشر أصنام من نوعٍ آخر ليست من الحجارةِ. وعند تحقُّقِ دُعاءِ إبراهيم (عليه السَّلام) يسلم القلب بصفاء ونقاء التَّوحيدِ إلى أن دعا في نهايةِ المطافِ، وفي أكثرِ من موضعٍ إلى الصَّلاة؛ ثم قال في النِّهايةِ:”رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)”. لاحظ: هل إبراهيم (عليه السَّلام) ما كان في همٍّ وليس لديه شيء دُنيوي يطلبه؟ إنَّهُ حين تحدث عن القصَّةِ (قصَّة هاجر وإسماعيل) قال:”رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ” من الآية 37. لم يقُلْ: أطعمهم أو اسقِهم، وإنَّمَا قال:”لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ “.
وقد ذكرنا فيما ذكرنا أنَّ أعظم أنواع الهجرة والسَّفر أن تُسافِر بقلبك وجوارِحك إلى الله، وليس أن تُسافِرَ إلى البلدِ الفُلاني ولا إلى الأماكن المختلفة. سافر في طلبِ الرِّزقَ (لا بأس) لأجلِ أن تعيشَ أنت وأُسرتك في حياةٍ أفضل، ولكن إيَّاكَ أن تُسافِر لأجلِ هذه الغاية فحسب، فهذه غاية بسيطة مقابل أن تُسافر لأجلِ أن تكون إنسانًا أفضل وأقرب إلى الله. لذلك أرى أنَّ على كُلِّ طالبي الهجرة أن يُصحِّحوا أوراقهم قبل أن يُقدِّمُوهَا. وأنت صحِّح أوراقك. أحيانًا كثيرة يجمعون كُلَّ الأوراقَ وكُلَّ الصور فهُم بشر في النِّهايةِ. ولكنَّ قد يغفل الإنسان أو ينسى أن يُرفِقَ بها وفي أوَلِهَا ورقة لابد أن تُرفق. ما هي؟ الدَّعوة للصلاة. صلِّ ركعتينِ لله، وسلْهُ من فضلهِ الَّذي لا يملُكَهُ أحد سواه. فلا سفارات الدُّنيا تملُكُهُ ولا أحد. وقُلْ: يا ربِّ إني نويت سفرًا أو هجرة أو ما شابه لأجلِ أن أعيش حياة كريمة، أعبُدك بشكلٍ أحسن وأفضل، حتى لا يبقى في قلبي ولا في نفسي همَّ الرِّزقِ والمعيشةِ الدُّنيويَّة لي ولأولادي، حتى أتخلَّص من الخوفِ. ولذلك الهجرة محمودة (ولكن ليست كُل هجرة) الهجرة الَّتي ذكرها القُرآن حين تكلَّم عن الضُعفاء، فقال:”أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ” من الآية رقم 97 / سورة النساء. لماذا تُهاجِر؟ أمن أجلِ لُقمة عيش أو كيس معونة غذائي؟ هذا لا يستحق فالإنسان أكبر من هذا. إذن تُهاجر لأجلِ حياةٍ أكرم تليق بإنسانيَّتكَ، وتُقرِبُكَ إلى الله أكثر. فإذا كُنت تُفكِّر منذُ الصَّباح الباكِر كيف تُؤمِّن مكانًا لأولادك؟ كيف تُؤمِّن لُقمة عيش؟ كيف وكيف؟ فمتى سيتفرَّغ القلب للعبادةِ؟ إذن أنت تُهاجِر لأجلِ مكانٍ أفضل يُمكِّنَك فيه الله (سبحانه وتعالى) أن تعبُدَه أكثر وأحسن وأتقى وأنقى وتكون إلى الله أقرب. ولذلك قال هذه الكلمة العظيمة: شكوى العبد المؤمِن خليل الرَّحمن إلى ربِّهِ (عزَّ وجلَّ) ليست شكوى بقدرِ ما هي حديث ومُناجاة بين العبدِ وربِّهِ، وهذه المناجاة لا يحظى بها أيُّ أحد رغم يسرها على الإنسانِ. إذا أردت أن تحجز موعدًا مع أيِّ بشر، فلا بُدَّ أن تأخُذ موعدًا قبلها بمدة تتفاوت من ساعات إلى شُهور على حسب انشغاله واستعداده لاستقبالك. ولله المثل الأعلى، ربّ البشر مُناجاتك له في أيِّ وقت تشاء، المهم أن تتفقَّد قلبك، وأن تأتي إليه بقلبك، بأحاسيسك، بهمــومك، بمشاعرك الَّتي يعلمُها ولذلك قال:”رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ” من الآية 38. فأنت أعلم بحاجتى فاقضِهَا لي، وأنا حين أبُثُّكَ ما أشعر به، إنَّما أبُثُّهُ لأجلِ أنَّكَ أنت ربِّي إذ إني لا أشكو همومي للبشر، وهذا لا يتعارض مع حاجتنا للبشر، ولكن القصد أن تكون عظمة المناجاة خالصة لله (سبحانه وتعالى) يتوجَّه فيها القلب لله (عزَّ وجلَّ). إذن همُّ إبراهيم (عليه السَّلام) لم يكُنْ لُقمة العيش، ولا الماء لهاجر وإسماعيل بل كان “لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ” من الآية 37. لذلك في آخر الدُّعاء قال:”رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ” عظمة الصَّلاة والَّتي للأسف في كثير من الأحيان نحن نُهملها سهوًا، نسيانًا، غفلةً، جهلًا. يوجد تقصير في جوانبِ الصَّلاة وإقامتها. فصلِّ صلاةً تليق بإيمانك بالله، وبيقينك بهِ، وادعُ الله وقُلْ:”رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ” من الآية 40. كم مرَّةً في الليلة .. في اليوم .. في النَّهار .. في الشَّهر .. في السَّنة دعونا الله تعالى بهذا الدعاء؟ وكم مرةً في اليوم والليلة دعونا ملحِّين بالدُّعاء أن: (ربّي اُرزُقني الخُشوعَ)، لنحسبها حتى نُدرِك أين الإيمان في قلوبنا؟ أين نقاء التَّوحيد في حياتنا؟ أين مكانة دُعاء الإنسان بإقامة الصَّلاة والخُشوع، هذه الصَّلاة العظيمة أين مكانها في دُعائنا؟ أمَّا أن أدعوَ بِكُلِّ الدَّعواتِ لِكُلِّ أحد، ولِكُلِّ شيء، ثُمَّ لا أدعو أبدًا أن يرزُقني الله الخُشوعَ وإقامة الصَّلاة كما يحب ويرضى فماذا تُسمِّي هذا؟ وهذا يمكن أن يحصل في حياتِنا إذ ندعوالله بكُلِّ شيء، وننسى أن ندعوه”رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ” من الآية 40. ولكن هذا دُعاء إبراهيم (عليه السَّلام) صاحب القلب السَّليم “رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) “رَبَّنَا اغْفِرْ لِي” من الآية 41.كل هذا ويطلب الغُفران! “اغْفِرْ لِي” على تقصيري وزللي وذنوبي، الشُّعور بالافتقارِ إلى مغفرة الله وعفوه هو أعظم أعمال القلب لأجلِ أن يُصبح قلبًا سليمًا، بمعنى آخر: إيَّاكَ أن تشعُر في لحظةٍ من اللحظاتِ أنَّكَ استغنيت عن مغفرةِ الله، لن يدخل أحد الجنة بعمله بل بفضلِ الله وبعفوهِ وبمغفرتهِ.
ثُمَّ تدبَّروا في سلامةِ القلب حين قال: “وَلِوَالِدَيَّ” من الآية 41. مُنتهى البِر أن يأتي بالدُّعاءِ للوالدين مع نفسهِ إذ قال:”اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ”ومن سلامةِ القلب ونقاء التَّوحيد في ذلك القلب السَّليم” وَلِلْمُؤْمِنِينَ” من الآية 41.كُل المؤمِنينَ، وبذلك دخلنا في دُعاءِ إبراهيمَ (عليه السَّلام) إذ دعا لنا صالح دُعاء المؤمِنين؛ ولذلك ذكرنا فيما سبق أنك إذا كنت تريد أن تصل إلى درجةِ القلب السَّليم كُلَّما دعوت بدعوةٍ لنفسِكَ، لأهلِكَ وأولادك، لأيِّ أحد يعزّ عليك فأشرك معه بقيَّة المُؤمِنينَ، ولن ينقص من دُعائك شيء، بل سيُرفع دُعاؤك بهذا.
بعض النَّاس أشحَة حتى في الدُّعاءِ؛ إذ لا يدعو إلّا لنفسِهِ وأولاده أو أهل بيته. والمطلوب الدُّعاء للمُؤمِنينَ. ثُمَّ بعد ذلك جاءت الكلمة الفاصلة وتدبَّروا في الوصلِ، “وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ” من الآية 42. ما علاقة الظالمين الآن؟ الآية انتهت بـ “رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ”ما وجه التَّرابُط؟ قد يقول الإنسان لأولِ وهلة: لا أرى ترابُطًا، بينما القُرآن كُلّه يشُدُّ بعضه بعضًا كالبُنيانِ. إذن لماذا؟ الموقف موقف دُعاء، والمقصد الخروج من الظُلمةِ كُل الظُلم إلى فسحة النُّور، والظُّلم من أعظمِ الظُّلماتِ، وتدبَّروا في ذاك التَّرابُط العظيم والتَّناسُب، قد ينشغِل المظلوم بالظَّالِم والدُّعاء عليه، فلا يلتفِت إلى كُلِّ هذه الأدعية العظيمة الَّتي جاءت على لسانِ إبراهيم (عليه السَّلام) فَرَبِّي (عزَّ وجلَّ) أعطاني هذه الآية ليُسكِّن قلب المظلوم. فالإنسان حين يُظلَم يشعُر بنارِ الظُّلم (والظُلم ظُلُمات) وقد تأكُل تلك النَّار أحيانًا الإنسان حين يبقى محصورًا ومحبوسًا أسيرًا لا يُفكِّر إلَّا في الظَّالمِ الَّذي ظَلَمَهُ فيدعو ويقول: ياربّ انتقم منه، يا ربّ عليك به؛ فربِّي (عزَّ وجلَّ) قال: “وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ” من الآية 42. قاعدة ضعها في قلبِكَ حتى تطمئِن وتتخلَّص، حتى تُفوِّض أُمورك لله في كُلِّ من ظلمك (زوج، ابن، بنت، أخ، عم، مسؤول) كائن من يكون”وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا” لم يغفل ربِّي. إذن هو يعلم وهذه من بديهيَّات اليقين والإيمان بالله (عزَّ وجلَّ). إذن ماذا تفعل أنت؟ استمع إلى السنة الإلهية في قوله سبحانه”إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ” من الآية 42. لماذا؟ لتكون العقوبة أقسى وأشدَّ، وتتناسب مع الوقوعِ في الجُرمِ الَّذي أجرموه في حقِّ البشرِ كُلِّ البشر. ولذلك إيَّاك أن تظلِم، بمعنى آخر: تخلَّص من مظالِم البشر قد تظلم إنسانًا في عملك، في محيطك فماذا تفعل؟ ألِحَّ بالدُّعاء على الله (عزَّ وجلَّ)؛ لذلك أعظم الأدعية قبل أن تخرُجَ من منزلك “اللهم إني أعوذ بك أن أضلَّ أو أُضلَّ، أو أزلَّ أو أُزلَّ، أو أظلمَ أو أُظلم، أو أجهلَ أو يُجهلَ عليَّ” تخيَّل إلى أي درجة أني يمكن أن أقع في ظُلمِ أحد دون أن أدري، ما الحل؟ الإلحاح بالدُّعاءِ على الله (عزَّ وجلَّ)، والتَّخلُّص من المظالِم إذا كُنت مُتأكِدًا أنّكَ قد ظلمت أحدًا من البشر فادعُ له، تصدَّق عنه، رُدَّ المظلمة إن استطعت، خلِّص الحساب في الدُّنيا، لأنَّ حساب الآخرة عسير. فإيَّاك أن تُعطِّلَ الحسابات إلى الآخرة. والظُّلم قد يكون بكلمة، ممكن أن يكون الشَّخص المظلوم لم يسمعها، ولكنَّ الله يسمعها، قلت كلمة لا ينبغي أن تُقال في حقِّ إنسان وما أكثر البشر الَّذين يقعون في هذا النَّوع من الظُلمِ! كلمة لا نُلقي لها بالًا هي ظُلم لا ينبغي أن تُقال.
وتدبَّروا في الكلمة إذ قال:”الظَّالِمُونَ” أي جُملة الظَّالمينَ، وطبعًا أعلى أنواع الظُّلم الكُفر والشِّرك. إيَّاكَ أن تكون في زُمرةِ الظَّالمينَ يوم القيامة فهي زُمرة مشؤومة، لا تظلم أحدًا بكلمة ولا بظنٍّ، طهِّر القلب، وسلِّمْهُ من الظُّلمِ. من أعظمِ ما يحول بين الإنسان وسلامة القلب والصَّدر هو الظُّلم “إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ” إذن ما المفروض على المظلوم؟ ألا ينشغل بالظالم (فيا أيُّها المظلوم) اترك عنك من ظلمك لأنَّكَ ستبقى حبيسًا في الأسرِ طوال عمرك. ماذا تفعل؟ اشتغل بما ينبغي أن تفعله في حياتِكَ. وماذا عن الظَّالمينَ؟ لا تخشَ شيئًا فكُلُّ الحسابات موجودة في ملفات. الظُّلم طبعًا صعب، وبعض النَّاس أحيانًا يحتاجونَ إلى أن يُنفِسوا عن أنفُسِهم، ولكن لا يُصبح التَّنفيس عندك عادة. فهذه هي الإشكاليَّة، إذا قلت مرة فكفى وانتهى الأمر؛ لأنَّ بعض الأشخاص يعيش في الأسرِ. فإذا أنت عِشت في الأسرِ فأين يقينك وإيمانك بالله (عزَّ وجلَّ)؟ إشكاليَّة خطيرة جدًا. الإنسان – كما ذكرت قبلًا – ممكن أن يكون موظفًا أحيانًا وطوال سنين حياته العمليَّة مثلًا في التدريس أو في الطب قد يقع في ظُلم قبل أن تُصفى الحسابات في التَّقاعُد ويأخذ براءة الذِّمَّةِ. فبعض النَّاس يأخُذها (براءة ذمة) وهذا هو المطلوب فأرفق هذه الورقة لِكُلِّ من عملوا واشتغلوا معك قديمًا وحديثًا، بعضهم سافر والبعض توفَّاه الله، وعليك أن ترفعها لله (سبحانه وتعالى). وقُل: (اللهم إنَّ لك عليَّ حقوقًا كثيرة فيما بيني وبينكَ وحقوقًا كثيرة فيما بيني وبين خلقك، فما كان لك منها فاغفرهُ لي – فربي (عزَّ وجلَّ) يتجاوز- وما كان لخلقك فتحمَّلْهُ وأدِّهِ عني). فهناك أشياء لا أستطيع أن أُحصيها. فماذا أفعل بها؟ كيف يمكن أن أُكفِّرَ؟ هنا يأتي دور كثرة الدُّعاء للمؤمِنينَ (اللهم من ظلمته في يومٍ من الأيامِ عمدًا أو سهوًا، جهلًا أو نسيانًا اغفر له وارحمه وارفع درجتهُ وعوِّضهُ خيرًا) دُعاء لمن ظلمت حتى ولو لم تكن تعرفه. بعض الأشخاص يقول: الحمد لله الذي عافاني فلم أظلم أحدًا في حياتي. أمُتأكِّد أنت ؟! من الَّذي ووسوس لك بهذه الوسوسة؟! إذا كان سيد الأنبياء والمرسلينَ علَّمَكَ أن تستعيذ بالله من أن تظلم أو تُظلَم حتى تدرك حجم البُعد عن صفاء القلوب السليمة؛ ولذلك صحِّح واستدرِك ما فات، اخرج من المظالِم، فكثيرٌ من النَّاسِ لا يلتفتون لهذه الجزئيَّة في حياتِهم ومجالات عملهم المختلفة. فكم مرةً أخَّرت ورقة أو مُعاملة ما كان ينبغي لك أن تُؤخِّرها؟ تُصلي وتركع وتسجد وتصوم وتؤدي كُل الفروض، ولكنَّك أخَّرت مُعاملةً سهوًا أو غفلةً أو كسلًا، فصحِّح علاقتك مع الله، واستدرك ما فات فهذا ظُلم؛ إذ إنَّ تأخير مصالح النَّاس ظُلم، وكذلك تأخير العدالة، وتأخير حقوق النَّاس بل ومنعها هو ظُلم، أشكال الظُلم كثيرة والقائمة طويلة. لماذا ربي (عزَّ وجلَّ) يُؤخِّرهم إلى يوم تشخص فيه الأبصار؟ وكيف تشخص الأبصار؟ تُفتح لا تُغلق ونحن نعلم إعجاز القُرآن، فالعين طبيعتها أن ترُفَّ فلا تبقى مفتوحة ولكن في هذا الموقف تبقى العين مفتوحة فلماذا؟ بسبب الخوف فاخش الله (عزَّ وجلَّ) الآن قبل يوم الحساب.
تدبَّروا كيف تصنع سورة إبراهيم سلامة القلب، لا تظلم أحدًا، وبرِّىء الذِّمَّةَ لأنَّ الرَّبَّ الَّذي تعصيه جبار عظيم، ولذلك الآيات الَّتي جاءت بعدها (عزيزٌ ذوانتقامٍ، قهَّار) لِتُدخِل في قلبِكَ الرَّهبةَ من أن تقعَ في ظُلمِ أحد، فالقُرآن يُربِّي: “مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ” من الآية 43 .كُل هذا تصوير عظيم، فالرُّؤوس الَّتي كانت مرفوعة للأعلى تعاليًا وتكبُرًا وتجبُرًا على النَّاسِ وكأنها ستصل إلى السماء ستعاقب بالذل والهوان، وقد نهى القرآن عن مشية الخيلاء. فقال تعالى: “وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ”من الآية 37 / سورة الإسراء. وأيضًا قال له من البداية: “إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا” 37 / سورة الإسراء. علامَ تتكبر؟ أعلى ما أعطاك الله؟ وهو القادر أن يأخُذه سبحانه في ثانيةٍ وأقل، أعلى بدن قويٍّ وصحة؟ انتبه واستيقظ! إذ قال تعالى:”مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ “والأفئدة ما حالها؟ “هَوَاءٌ” فرغت من كُلِّ شيء. وهنا الإعجاز العظيم فهؤلاء أفئدتهم كانت مليئة في الدُّنيا بالبشر، بالأصنام على مُختلف أشكالها، لكن حين جاءت السَّاعة الحقيقيَّة صارت فارغة من كُلِّ أحدٍ. أمَّا إذا كان القلب (ولله المثلَ الأعلى) في الدُّنيا مليئًا بالحبِّ والتَّوحيد والإيمان بالله، فهل يُصبح يوم القيامة “هَوَاءٌ “؟ أكيد لا. إذ “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمنوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ” من الآية 27.
وتدبَّروا معي في آيات سورة إبراهيم فالموقف يحتاج إلى تثبيت. فمن أين يأتي؟ نقاء التَّوحيد والكلمة (لا إله إلَّا الله) في قلبِكَ وحياتِكَ. والآن صرنا نعرف لماذا في ذلك اليوم يُثبِّت الله الَّذين آمنوا؛ إذ إنَّ القلوب تطير من الخوفِ والهلع من كُلِّ شيء. والحل؟ قال:”وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ” من الآية 44. تدبَّروا في الكلمة قال:”فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا” من الآية 44. ظُلم ..ظُلم .. ظُلُمات، ما هو طلبهم؟ “رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ” من الآية 44. دقائِق فقط. ماذا تفعلونَ في دقيقةٍ أو دقيقتينِ أو يوم أو يومينِ؟! أنت عِشت سنوات عديدة فماذا تُغني عنك الدَّقيقة أو الدَّقيقتان؟ تدبَّروا “نُجِبْ دَعْوَتَكَ” من الآية 44. الأفعال الَّتي يريدون القيام بها لم تعد مقبولة اليوم، كُل الأموات الَّذين لم يستجيبوا لأوامرِ الله (عزَّ وجلَّ) وكُل من ظلم إذ قالوا: “نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ” من الآية 44. واتِّباعِ الرُّسُل وإجابة الدَّعوة واحدة من أعظمِ أسباب ردِّ المظالم إلى أهلِها وأنت الآن قادر عليها. هذا الشَّيء الَّذي سيُحرَم منه البشر يوم القيامة (التَّأخير لأجلٍ قريب)، والآن ونحن أحياء الأمور بين أيدينا، فافعل وتخلَّص من كُلِّ المظالم، وأجِب الدَّعوة الآن وليس غدًا. البعض من النَّاسِ يُؤخِّرها فيقول: لا زال الوقت مُتاحًا، وإن شاء الله في رمضان سأفعل كل ما ينبغي، ما أطول أملك يا أخي! نحن نسأل الله أن يُبلِّغنا رمضان، ولا ندري هل سنكون من أهلهِ أم لا. إذا أردت أن تفعل شيئًا فافعله الآن، لا تُؤخِّر.
وتدبروا في الكلمة إذ قال تعالى:”أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ” من الآية 44. آيات تقرع القلوب قرعًا. أنتم أقسمتم وقلتم: ما لنا من زوال. يا لهذا الجبروت والطُغيان والظُّلم! كقصَّةِ ذلك الرَّجُل صاحب الجنتينِ حين قال: “مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36)”سورة الكهف. بينما هنا قال:”أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ”من الآية 45. صحيح فمُناسبة الخطاب فيه شيء من الحديث عن قُريش في هذه الجُزئيَّةِ، أنَّ أهلَ مكَّةَ كانوا يمرُّون على مساكنِ عاد وثمود ومدائن صالح والأُمم “وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا” وكلمة (سَكَنْتُمْ) ليست محصورة فقط في أهلِ مكَّةَ وهم يمرون على مساكن الظَّلَمة أو ماشابه، بل تمتد إلى عصرنا كحالة مُشابهة. فنحن اليوم نسكن ونمشي على أرض من سكنوا قبلنا بألف سنة أو أقل، ولنقُل مائة سنة من حضارات وأُمم؟ فنحن نمشي على أرض تُرابها من رُفاتِ البشر وهذه هي الحقيقة، هل توجد مظالم؟ أكيد، فما المطلوب؟ الاعتبار وأخذ الدَّرس قال سبحانه:”وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا”. وذكرنا أكثر من مرة أنَّ دراسة التَّاريخ في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا آن لها أن تُصحَّحَ، فالتَّاريخ ليس أسماء ولا تواريخ ولا مُدنًا نملأ ونضُخُّ عقل الطَّالب المسكين بها، والمطلوب كيف فعلنا بهم؟ كيف دُمِرَت تلك الأُمم القويَّة؟ ما أسباب دمارها وفنائها وزوالها؟ طبعًا واحدة من القواعد العامة أنَّ لكل شيء نهاية؛ إذن عليَّ أن أُدرِك أنَّ كُلَّ الأُمم تنتهي كما أنَّ كُلَّ البشر في يوم من الأيام سيموتون على أي حال أقوياء، أصحاء، ملوكًا، وزراء، كُبراء، أغنياء، فقراء .. فأين ذهب قوم لُوط؟ أين أجدادهم؟ ألا يرونَ؟ ألَا ينظرونَ؟ ألَا يسمعونَ؟ أليس هناك أحد يُسمعهم أنَّهُم سينتهون كما انتهى أمر السابقين؟ ما المطلوب؟ اِفعل ما ينبغي أن تفعله قبل أن تنتهي. قال تعالى:”وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)”كيف هذا؟ أصحاب مكر ومكائِد ودسائس ومُخططات على مدى سنوات. لأي شيء؟ للتدمير، تدمير أي شىء؟ تذكروا في سورة إبراهيم رحلة الإيمان والمؤمِنينَ والكلمة الَّتي كانوا دائمًا يُردِدونها “لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا” من الآية 13. لن تعيشوا معنا وأنتم على الحقِّ، كما فعل كُفَّار مكَّةَ في نبيِّنا (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) والآيات تُحدِثُنا عن المكرِ ونبيُّنا (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) نزلت عليه سورة إبراهيم قبل سنوات معدودة من الهجرة إلى المدينة وعلم أنَّهم سيمكرون بهم وسيخططون. ومكرهم فظيع وعظيم وبشع ولكن”فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ” من الآية 47. لن يُخلفَ الله وعده ولكن هل فقط الرُّسُل؟ بل كُل المصلحينَ والمجدِدينَ وكُل البشر. بأي شيء؟ بأنَّ نهاية الظَّالِم لا بدَّ أن تأتي وستأتي. وعليك أن تكون مُتيقنًا بهذا مُدرِكًا له.
ثُمَّ تدبَّروا في نهايةِ الآية”إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ” من الآية 47. ينتقم، فإيَّاكَ أن تتعرَّض لانتقامِ الله (عزَّ وجلَّ) فهذه كارثة، وأعظم ما يُعرِّض الإنسان لانتقامِ الله (عزَّ وجلَّ) هو الظُلم فلا تظلم أحدًا. فمتى ما ظلم الإنسان -وبحسب الظُلم والمظلمة- تعرَّض لانتقامِ الله (عزَّ وجلَّ) “إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُوانْتِقَامٍ”. ومن هنا نفهم الحرص الشَّديد عند الصَّالحين والسَّلف أن يتبرأوا من المظالِم، ونبيّنا (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) يوم أن وقف أمام النَّاس (فيما معناه): أيُّها النَّاس من كانت له علىَّ مظلمة فليأتِ فليقتص مني. هونبي وسيِّد الأنبياء (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) فلماذا؟ لأنَّ الظُلم ظُلُمات والسُّؤال الَّذي قد يجعل الإنسان يتوقف مع نفسهِ: لماذا لا نُفكِّر أننا في يومٍ من الأيام ظلمنا بشرًا؟ لماذا لا يطرأ على بالنا أن نتخلَّص من المظالِم؟ لماذا حتى حين نستغفر الاستغفار العابر لا يمرُّ بخاطرنا ولا بمُخيِّلَتنا من يمكن أن نكون قد ظلمناه في يوم؟! قال تعالى:”يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ” من الآية 48. هذه الأرض الَّتي عهدتموها هادئة ساكنة لا تمور، لا تتغيَّر ولا تتبدَّل. بقُدرةِ الله تُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرضِ فما عُدتُم ستعرفونَ الأرض ولا السَّماء فكُلُّ شيء تغيَّر. قال:”وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ” من الآية 48. الَّذي قهرَ عبادهِ، وتدبَّروا معي في أسماء الله (عزَّ وجلَّ) وصفاتهِ الَّتي جاءت في هذا الموضع في خواتيم سورة إبراهيم، وكمشهد فيه برز الجميع الظَّالم والمظلوم لله الواحد، بعضهم جعلوا له شُركاء في الدُّنيا فيقول لهم أين شُركاؤكم؟ إشكاليَّة خطيرة في حياةِ المسلمين اليوم، حين لا يلتفتونَ إلى ما يمكن أن يكون أصنامًا في حياتِهم وقلوبِهم من دون الله. وذكرنا هذا حين تكلمنا عن التَّبَعيَّة فكريَّة أو دينيَّة أو سياسيَّة كائنًا ما تكون. والتساؤل هنا هل يمكن أن يكون في حياتي صنم لم أنتبه له؟ المفروض أن أُوَّحِد لأنّي سأبرُز أمام الله الواحد، فلن تُغني عني جماعتي الَّتي حولي؛ فلا جماعة ولا طائفة ولا فرقة، فُرادى كما خلقناكم أول مرة فستُحاسب فردًا “إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شيء” من الآية 21. لا.. فـــ” لَوهَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ” من الآية 21. والمطلوب؟ نقِّ قلبك من كُلِّ الأصنام والتَّبعيَّات المزيَّفة، استيقظ قبل أن تُبدَّلَ الأرضُ غير الأرضِ لأنَّ القضيَّة ستحدُث في طرفةِ عين أو أقل. فجهِّز الملفات والحسابات والأوراق ورتِبها، فلا تدري متى سيكون الإقلاع؟ ثُمَّ تأتي الآية مرة أخرى بذلك المنظر الصَّعب الشَّديد الَّذي يُنفِّر الإنسان من الظُّلم. فالإنسان العاقل حين يقرأ هذه الآيات العظيمة لا يمكن أن يقع في ظُلمِ أحد “وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ” من الآية 49. من هُم؟ الَّذين ظلموا “يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ” من الآية 49. أصفاد؟! من حبسهم؟ من قيَّدَهُم؟ من له هذه القُدرة؟! هذا ظالم والدُّنيا كانت تخاف من نظرةِ عينِه. ففي كُلِّ وقت يوجد ناس طواغيت في كُلِّ مجالات الحياة. أحيانًا بعض الأزواج يُصبح كالطَّاغوت في بيتهِ على زوجتهِ المسكينة، أو على أولادهِ. ماذا سترى إذن نتيجة هذا الظُّلم؟ قال: “سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)”وصف عظيم. مُقيَّدونَ محبوسونَ مهانة ومذلَّة سواد يعلو تلك الوجوه. من أين جاء السَّواد؟ لا نُورَ لهم في الدُّنيا فلا نُورَ لهم في الآخرة، وسورة إبراهيم رحلة من كُلِّ الظُّلُمات إلى النُّورِ لماذا كُل هذا؟ قال تعالى:”لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ” من الآية 51. أكلُّ هذا جزاء؟! جزاء التَّجويع والتَّقتيل. وهذا نموذج لأنَّ الإشكاليَّة في كثيرٍ من المسلمينَ أنَّهُ يعتقد أنَّ الظَّلمة والظَّالمينَ فقط هُم الَّذين يُقتِّلوُنَ ويذبحُونَ ويضرِبونَ جماعيًا، ولكن اُنظُر إلى خاصَّةِ نفسِكَ لأنَّ هؤلاء لا عليكَ منهم؛ إذ سيأتي اليوم الَّذي ينتقم الله منهم عاجلًا أو آجلًا. بعض المسلمينَ حين يرى أنَّ الظَّالمَ قد مات موتةً طبيعيَّةً يستغرِب ويتزعزع إيمانه بالله، ويكون لسان حاله هل انتهى كل شيء؟ وكأنَّهُ لا يُؤمِن بيومِ الحساب، ألَا تُؤمِن بيومِ الحساب؟ فقد قال القاعدة سبحانه “يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ” من الآية 42. فلا تنتظر أن نهاية الظَّالم ستكون عجيبة وغريبة وربِّي سينتقم. لا فقد يحدُث في الدنيا وقد لا يحدُث فليست قاعدة. بعض المسلمين عندهم هذه الإشكاليَّة ويستغربونَ جدًا حين يُملي الله (سبحانه وتعالى) للظالم، بينما القُرآن يُنبِهُنَا ويقول إنَّهُ يُملي لهم لأجلِ أن يأخُذَهُم أخذ عزيز مُقتدر، وربِّي (عزَّ وجلَّ) قال: “وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ” 183 / سورة الأعراف. فلا تتدخَّل فيما يخُصُّ الله (سبحانه وتعالى) في الطَّريقة الَّتي يُؤخذ بها الظَّالم؛ إذ إنَّ هذا ليس من عملك ولا من اختصاصك، فلا تنشَغِل به فما المطلوب منك؟ أن تقف عند الآية قال تعالى:”لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ” من الآية 51. وتدبَّروا في نهايتِهَا إذ قال:”إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ” من الآية 51. بعض الظَّالمين يظلم طول عمره ويموت المظلوم ولا يرى نهاية الظَّالم، وهذا واقع ممكن لأنَّ الفيلم مازال مستمرًا ولم ينتهِ بعد، هذا هو الجزء الأول بينما الختام والنِّهاية لم تأتِ بعد؛ إذن”سَرِيعُ الْحِسَابِ” لماذا نشعُر أنَّ السَّنوات تمُرُّ علينا طويلة؟ لأنها حسابات البشر وحسابات الله (عزَّ وجلَّ) أنَّ يومًا عند الله (سبحانه وتعالى)” كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ”من الآية رقم 47/ سورة الحج. إذن هذه الأولويَّات ينبغي أن تسكُنَ قلبكَ، وتهدأ نفسك بها، وتكون مُتيقنًا أنَّها ستحدُث. ولذلك إيَّاكَ إن ظُلِمتَ في يومٍ من الأيامِ أن تشتغِل بالظَّالمِ، أو أن يُشغِلُكَ الظَّالم عن نفسك، وإلَّا ستبقى في دوَّامة. وهذه إشكاليَّة خطيرة. والمطلوب؟ اشتغِل بنفسِكَ واترك عنك أمر الظالم ربِّي (عزَّ وجلَّ) سيُعطيك، وعنده موازين الحقّ تُوضع ليوم القيامة، فلا تُظلم نفس ولا حتى مثقال ذرَّة، فخلِّص الذَّرَّات الَّتي عندك في الحساباتِ أي (براءة ذِمَّة). كثير من النَّاس في مُجتمعاتنا وحياتنا حتى ثقافة الاعتذار ما عادوا يُدرِكونها ولا يفهمونها، الاعتذار لن يُنقِص من قدرك شيئًا، بل على العكس سيرفع قدرك عند الله وعند النَّاس وأمام نفسِكَ، اعتذر لمن أسأت إليه، وأخطأت في حقّهِ حتى ولو كان طفلًا صغيرًا، راجع نفسك فبعض النَّاس يعتبر أنَّ الاعتذارَ ضعف، ويقول: إذا اعتذرت أضعف، وأنا لا أحب أن أكون ضعيفًا أمامه، أتُحب أن تقف ذلك الموقف؟ احسب الحساب بطريقة صحيحة، واعتذر. حسنًا، أنت لا تُحب الاعتذار ولا تريده. تدبَّر في موقف النَّبيّ (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) في آخر لقاء ووداعه للنَّاس ماذا قال؟ (اللهمَّ هل بلَّغت؟ اللهمَّ فاشهد) قُمت بما عليَّ أم لا؟ كُل هذه الأشياء لم يعُد لها قيمة كبيرة في حياتنا فأقِم لها القيمة. اعتذر لمن أخطأت في حقِّهِ يقينًا أو شكًّا. تراجع فعندك فسحة أمَّا غدًا أو بعد غد فلن تكون هناك فسحة موجودة. أتريد أن تقف هذا الموقف، وتقول لله (عزَّ وجلَّ): ” رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ” من الآية 44. وحين يأتي الأجل”لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ” من الآية رقم 34 / سورة الأعراف. أمامك ساعات. بعض المسلمين أسهل عليه أن يذهب إلى مكَّةَ ويطوف ويعتمر ويُصلي، ولكن لا يقول كلمة أسف أو اعتذار لأحد قد ظلمه في يوم من الأيام. مرة أخرى نقول صحِّح أولوياتك فردُّ المظالم واجب، والعُمرة بعد العُمرةِ على عظمتها هي نافلة، والنَّافلة لا تُغني عن الواجب، أعِد الحقُوق إلى أصحابها، سامح واعتذر واصفح وقُل أنا آسف ربِّي سيُعلي قدرك وشأنك. نحن عندما لا نرضى بثقافةِ الاعتذار يكون ذلك بسبب أننا أقمنا للمخلوقينَ مكانًا والمطلوب منا “وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا” من الآية رقم 105/ سورة يونس. لا تُقم وجهك وقلبك للآخرينَ فتتخبَّط يمينًا وشمالًا، بمعنى أن لا يكون النَّاس همَّك الأول والأخير، ولكن ماذا سيقولون عنى لو اعتذرت؟ أنا أريد أن أقول كلمة أوجهها لكل النَاس الَّتي تتقاعد ويخرجونَ من وظائِفِهم (بسلامة الله وحفظهِ) فعادةً يلقي هذا الشخص كلمة، أليس كذلك؟ كثير من النَّاس تتكلَّم عمَّا أنجَزَته، والله أعلم بنوايا العبد في عمله إن كان مبتغيًا وجه الله أو مرائيًا ما المطلوب أن تفعل في نهايةِ الكلمة أو في أولِهَا؟ اعتذر أمام الملأ وقُل: أنا أعتذِر عن كُلِّ تقصير وتفريط، عن كُلِّ خطأٍ صدرَ مني عمدًا أو سهوًا، غفلةً أونسيانًا، أعتذر لِكُلِّ أُولئِكَ الَّذينَ يمكن أن أكون قد أخطأت في حقِّهم. بعض الأشخاص قد يقول: النَّاس ستنتقدني، وتقول: أكيد هذا عمل أعمالًا قبيحة في حياته وإلَّا لماذا يعتذر؟ فليقُل النَّاس ما يقولون المهم أنت لا تعرف كيف يرتفع قدرك عند الله (عزَّ وجلَّ) بهذا العمل، لا تدري لعل هذا يكون أحسن ما فعلت في حياتِكَ. ولك في نبيِّنا (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) قُدوة حسنة (اللهمَّ هل بلَّغت؟) أي: هل أدَّيت واجبي؟ والنَّاس عليه شُهود، شيء مُهم في حياتِنا أنَّ كثيرًا من اللمسات غفلنا عنها والمطلوب أن تتراجع، وتصحِّح. من أخطائنا الشائعة في مجتمعاتنا عدم تربية الأطفال على ثقافة الاعتذار وجبر خاطر من أساؤوا إليهم. بل نوجد لهم ألف عذر حين يخطئون. هناك قصَّة جميلة رائعة عن الاعتذارِ وببساطة كان هناك شخص في بلد أجنبي – حيث يربون أبناءهم منذ الصغر على ثقافة الاعتذار- لديه سُلطات كبيرة في يومٍ من الأيام خرج الرَّجُل صاحب السُّلطات الكبيرة يسأل أصحابه، والعاملين معه، والموظفين من أسأت إليه؟ هو يريد بهذه الطَّريقة الحصول على براءة ذمَّة غير مكتوبة، ليس من مكان العمل الَّذي تصدُر منه الأوراق مختومة ومعتَمَدة ورسميَّة، بل من النَّاس أيضًا. وقد ظلَّ يسأل والنَّاس يقولون له: لا نعرف! إلى أن وصل إلى رجل عجوز كان يشتغل عنده في المكان، كان هذا الرَّجُل عاملًا بسيطًا لا يلتفت إليه أحد ولكنَّهُ كان يعرف ما يريده الرَّجل صاحب السُّلطات فقال له: أنا أعرف، سأله من؟ أجابه قائلًا: في يومٍ من الأيام، وفي السَّاعة كذا كنت في استقبال مسؤول كبير جدًا، وكان هناك شخص عنده حاجة، ويريد أن يصلَ إليك، وبعد مُحاولات عديدة وبعد صبر وعناء تمكَّن أخيرًا من الوصولِ إليك (وهذا مثلما يحدُث الآن مع المسؤولين بغض النَّظر عن السَّبب في صعوبة الوصول إليهم)، هذا الرَّجُل كان يريد أن يضع في يدِكَ ورقة، وقد كان. ولكنَّك انشغلت عنه بالمسؤول الَّذي عن يمينك، وألقيت الورقةَ في وجههِ. قال الرَّجُل مُتعجبًا مُستنكرًا: أنا؟! أجابه: نعم أنت، قال له: لا أذكُر شيئًا ” أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ ” من الآية رقم 6 / سورة المجادلة. فالإنسان ينسى. ما الحل؟ ما العمل؟ واستكمالًا للقصَّة عن الرَّجُل صاحب الحاجة الَّذي ذهب بعد ما ألقى صاحب السُّلطات الورقةَ في وجههِ وقد أصبحت لديه مشكلات ثُمَّ خرج بعد ذلك من العمل وتغيَّرت الأحوال. وعودة للحوار الدائر بين الرَّجُل صاحب السُّلطات والعامل العجوز كالتالي: – صاحب السُّلطات: أريد منك طلبًا. أُريد أن تُساعدني وتعينني إلى أن أصلَ إليه. – العامل العجوز: أنا لا أعرف حتى إن كان من بين الأحياء أو الأموات؟! – صاحب السُلطات (بإلحاح): افعل أي شيء. أريد أن أصلَ إلى هذا الإنسان. واستمرَ البحث حتى تم العثور عليه بعد طول صبر وعناء، ولم يتغيَّر حاله المادي كثيرًا عما كان عليه حين كان يعمل عنده. إنسان بسيط متواضع فقير، أولاده بحاجة ماديَّة وأشياء من هذا القبيل، يقول: فجلسنا إليه وبدأ يسرد العجوز الَّذي تذكَّر الموقف ولم ينسه؛ إذ إنَّ نسيان هذا الموضوع صعب، وبدأ يُعيد الشَّريط لأنَّ حرارة ووخز الظُّلم مُؤلِم وقاسٍ، يقول الشَّخص الَّذي جاء يطلب منه السَّماح والصَّفحَ أنَّ الرَّجُل العجوز أعاد الشَّريط بأشياء لم أتخيَّل أنني قد فعلتها، أنا لم أقصد، ولا أدري كيف؟! أكُلُّ هذا حصل مني؟! لو قلت هذا عن أي شخص آخر لقلت لك إنَّهُ ليس بإنسان، بل وحش، أأنا فعلت هذا؟! ذكَّرهُ بتفاصيل الأشياء ولحظات الألم وكسر الخاطر الَّذي مرَّ به، ثُمَّ قال له: أنا لا أُذكِّرُكَ لأجلِ أن تُعطيني (وقد حاول بالفعل معه بعد ذلك، يريد أن يُطيِّب خاطره بنقود كثيرة، ولكنَّهُ رفض) لأنَّ ما انكسرَ يصعُب أن يُصحَّح من جديد، فكثير من الأشياء حين تنكسر تصعب إعادتها لوضعِها السَّابِق وخاصَّةً القُلوب، فإيَّاك أن تكسر قلبًا أو خاطرًا، القلوب حين تُكسر من قِبَل البشر تصعب إعادة التَّركيب مرةً أُخرى فاجبُرها. ومن أشكالِ الجبر هذا الاعتذار الَّذي نتكلَّم عنه، والشَّاهِد أنَّ الرَّجُل كما ذكرنا لم يقبل التعويض بأي شيء من المال، هذا الرَّجُل البسيط المتواضع كل ما قاله له: أُريدك فقط أن تتذكَّر أنت وكل من يعرف أو يسمع أو تروي قصَّتك له أنَّ عينَ المظلوم حين يُظلَم ممكن أن تنام، وعين الظَّالم ممكن أن تنام ولكن العين الَّتي ترى الظَّالم والمظلوم لا تنام. قصة فيها عِبرة. اخرج من المظالم فأنت الآن تقدر على ذلك، وأولًا تجنَّب الظُّلم بكثرةِ الدُّعاء والإلحاح على الله (عزَّ وجلَّ)، وفي نفسِ الوقت إذا حصل أو لم يحصل تخلَّص من كُلِّ المظالم، وأعد دفتر الحسابات، وأنا شبه واثقة أنَّ في سجلاتنا اليوم لا بدَّ أن يكون هناك قائمة لأسماء من ظلمناهم، ولكن نحن نريد أن نطويها في عالم النسيان، أخرجها وصحِّح ما استطعت أن تجبُرَهُ فاجبُرْه، وما لم تتمكَّن من جبره أكثِر من الدُّعاء، أكثِر من الصَّدقةِ عنه، أكثِر من عمل الخير عن ذلك الشَّخص الَّذي ظلمته، أعلن البراءة أمام الله، أمام نفسك، أمام النَّاس، كل من ظلمته أنا أعتذر منه فقُل هذا. هذا لن يُنقِص من قدرِكَ شيئًا. وعلى سبيلِ المثالِ في التَّجمُعات العائليَّة وأنا أرى في الأسواق بمناسبة حلول شهر رمضان (مُبارك على الجميع) الاستعدادات بخياطة الجلاليب (ما شاء الله) ولا بأس بذلك ولكن استعد لرمضان بصفاء القلب. ماذا يضُرُّكَ حين تطلب السَّماح من النَّاسِ؟
تدبَّروا في آخر كلمة في الآيات “هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ” من الآية 52. القُرآن للنَّاسِ؟ تدبَّروا في أولِ الآيات الله (عزَّ وجلَّ) بدأ السورة:”كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ” من الآية 1. هذا البلاغ فافتح، اقرأ ما الَّذي في هذا البلاغ؟ بلاغ، إنذار وعلم. ماهي الحقيقة الَّتي ينبغي أن تبقى مُستقرَّة في قلبي؟ هي في ختام سورة إبراهيم “أَنَّمَا هُو إِلَهٌ وَاحِدٌ” من الآية 52. فلا تخَف من أحد. بل خَفِ الواحد الأحد، ولكن من سيُنذر؟ تذكَّر هذا البلاغ “أُولُواْ الْأَلْبَابِ ” من الآية 52. فقط أصحاب العقول الكبيرة الَّذين يُصفُّونَ الحسابات قبل يوم الحساب، الَّذين يُبادرون بالسِّباق، ورمضان ليس السِّباق فيه بكثرةِ الصَّدقات على عظمتها، فهذه من أعظم الأعمال مثل: (إفطار صائم، كسوة فقير، مريض، يتيم، وعيديَّة) كلها أعمال عظيمة عند الله، والأعظم منها أن تأتي بقلبٍ سليم، سَلِمَ من الظُّلمِ، وبرئت ذِمَّة صاحبِهُ. ولكن كيف تكون هذه الأشياء؟ كُلُّ الصَّدقات على عظمتها تُساعِد في تطهير القلوب، ولكنَّها بالضبط كما أنَّ الإنسانَ قد يُبخِّرَ ثوبًا والثَّوب مُتَّسِخ. فماذا ينفعه البخور؟ قبل أن تُبخِّر ومع تبخيرك للثوبِ اغسله، اغسل الثوبَ ثوبَ القلب، فقلوبنا تحتاج إلى غسل من كُلِّ شيء شابَها، ولكن كيف تُغسَل القلوب؟ القلوب لا تُغسل إلَّا بالتَّوحيدِ والإيمان بالله (عزَّ وجلَّ)، وأن تعلم أنَّما هو إلهٌ واحد، وهو الَّذي يدفع عنك وهو الَّذي ينبغي أن تخافه، هو واحد ينبغي أن تعمل له ألف حساب، واحد لا ينبغي أن تلهو عنه ولا أن تنساه ولا أن تغفل عنه، ولكن من سيذَّكَّر؟ “أُولُواْ الْأَلْبَابِ”. نسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يجعلنا منهم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته