الحلقة السادسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آله وصحبهِ، ومن والاه
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنا في لقائنا السَّابِق في سورة إبراهيم عند تلك الأُمَم بأحوالِهَا وتغيُّراتِهَا من خلالِ علاقتِهَا بالله (سبحانه وتعالى) توحيدًا أو كُفرًا (والعياذُ بالله). وقلنا في لقائنا السَّابق إنَّ الله (سبحانه وتعالى) عرض في هذه السُّورة العظيمة مصائر الأُمَمِ والشُّعوبِ مُبيِّنًا أنَّ كُل من يُبدِّل نعمة الإيمان والتَّوحيد بالكُفرِ والجحودِ بِكُلِّ أشكالهِ سواء كان قوليًّا أو عمليًّا لا يمكن أن تكون النِّهاية في الدُّنيا إلَّا الخراب والخسارة. وذكرنا أيضًا في نهايةِ الآيات أنَّ الله (سبحانه وتعالى) أوضحَ أنَّ النِّهاية أو العاقبة في الآخرة لن تختلف عما يراه هؤلاء في الدُّنيا من العذابِ ومن الخسارةِ، وعاب في سياق الحديث عن خذلان الضعفاء يوم القيامة من يتَّبِع الآخرينَ ويُلغي عقلَهُ، ويسير وِفق منهج التَّبَعيَّة المرفوض في القُرآنِ؛ ولذلك خُتمت الآية بقوله تعالى:”وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ”من الآية 30 والنِّدِّيَّة هي المثيل أو الشبيه وهو سبحانه ليس له نِدٌّ، ولكن الإنسان حين تُطمس بصيرتُه يجعل لله نِدًّا في الاعتقادِ أو في التَّشريعِ أو في المحبةِ أو في عشراتِ الأشياء الَّتي لا ينبغي أن تُصرفَ إلَّا لله.
الاستعانة على سبيلِ المثالِ من أعمالِ التَّوحيدِ ومن أعمالِ القلُوبِ، ولذلك ربِّي (عزَّ وجلَّ) في سورة الفاتحة نصَّ عليها فقال:”إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)”فإذا صرفها العبد لغيرِ الله (عزَّ وجلَّ) في مجالِ العمل القلبيّ، وفي مجالِ الجوارحِ أو الاستغاثة أو الدُّعاء أو ما شابه أصبح هناك مجال لهذه النِّدِّيَّة. انتقلت الآيات بعد ذلك إلى عرض النَّموذج، نموذج المؤمِن الموَّحِد الذي يحيا في النور، ولا يتأثر بمن يتخبطون حوله في الظلمات. وذكرنا بأنَّ مقصد سورة إبراهيم هو إخراج النَّاس من الظُّلُماتِ إلى النُّورِ. أعطى الصُّورة النَّاصِعَة الوضيئة للمُؤمِن، قال تعالى:”قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا”من الآية 31. والخطاب خطاب تشريف وتكريم. والعباد هنا (وكُل النَّاس عبيد لله) ذوو عُبوديَّة خاصَّة، ولذلك أعطاهم تلك الصِّفة وأضافهم إليه، إذ قال تعالى:”قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا”من الآية 31. طالما أنَّ الإنسان خرج من ظُلمةِ الكُفرِ إلى نُورِ الإيمانِ ارتفعت مرتبتَهُ عند الله (عزَّ وجلَّ) ارتقى وتغيَّرَ الأمر. إذا كان على غيرِ الإيمانِ كان عبدًا لله (سبحانه وتعالى) عبد ربُّوبيَّتِهِ. فالله ربّ المؤمِن والكافر، الَّذي يُؤمِن بهِ والَّذي لا يُؤمِن بهِ. ولكن إذا تحوَّل العبد وخرج من ظُلمةِ الكُفرِ والجحود إلى نُورِ الإيمانِ أصبح ذلك العبد عبدًا لِأُلوهيَّتِهِ. فالعبُوديَّة أصبحت مرتبة خاصَّة. ولذلك شرفَّهُم بالخطابِ في الآية الكريمة ومَنْ هذا الَّذي يقول ويُبلِّغ؟ نبيُّنا (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) الَّذي أُنزلَ عليه القُرآن، وهذه زيادة في التَّشريفِ ورفع المقام للمُؤمِنينَ. وأول وأعظم صفة جاء بها هي صفة الإيمان مُقابل صفة الكُفرِ الَّتي تكلمت عنها الآيات في سورة إبراهيم. وإذا التفتنا إلى هذه الآية العظيمة ووقفنا عندها لنرى ما هي فحوى الرِّسالة الَّتي يُبلِغُهَا القُرآن العظيم للمُؤمِنينَ. المـُؤمِنونَ عباد من درجة خاصَّة ورسالتهم لا بدَّ أن تكون على هذه الدَّرجة العظيمة من الشَّرف والمكانة. ما هي الوصيَّة الأولى؟ قال تعالى:”يُقِيمُوا الصَّلَاةَ”من الآية 31 الصلاة شِعار الإيمان. إذن الإيمان ما عاد مُجرَّد اعتقاد بالقلبِ ولكنَّهُ أيضًا التزام في واقعِ الحياةِ. وهذه الوصيَّة الأُولى أعظم وصيَّة. لماذا الصَّلاة؟ ما مِن شيء يُخرج العبد من الظُلُماتِ إلى النُّورِ بعد الإيمانِ بالله والتَّوحيدِ كالصلاة. الظُّلُمات الَّتي يتعرَّض لها الإنسان في الحياة منها ظُلمة الغفلةِ فما الَّذي يُخرجه منها؟ وما الَّذي يُخرجه من ظُلمة السَّهو والبُعد عن ذِكرِ الله (سبحانه وتعالى) غير الصَّلاة؟ ولذلك ابتدأ بها بعد الإيمانِ، فهي شِعار الإيمان، ومِفتاح الخروج من الظُّلمةِ بل كُل الظُّلُمات مثل: ظُلمة الشَّكِّ، ظُلمة الحيرة، ظُلمة التَّردُّد؛ ولذلك نحن في حياتِنا حتى حين يعرض لنا أمر نفزع إلى صلاةِ الاستخارةِ. وكان نبيُّنا (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) كُلَّمَا نابهُ أمر فزعَ إلى الصَّلاة. لماذا؟ ما الَّذي في الصَّلاة؟ الصَّلاة هي الَّتي تُكسب العبد نُورًا ما كان ليراه لولا تلك الصَّلاة، نورًا استمدَّه من مناجاة رب العالمين؛ ولذلك سيأتي في دُعاءِ إبراهيم (عليه السَّلام) ولنتدبر قوله تعالى”يقيموا الصلاة” ولنتتبع الأمر بالصلاة في القرآن الكريم نجده دائمًا كلمة من مشتقات أقام (أقم الصلاة – إقام الصلاة – يقيموا الصلاة – يُقيمونَ الصَّلاة) الصَّلاة ليست مُجرَّد حركات، ليست مٌجرَّد فِعل. ولكن من بابِ إقامتِهَا أن تأتي بأركانِهَا وشُروطِهَا المعروفةِ. وكُلُّ هذا إلى جانبِ الخُشوع الَّذي هو لُبُّ الصَّلاة، فحين يُقيم المرء صلاتهُ كما أمر الله (عزَّ وجلَّ) عبادهُ المؤمِنينَ تصبح تلك الصَّلاة مِفتاحًا تُفتح به كُل بواباتِ الأمل والخُروج من الظُلُماتِ.كُل الظُّلُمات الَّتي تكلمنا عنها بما فيها ظُلمة الغفلة والبُعد عن الله (سبحانه وتعالى). قال تعالى:”وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ”من الآية 31 وهذه هي الوصية الثانية، وهذه طبيعة وأُسلوب القُرآن في إيراد وصايا محدودة للمؤمنين:”يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، ويُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ”يعني صلاة ونفقات ولكن الصَّلاة والنَّفقات سواء الواجبة المتَمثِلة في الزَّكاة أو في صدقاتِ التَّطَوُعِ المختلفة لابد أن تكون مُحاطة بإطار الإيمان بالله، قال تعالى:”قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا”من الآية 31. فحين تُصلي صلاةً فلتُصلِ صلاةً تليقُ بمرتبتِكَ ومنزلتِكَ عند الله.
اُنظر كيف ترتقي سورة إبراهيم بنفسِ الإنسان المؤمِن”قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا”. أنت ارتفعت الآن؛ ولذلك حين ترتفع مكانة المرء بين الناس علمًا وثقافةً أو حتى من ناحية اجتماعيَّة يتنبَّه إلى الأعمالِ الَّتي يقوم بها. فلا يفعل شيئًا لا يليقُ بمنزلتهِ أو مكانتهِ. لماذا؟ كي يُحافِظ على تلك المكانة. ولك أن تتخيَّلَ أن الله خاطبَ عبادهُ فقال:”قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا”. فأنت الآن عبد من درجة خاصَّة، فحين تُصلي صلِّ صلاةً تليقُ بتلكَ المنزلة خُشوعًا وركوعًا وسجودًا وخُضوعًا وحُضورًا للقلبِ. أمَّا الصَّلاة الَّتي هي مُجرَّد حركات قيام وركوع وسجود والقلبُ لاهٍ لا تليقُ بهذه المنزلة العظيمة فاتركها. ترقَّ بصلاتِكَ، واجعلها صلاة تليق بتلك المنزلة الَّتي بوَّأكَ الله (سبحانه وتعالى) إيَّاها.
قال تعالى:”وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً” جاءت النفقة هنا مع كيفيتها لِتُحدِّد الإطار العام الَّذي يُنفق به الإنسان المؤمِن العبد الَّذي له درجة خاصَّة عند الله (سبحانه وتعالى). أولًا أنت حين تُنفِق (والنَّفقة عامة) وذكرنا أكثرَ من مرة أنَّها لا تنحصِر في مالٍ بل من الممكن أن تكون نفقة من وقتٍ، نفقة من جُهدٍ، نفقة من صحةٍ أو علم، من كُلِّ ما لديك من مواهب مختلفة؛ ولذلك نسبَهَا سبحانه إليه فقال:”وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً”من الآية 31. فأنت حين تُنفِق لا يكفي أن تُنفِق أو تُخرج المال أو ما شابه، لا بل عليك قبل أن تُنفِق أن تستحضرَ أنَّ كُلَّ ما أنت فيه من الله.
من أعظمِ مقاصِدِ سورة إبراهيم أنَّها تُجدِّد علاقة الشُّكرِ بين العبد وربِّهِ، أعظم عبادة من العباداتِ إذ تُحيي القلب. فما الَّذي هو لك وليس من رزقِ الله (سبحانه وتعالى)؟ أخبرنا عن مُمتلكاتك المحضة. فالإنسان حين يُصاب بالشُّحِ أو البُخلِ فهذا لا يليق بالمؤمِن في أيِّ شيء من الأشياءِ. فمن أين يأتي البُخل أو الشُّح؟ من التفاتِ القلب لغير الله (سبحانه وتعالى) فيما أعطاه فيظُن (لأنَّ الإنسان لا يظُن بشيء ليس له) فالإنسان بطبيعتهِ حتى الطفل الصَّغير لديه حُب التَّملُّك، ولكن القُرآن العظيم يُربِّي النفس المؤمِنة على أن يكون بينها وبين الله (عزَّ وجلَّ) إلغاء الشُّعور أو الإحساس بأنَّها تمتلك شيئًا. الرِّزق ليس لك فهو الَّذي رزقك سبحانه (صحة، مالًا، كلامًا، أسلوبًا، طريقًا، كُل شيء). وإذا كان كُل شيء من عندِ الله (سبحانه وتعالى) وبيدهِ (عزَّ وجلَّ) إذن فلمَ تبخل به؟ ولنتدبر لمَ بدأ بالسِّر فقال تعالى:”سِرًّا وَعَلَانِيَةً”. لماذا؟ لتحقيق تنقية التَّوحيد الَّذي هو من أعظمِ مقاصد سورة إبراهيم، وإخراج ما في القلبِ من ظُلُماتِ الرِّياءِ، أو أن يبتغي الإنسان بعملهِ أيَّ أحد سوى الله (سبحانه وتعالى) فهذه ظُلمة فكيف يخرج منها؟ بالسِّرِّ، وكيف تُصبح صدقة السِّر أعظم من صدقةِ العلانيَّة؟ كُل واحدة لها وقت؛ لذلك بعض المفسِّرينَ قالوا: الزَّكاة يجبُ إعلانُهَا فهذه فريضة ولا بدَّ أن تُشجِّعَ النَّاسَ عليها، والصَّدَقة تطوُّعًا عليك أن تتحرَّى الأوقات الَّتي تُخفيها. أحيانًا الصَّدقة علانيَّتُهَا تكون أفضل وأوجب إن كانت من بابِ التَّشجيعِ للآخرين وحثَّهم على العملِ والتَّصدُّق، ولكن حتى في حالةِ العلانيَّة ينبغي لذلك العبد من الدَّرجةِ الخاصَّةِ أن يكون بينه وبين الله خبيئة لا يعلم بها أحد.كما جاء في الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ من السَّبعَةِ الَّذينَ يظِلُّهُم الله تحت ظلِّ عرشه يوم لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه رجُلًا تصدَّقَ بصدَقَةٍ فأخفاها (عمدًا).
ولكن لماذا صدقة السِّرِّ لها هذه المنزلة العظيمة؟ وليست هي فحسب بل أيضًا كُل الأعمال الصَّالحة إذ إنَّ هناك أعمالًا كثيرة صالحة سرًّا بينك وبين الله (سبحانه وتعالى)؛ فأن تمشي في قضاءِ حاجة إنسانٍ مُسلم سِرًّا فلا تذكُرَهَا له (أفضل من ذِكرها فيشكُرك عليها) ولكن أن تُسِرَّ بها إسرارًا وتتوجَّه بها إلى الله (سبحانه وتعالى) فذلك أدعى لِلزومِ الإيمان والتَّقوى والبُعد عن الرِّياءِ؛ ولذلك كان الدُّعاء بظهرِ الغيبِ من أعظم أشكال الدُّعاء، وكذا من أعظم أسباب الاستجابة للدُعاءِ. لماذا؟ لأنك حين تدعو للإنسان في حضورهِ تنتظر منه أن يقول لك تلقائيًّا: وأنت كذلك. بارك الله فيك. أو آمين وإيَّاكم. ولكن حين تدعو له من أعماق قلبك سِرًّا ولا يطَّلِع على الدُّعاءِ إلَّا الله فهذا من أعظم أنواع الدُّعاء (الدُّعاء بظهرِ الغيب) وهذا الَّذي تفعله سورة إبراهيم في نفسِ المؤمِن؛ إذ تُخلِّص التَّوحيد والإيمان وتُجدِّده مما علق به من الشَّوائب. فهذا عبد من درجة خاصَّة، فلا بد أن يكون له عمل بينه وبين الله (سبحانه وتعالى). وفي نفسِ الوقت جاءت الآية بالمِفتاح الَّذي يُبعِد ظُلمة الرِّياء عن قلبِ المؤمِن. الرِّياء من أخطرِ الأمراض الَّتي تُصيب قلب الإنسان؛ ولـــذلك نبـــيُّنا (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) سمَّاهُ بـــ (الشِّرك الخفيّ)، وذكر له أمثلة عجيبة. ولكن لماذا فيه هذا الشَّيء؟ لأنَّهُ يتسلَّل إلى قلبِ الإنسانِ فيُحبط العمل أحيانًا دون أن يتعمَّدَ ويشعُر به. فما الَّذي يدفع عنه تلك الظُلمة؟ إنه كدبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء. ما الَّذي يدفع ذلك السَّواد؟ نُور الإيمان، وأيّ إيمان في قلبِ الإنسان المؤمِن؟ ذلك النُّور الَّذي لا يمكن أن يحدُث إلَّا حين يُصبِح الله (سبحانه وتعالى) وحده في قلبِ الإنسان المؤمِن وكيف هذا؟ قال:”وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ”من الآية 31.
سورة إبراهيم من أعظمِ مزاياها ذلك الرَّبط الواضح المتَواصِل بين الدُّنيا والآخرة، فلا أحد ينفعك سوى الله (عزَّ وجلَّ) فهل يصحُّ أن تتوجَّه بالعملِ لغيرهِ؟ القُرآن يضع الإنسان أمام الحقائق، وأيضًا يضع الإنسان أمام تحدٍّ قد لا ينتبه إليه؛ ليُخرجه من ظُلمةِ الغفلة وطول الأمل الَّذي هو من الظُّلُمات. فالإنسان يعتقد أنَّ أمامه فُرصًا كثيرة جدًا ليُنفق، وليُصلى صلاة خاشعة أو ليفعل أعمال الخير. القُرآن يأتي على تلك الظُّلمة فيُحوِّلُها إلى شيء آخر ويضعه أمام الحقيقة. فكيف يضعُه”مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ”. أنت في سِباق مع الزَّمنِ ولكن ليس سِباقًا لأجلِ اللُهاث وراء الدُّنيا ومتاعها الزَّائِل، ولكنَّهُ سباق من نوعٍ خاص”وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ”من الآية رقم 133 / سورة آل عمران وقد أخفى الله (عزَّ وجلَّ) آجال الناس، ولذا فبكُلِّ تأكيد أحتاج أن أُنفِقَ وأُخرجَ كُلَّ ما لديَّ من مواهب، كالصِّحة على سبيلِ المثالِ، أو القُوَّة فأنا اليوم بفضلِ الله (عزَّ وجلَّ) استيقظت مُعافًى في بدني، صحيحًا في جسدي، أقِف على قدميّ، أُحرِّك يديَّ وغيرها فعليّ المحاولة قدر الاستطاعة والتَّوفيق من الله (عزَّ وجلَّ) أن أُوظِّفَ ذلك في الإنفاق فيما يُرضيه (سبحانه وتعالى) سِرًّا وعلانيةً. أعمال السِّرِّ وأعمال العلانيَّة.
لماذا؟ “مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ”من الآية 31. لماذا جاء الكلام عن البيعِ والخلالِ؟ أكثر الأشياء تُشغِل الإنسان في حياتهِ وتُلهيهِ البيع والتِجارة والمعاملات الماديَّة المختلفة، والقُرآن جاء بالصَّدقة مُقابل البيع. لماذا؟ لأنَّ هذه أيضًا تجارة. فمن قال أنَّ التجارة فقط أن تضع أموالك في أعمال ومشاريع وما شابه، أعظم أنواع التجارة والرِّبح هي التجارة مع الله (عزَّ وجلَّ). وتدبَّروا في المُقابلة “وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ” بمعنى آخر: بِعْ في الدُّنيا قبل أن لا يكون هناك بيع. فليس في الآخرة بيع ولا شراء بل استلام فقط، البيع هنا في هذه الدَّار، فــبِعْ.ماذا تبيع؟ أتذكرون في سورة التَّوبة حين جاء الكلام عن البيعِ؟ وحين قال الله (عزَّ وجلَّ): “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم”من الآية رقم 111 / التوبة . وقال في آيات أُخرى “مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ”من الآية رقم 23 / الأحزاب. إذن هناك عمليَّة بيع وشراء. وعليه فالبيع الَّذي يُحدِّثني عنه القُرآن في سورة إبراهيم حقيقيّ، والآن وقت البيع فــبِعْ. لمن تبيع؟ تبيع لله (سبحانه وتعالى) ما رزقك إيَّاه، بِعْ حياتِكَ وسترى البركة في حياتِكَ ووقتِكَ، بِعْ لله وقتك فكثيرًا ما نشتكي أنَّه لا وقت لدينا، إذا بِعت جُزءًا من وقتك لله بارك لك في بقيَّةِ وقتك فــبِعْ، أخرج، أنفق ولا تنتظر العوض من أحد إلَّا الله (والبيع في تعريفه البسيط أن تُعطي شيئًا مُقابل عوض) ومتى سيُعطيك ذلك العوض؟ ليس في الآخرة فحسب بل أيضًا في الدُّنيا فــبِعْ! واحدة من أكبر الإشكاليَّات في حياتِنا اليوم أننا لم نعتدْ إلى حدٍّ كبير التجارة مع الله (عزَّ وجلَّ) في عمليَّات بيع وشراء. تاجِر مع الله (سبحانه وتعالى) بوقتِك، بجُهدك، بصحتِكَ، بمواهبِكَ، بكُلِّ ما أعطاك. النَّفقة والبيع”مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ” فلا يوجد صداقات. بل تسقط كُلُّها إلَّا صداقة المؤمِنينَ المتَقينَ، ولماذا الكلام عن الخِلال والصَّداقات هنا؟ هو تحدَّث في آيات قبلها عن التَّبَعيَّة، وعن الَّذين يتخذون أندادًا من دونِ الله. والآن القُرآن يضعني على المحكِّ فيوم القيامة لا بيعٌ فيه ولا خِلال والمطلوب: أن تُحسِنَ انتقاء الأصدقاء فـــ”الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ”الآية 67 / سورة الزخرف. سقطت كُل الصَّدقات الَّتي شُغلِنا بها، القُرآن يُعطيني بدائِل وهو لا يُزيل من طريقى العوائِق الَّتي يمكن أن تصل بي إلى الظُلُمات فحسب. أعطاني البيع الحقيقيّ وهذا لا يعني أنَّكَ لا تُتاجِر في الدنيا بل تاجِر ولكن اجعل جزءًا كبيرًا من تجارتِكَ مع اللهِ (عزَّ وجلَّ)، واجعل صداقاتكَ لا تكون إلَّا لله. إن الحاجة إلى الصداقة والأصدقاء والأخِلاء والأصحاب والمصاحبة حاجة فطريَّة؛ فالإنسان اجتماعي بطبعهِ لا يحب أن يبقى مُنفَرِدًا أو مُنعزِلًا، فيُحب أن يكون له أنيس، لكن القُرآن العظيم وهو يُصفِّي القلب في عمليَّةِ التَّوحيدِ يَلفِت انتباهنا إلى أن يكون الأُنس الأعظم بالله (عزَّ وجلَّ) وحده لا شريكَ له، وإذا أنسَ العبدُ بالله ما عاد يبحث له عن أنيس، وردَ في الأثرِ الصَّحيحِ أنَّ القرآن يُدافِع ويُحاجج عن صاحبهِ. إذن أصبح القُرآن له صاحب. فــصاحبه ولا يمكن أن تكسب صُحبة القُرآن إلَّا حين تصحبهُ بقلبِكَ وبحبِكَ له، فإذا ما صاحبتهُ صاحبك، وإذا أصبح القُرآن صاحبًا للعبدِ آنس وحشتهُ، وبدَّدَ كُربَته، وأخرجه من الظُلمة إلى النُّورِ نُور القُرآن. وإذا كُنا عادةً حين نختار أصحابًا من البشرِ نحب أن نقضي معهم وقتًا كميزة من مزايا الصُّحبة الَّتي لو ركزنا جيدًا لوجدنا أنَّ سورة إبراهيم أرادت أن تجعل وتُؤكِّد على عبادة عظيمة ترتبط جدًا بالتَّوحيدِ بالله (سبحانه وتعالى) وتنقيتُه وهي: الأُنس بالله (سبحانه وتعالى)، وسنأتي عليها في دُعاءِ إبراهيم (عليه السَّلام). تدبَّروا معي في ذلك التَّرابُط: كيف يرتقي القُــرآن العظــــيم بالمُؤمِن في علاقتـــهِ مع الله (سبحانه وتعالى)؟ “لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ” من الآية 31. حتى في الدُّنيا تُصاحِب وتُرافِق، وكثير من النَّاسِ ونحن اليوم كبشر والله (عزَّ وجلَّ) والدّين ليس بقيود ولا أغلال تُربط على الإنسان، لا. فالإنسان يُحب أن يكون له صديق، رفيق، صاحب. ولكن المطلوب أنَّكَ حتى في تلك العلاقات تُنقيها من الشَّوائِب، وتجعلها خالصة لوجه الله (سبحانه وتعالى). ليس الغرض منها أن تُسلِّي نفسك فهذا غرض محمود مُباح، ولكن لا يكون هو الغرض الأساسيّ دائمًا لا؛ فهذا التَّوحيد حين يفعل فعلهُ في نفسِ الإنسانِ المُؤمِن يجعله منصرفًا عن الناس إلى رب الناس؛ ولذلك جاءت الآية الَّتي بعدها تعزز الإيمان بالله. قال تعالى: “اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ” من الآية 32 وإذ قال قبلها:”وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ”من الآية 31 ربِّي (عزَّ وجلَّ) تعرَّف إليك في الدُّنيا إذ عرفك بذاتهِ سبحانه من خلالِ ما خلق. فأنت لا تعبُد ولا تبِعْ وتدخُل في تجارةٍ مع ربٍّ لا تعرفه، واليوم نحن في تعامُلاتِنا الماديَّة والتجاريَّة هل تُقرِض شخصًا لا تعرفه؟ هل تكون شريكًا في تجارة مع شخصٍ لا تعرفه؟ لا. ولله المثل الأعلى. سورة إبراهيم عرَّفتك بالرَّبِّ الَّذي أنت بإيمانِكَ وتوحيدِكَ أصبحت فعلًا في تجارةٍ معه فعليك أن تعرفه.
لماذا جاء بــ”خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً”؟ هو غنيّ سبحانه، هو ليس بحاجة للدُخولِ في هذه التجارة معك، أنتم الفقراء وهو سبحانه الغنيّ، وأنت الَّذي بحاجة إلى هذه التجارة. تدبَّروا معي في هذه المعاني العظيمة الَّتي جاءت في سورة إبراهيم. أنت دخلت في تجارة سِرًّا وعلانيةً، صلاة ونفقة وصدقة وبرّ وإحسان وخير مع ربٍّ “خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ” هذه الأرزاق الَّتي أنت وبعض الأشخاص تُشغلون بها عن المنعِم الرزَّاق، وهذه من أخطرِ الأشياء فجاء (سبحانه وتعالى) بعرضِ كُلِّ ما في الدُّنيا “وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)” جولة سريعة في كُلِّ ما في الطَّبيعةِ مِن آيات وعجائب خلقها الله (سبحانه وتعالى) لأجلِ أن تعرفَ الربَّ الَّذي دخلت معه في التجارة، اعرف ربَّك سبحانه. فإذا كان كُلُّ شيء بيدهِ في الدُّنيا وفي الآخرة وسخَّر وأعطى وكلُّ شيء بأمرهِ فهل تقلق على تجارتِكَ مع الله؟ بعض النَّاس يقلقون خاصَّة في زماننا. هذه ليست دعوة لإخراجِ كُل ما عندك وإنفاقهِ. القُرآن وسُنَّة نبيِّنا (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) يحثان الإنسان على الحكمة في الإنفاقِ، ولكنَّك حين لا تُتاجر مع الله إلَّا حين تموت أو بعد وفاتِكَ فأنت قطعًا لم تعرف الله (سبحانه وتعالى)، لو عرفته لتاجرت معه في حياتِك. بعض النَّاس كُل أعمال الخير يوصون بها بعد الوفاة، هذه العلاقة مع الله (سبحانه وتعالى) سورة إبراهيم تُنقيِّهَا. تاجِر مع الله الآن تاجِر معه في قُوَّتِكَ وضعفِك، تاجِر معه في صحتك وعافيتِكَ ومرضِكَ، في غناكَ وفقرِكَ، إن كنت غنيًا يزيدك غنًى، وإن كنت فقيرًا يُعطيك ما يغنيك سبحانه فكُلُّ شيء بيدهِ، فالتجارة مع الله (سبحانه وتعالى) تجارة رابحة مُثمرة لا يمكن أن تجد فيها أبدًا أيَّ نُوع من أنواعِ الخسارة، وكُلَّمَا ازددت إخلاصًا في تجارتِك -والإخلاص لا يطَّلِع عليه إلَّا الله فهو سِرّ بين العبد وربِّهِ – زادك غنًى وفضلًا وإنعامًا. لماذا جاء بــ”وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)”تعاقُب الليل والنَّهار فينا آية تخبرنا كُلَّ يوم عن نقص الأجل على هذه الأرض، فأعمارنا محدودة على هذه الأرض؛ ولذلك الإنسان يمكن في تجارته مع الله (عزَّ وجلَّ) أن يقوم بتمرين بسيط جدًا وهو نفس المفكِّرة الَّتي نُقلِّبُهَا. قلِّبهَا ولكن ليس مُجرَّد تقليب. بل قلِّبْهَا في ذاتِكَ وفي نفسِكَ فهذه ليست مُجرَّد ورقة سقطت من عمرك أو أوراق تسقط من المفكِّرةِ بل أيام تسقط من أعمارنا، وما المطلوب منك؟ ألَّا تُسقِطهَا إلَّا إذا رفعتَهَا. هل يستطيع الإنسان أن يرفعها؟ أكيد، كُل شيء تُتاجِر به مع الله رُفِع، وكُل شيء لا تُتاجِر بهِ مع الله سقط. أوراق أعمارنا لا تسقُط حين نرفعها إلى الله”وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ” من الآية رقم 10 / سورة فاطر. فارفعها كُلَّهَا إلى الله؛ ولذلك جاء بالآية: “وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” فلماذا سخَّر كل هذا؟ لماذا جعل قلبك خاليًا من الانشغالِ بتعاقُبِ الليل والنَّهار؟ فلا ننشغِل ونقول: لماذا لم تطلع الشَّمس حتى الآن؟ يا تُرى ما الَّذي حصل ولماذا تأخَّرت؟ لماذا لم يأتِ القمر ولم يظهر؟ هل هناك أحد من البشر ينشغِل بالليل والنَّهار؟ أو يضبُط ساعة النهار والليل لأنَّ هناك مُشكلة في التَّرتيبِ؟ أم هو كُلُّهُ مُسخر بأمرِ الله (عزَّ وجلَّ) “دَائِبَيْنِ” فهو عمل دؤوب لا يتوقف لحظة ولا يتوقف لموتِ أحدٍ ولا لحياتهِ. لماذا كُل هذا التَّسخير؟ لأجلِ أن تتفرَّغَ لتلك التِّجارة، وللأسف -ما ذكرنا- أحيانًا الإنسان ينشغِل بما سُخِّرَ له عمَّن لأجلهِ سخَّرَ كُلَّ شيء، يشتغِل بالسَّببِ عن مُسبِّبِ الأسباب؛ ولذلك في الآية الَّتي بعدها ربِّي (عزَّ وجلَّ) يأخذ من تلك الفطرة أجمل ما فيها إذ قال: “وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ” من الآية 34 وما لم تسألوه فربِّي يُعطيه ويُؤتيه. هل في يوم من الأيام (على سبيلِ المثالِ) سألت ربِّي (عزَّ وجلَّ) أن يجعل الشَّمس تُشرِق في الوقت المحدَّد؟
وتدبَّر معي حتى في تلك الدَّعَوات الَّتي دعوت الله بها فتأخَّرَت كما تتوهَّم أنت، ولكنه أعطاك سُؤلَك ولم يمنع عنك شيئًا، اُنظُر العلاقة بين الله (عزَّ وجلَّ) وبين الإنسان هذا العبد الضعيف. إذن لمَ يعطيكم “مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ”؟ من الآية 34. لا تنشغِل بالسُّؤال عن الذي أمرك بالسُّؤالِ؛ فنحن في كثيرٍ من الأحيانِ حتى في الدُّعاءِ والآن سيأتي الدُّعاء، دُعاء إبراهيم (عليه السَّلام)؛ ننشغل بطلباتِ الدُّعاء عن مُسببِ الدُّعاء (سبحانه وتعالى) الَّذي أمرَ بالدُّعاءِ. فالدُّعاءِ عبادة من أعظمِ العبادات، لا تُشغِل قلبك بالطَّلَبات فينشغِل بذلك عن الرَّبِّ سبحانه الَّذي يتوجَّه إليه بالسُّؤال. لماذا؟ سيُعطيك سُؤلك؛ ولذلك أحد الصَّالحين كان يدعو فيقول: يكفيني من سُؤالى علمُكَ بحالي. وهذا لا يعني أنَّكَ لا تسألُهُ تفاصيل بينكَ وبينه (وسنأتي على أُنموذج المناجاة بين العبدِ وربِّهِ). اسأل الله من كُلِّ شيء، ولكن لا تجعل المسائل تُشغِلُكَ عمّن سألت فهذا خطر جدًا إذ إنَّكَ في مقامِ الدُّعاء. ولاحظ أنَّهُ جاء بـــ (كُلِّ) في الآية والَّتي تدُل على الشِّموُل لكُلِّ شيء. قال تعالى:”وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا”من الآية 34. تدبَّروا معي كيف أنَّ القُرآن يبني تلك العلاقة، علاقة الحمد والشُّكر ويُخرج من القلبِ ظُلمة الجحود والنُّكران والغفلة عن ذكرِ الله سبحانه. قال تعالى:”وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا” جاء بالعدِّ وجاء بالإحصاءِ. والآية عظيمة لو وقفنا عندها ساعات ما كفت. أولًا قال: “وَإِنْ تَعُدُّوا” العدُّ يأتي مع الأشياء المفردة الَّتي تستطيع أن تعدَّها فتقول: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة… إذًا يكون العدُّ من جانبِ العادِّ. قال:”وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا” قال بعض المفسِّرينَ: المراد بالنعمة جنس النِّعَم. والَّذي أميل إليهِ أكثر هي النِّعمة الواحدة المفردة، فإذا جِئتَ تعُدُّ نعمة واحدة من نِعمِ الله لن تحصيها. ولكن ما الفرق بين العدِّ والإحصاء؟ العدُّ مُجرَّد عدِّ أرقام، أفراد الأشياء، أمَّا الإحصاء فأن تُحيط بالشيء علمًا وإدراكًا ومعرفةً وفهمًا أي علم دقيق. وهذا لا يكون إلَّا لله؛ ولذلك الإحصاء ورد في القُرآنِ في أكثرِ من عشرِ مرات في أحدَ عشرَ موضعًا في كتابِ الله. وكُلها جاءت لله (سبحانه وتعالى) إذ قال:”أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ”من الآية رقم 6 / سورة المجادلة. والعبد لا يُحصي لأنَّ علمَهُ قاصِر محدود؛ ولذلك قال تعالى: “لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا 94″سورة مريم. فربِّي (عزَّ وجلَّ) لا يعرفنا بالعدد فحسب. فنحن لسنا مُجرَّد أعداد في القائمة بل نحن عباده الَّذينَ يعرفهم حقَّ المعرفة سبحانه “أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا” أحصاهُم، نعم أحصى خواطرهُم، سرائرهم، أفكارهُم؛ ولذلك تدبَّروا في الرَّبطِ بين صدقة السِّرِّ الَّتي تكلَّمَ عنها إذ قال:”وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً”الآية رقم 31. ونقاء السَّريرة الَّتي لا تصلُح العلاقة بين العبد وربِّهِ إلَّا بها إذا قال تعالى:”يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ 9″سورة الطارق. هذا شيء لا يُحصيه إلَّا الله (عزَّ وجلَّ) ولكن دعونا مع العدِّ، وإن تعدُّوا نعمة من نِعمِ الله لا تحصوها، وعدم الإحصاء والعجز عن الإحاطة ولو بنعمة واحدة من نعم الله فهذا ضعف وعجز الإنسان الفرد العبد، ولو تدبَّرنا في نعمة البصر على سبيلِ المثال: حاول أن تُحصي أو تعُد كُلّ النِّعم الَّتي فيه؛ فالعين لا ترى الصُّوَر وحدها، لا (ويعرض علينا كثيرًا فيها مما هو أبيض وأسود أو غشاوة على العين أو قِصر أو بُعد نظر وأشكال مختلفة) فهذا فقط الَّذي نعرفه إذن ما الذي أعدُّه؟ عجزُكَ عن العدِ أعظم عبادة؛ ولذلك المؤمِن في دُعائهِ يقول: لا نُحصى ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِكَ؛ ولذلك من رحمة الله بعبادهِ أن علَّمَهُم كيف يثنونَ عليه سبحانه في الفاتحة التي بدأت ب:”الحمدُ لله”من الآية 2. يعرِفُهَا عالي الثَّقافة العَالِم، والجاهِل والبسيط المتواضع كُلُّهم يتساوون في الكلمة، ويتفاوتون في حضورِ القلبِ وهم يقولون الكلمة. تدبَّروا معي في تلك الرَّحمة وهي نعمة من نِعمِ الله أنَّهُ ما جعلنا (سبحانه وتعالى) نتفاوت في النطق بالحمدِ إذ ساوى بيننا وإلَّا كان هناك تفاوُت كبير. فعلى سبيلِ المثال من يعرِف الشِّعر يعرف كيف تكون ديباجة الكلمات سيحمد الله (سبحانه وتعالى) بطريقة تختلف عن ذلك الإنسان البسيط في علمهِ وثقافتهِ؛ إذ ساوى بينهم في اللفظِ، وجعل التَّفاوت فيما يمكن أن يكون لهم عليه سُلطان أي في حضورِ القلبِ. ولذلك عبدان يقولانِ الكلمة (الحمد لله) فأحدهُما تُفتح لها أبواب السَّماء، والآخر يقولها فلا تجاوز رأسه. فما الفارِق بينهما؟ الفارق ما في القلبِ من الإيمانِ وما عمرَ القلب من الحمدِ؛ ومن سوء الأدب مع الله أن يُسأل المسلم عن حاله فيبدأ بنفخة أو تنهيدة ثُمَّ يقول: الحمد لله بطريقة تجسد الاعتراض وعدم الرضا. أهذا هو تعامُلك مع الله (عزَّ وجلَّ)؟ ما هذا الجحود؟ ولذلك قال تعالى:”إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ”من الآية 34 جنس الإنسان يظلم نفسه أولًا بأيِّ شيء؟ بعدم استشعار النعم. وكمثالٍ من الواقعِ عن الحمدِ إحدى الأخوات تقول لي: تعمل لديّ في المحل امرأة بسيطة أسلمت مُؤخرًا (أي أنَّ إسلامها ليس وراثة)، وكُلَّمَا دخلت عليها وسألتها عن حالها رفعت يديهَا إلى السَّماءِ مُستبشرةً منشرحة الصَّدر وهي تقول: (الحمد لله) فتعلمت منها ما لم أتعلَّمْه في عشراتِ الدّروس أو الخطب الَّتي حضرت. فمن علَّمَ هذه المرأة كيف تحمد الله (عزَّ وجلَّ)؟ ومن جعل تلك الكلمة كلمة حية؟ المفروض أنك حين تنطق بها تحييك فيمتلئ القلب بشكر الله عزَّ وجلَّ. تُحيي ما مات من القلبِ وفي القلبِ من شُكرِ الله (سبحانه وتعالى). وفقط هي الكلمة الَّتي تُجدِّد العلاقة بينك وبين الله (عزَّ وجلَّ). وتدبَّروا في الرَّبطِ في آية واحدة إذ إنَّهُ هو أعطاكم من كُلِّ ما سألتموه فكيف لا تحمدونه؟ وكيف تنشغِلون بالنِعم عمن أنعمَ عليكم؟! إنَّها ظُلمة الغفلة والمخرج منها كثرة الحمد ولذلك الإنسان قد يشرب شربة ماء كما ورد في الأثرِ الصَّحيح، فإذا قال: الحمد لله. فإذا بتلك الكلمة تُرفع وترتفع بها الدَّرجات وتمتلىء بها الصُّحف وتثقل. فما الَّذي أثقلهَا؟ ما وقرَ في القلبِ من إيمان وشُكر لله (عزَّ وجلَّ)؛ ولذلك إن تعدُّوا نعمة واحدة من نِعمِ الله (عزَّ وجلَّ) لن تحصوها، ولن تُحيطوا بمكنونِهَا. فما المطلوب مني حتى يتجدد الإيمان والتَّوحيد وعلاقتى بالله (سبحانه وتعالى)؟ أن تشعُر دومًا بعجزِك عن الحمدِ، وهذا أعظم درجة بشُعورك المستمِر والمتواصِل بالعجزِ على أن تُحصي نعم الله (سبحانه وتعالى)، لا أُحصي ثناءً عليك لك الحمد ولك الشُّكر حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضى، لك الحمد فيما رأيت وفيما لا أرى، لك الحمد فيما قد يُهيَّأ لي أنَّهُ ضُرٌّ. وأنت سبحانك بلُطفِكَ ورحمتِكَ جعلت واستخرجت من الضُرِّ ما ينفعُني. الرَّبّ سبحانه يستخرج لعبدهِ ممَّا يتوهَّم العبد أنَّهُ يضُرُّه ما ينفعُه، ويستخرج الحمد من قلبِكَ ولسانِكَ بالمزيدِ من العطاءِ؛ إذ إنَّ بعض النَّاس لا يحمد الله إلَّا إذ أعطي فكُلَّمَا زاد الله له بالنِّعَم ازدادَ شُكرًا. فربِّي يُعطيه لرحمتهِ ولُطفهِ، وبعض العباد لا يتعرَّف على الحمد لله إلَّا حين تُمنع عنه النِّعمة فنحن نتقلب بين حكمتهِ ولُطفهِ ورحمتهِ وعدله لا شيء غيرها. وأنا عبد، فربِّي (سبحانه وتعالى) يستخرج الشُّكرَ من العبدِ بالعطاء، وقد يستخرجهُ بالمنعِ لأنَّ أحوال العباد تختلف؛ ولذلك ربِّي (عزَّ وجلَّ) لا يُنزِّل إلَّا بقدر؛ لأنَّهُ لو فتح كُل الفتح لعبادهِ ممكن أن يكون مفسدة وضررًا فيُعطي بقدر. لماذا؟ لحكمتهِ ورحمتهِ ولُطفهِ بعبدهِ. تدبَّروا معي هذه العلاقة العظيمة الَّتي تبنيها هذه السُّورة الكريمة سورة إبراهيم؛ ولذلك وبعد أن أعطى كُل هذه المقدِمات جاء بالنموذج في سورة إبراهيم الَّذي سُميَّت السُّورة على اسمهِ وهو أبو الأنبياء (عليه السَّلام). وهي صورة لذلك القلب الَّذي نبضَ بالتَّوحيدِ (إمام الحنيفيَّة) السَّمحة، التَّوحيد الَّذي ما عاد مُجرَّد كلمة الشَّهادة (لا إله إلَّا الله). كُل حركة وكُل خاطرة بل كُل سكنة تنبُض بذلك التَّوحيد.”وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا”من الآية 35 نحن نعرف بناءً على كُلِّ ما ذكرنا في سورة إبراهيم، وهذه من قواعدِ التَّدبّرِ أنَّ أعظم نعمة هي نعمة التَّوحيد. فلماذا لم يأتِ بالحديثِ عن التَّوحيدِ أولًا قبل الحديث عن الأمنِ؟ هو بدأ بقوله: “رَبِّ” وتوجَّه إليه بالدُّعاء فكانت أعظم منزلة من منازلِ التَّوحيدِ؛ ولذلك من أعظم منازل التَّوحيد ووسائل تجدُّد التَّوحيد في القلبِ وقُوَّة اليقين بالله أن تتوجه إليه بالدُّعاءِ، ولكن بما ذكرنا فلا تنشغِل بالمسائل عمَّنْ تسأل فاسأل. سل تُعطَ فسيُعطيك ولكن دون أن ينشغِل قلبك بالسُّؤالَ عمَّن تسأل. وهذه من أعظمِ المقاصد والحكم وأنت تدعو لأنَّ الرَّبَّ (عزَّ وجلَّ) يُحب العبدَ الَّذي يدعوُ ويُلِحُّ في الدُّعاءِ، بينما نحن البشر نتضايق من الإنسان الَّذي يلحُّ في أيِّ شيء. حتى الطِّفل الصَّغير وأبناؤنا الصغار حين يلحُّونَ علينا بشيء نتضايق وننزعج، ولله المثل الأعلى ربِّي (سبحانه وتعالى) كُلَّمَا ازددت عليه إلحاحًا ازدادَ لك حُبًا وعطاءً، السُّؤال: لماذا؟ ببساطــة لأنَّهُ (سبحانه وتعالى) يُحبُنا حُبًّا لا يتخيلَهُ الأب الَّذي يُحب ابنه، ولا الأُم الَّتي تُحب ابنها، حُبًا يليقُ بجلالهِ وعظمتهِ، حُبًا يليقُ بأُلوهيَّتهِ ورُبوبيَّتهِ لنا؛ ولذلك ربِّي (عزَّ وجلَّ) في كثير من الآثار والأحاديث الَّتي يردُّ بها الله عزَّ وجلَّ على من يطالبون بعقوبة العاصين أن لو خلقتَهم لكُنتَ بهم أرحم وأرأف، لو خلقتهم لعرفت. وتدبَّروا معي في هذا حين يُدرِك الإنسان أنَّ الدُّعاء ليس مُجرَّد كلمات تُرفع بها اليد وتتفوَّه بها بشفاهك؛ الدُّعاء أعظم عبادة. ولذلك ربِّي (عزَّ وجلَّ) عابَ على الَّذين لا يدعون إذ قال: “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)” سورة غافِر. فالدُّعاء ليس مُجرَّد علاقة تتوجَّه بها إلى الله حين تكون في الضَّراءِ، وتنساهُ في السَّرَّاءِ لأنَّهُ ليس لديك طلبات، ولا لديك مسائل؛ لأن الدُّعاء هو محض عبادة الافتقار إلى الله (سبحانه وتعالى)، وافتقارُك إليه لا ينبغي أن يغيب عنك طــرفة عين. متى استغنيت عن الله (عزَّ وجلَّ) حتى لا تدعوه؟ إذا شعرت بذلك فجدِّد توحيدك وقُل لا إله إلَّا الله واعلم أننا جميعًا فقراء إليه.”وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ”من الآية 35 وإذ أي في تلك اللحظة. ولماذا تلك اللحظة جاءت بعد تلك الآية الَّتي تقول: “وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا” من الآية 34 ؟ من أعظمِ أنواعِ عجزِكَ عن إحصاءِ نِعم الله أن تتوجَّه إليه بالدُّعاء أن (ياربَّ علِّمني كيف أشكُركَ): “رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ”من الآية رقم 15 / سورة الأحقاف. وأحسن الدَّعوات وأفضلها وأجملها دعوات الأنبياء. والقلب حين يصفو وتبدأ شجرات التَّوحيد تنتعش في ذاتهِ ونفسهِ فلا يتوجَّه بالطَّلب إلَّا إلى الله، لا يرى مخلوقًا. فالمخلوق أو البشر هم أسباب، نعم صحيح ولكن حتى هؤلاء لم يعُد يراهم إذا عظُم الله في قلبهِ. من يسأل؟ وكيف يعظُم الله تعالى في قلبه؟ حين يتعرَّف عليه. ولنتدبر الآيات الَّتي قبلها: “اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)”. فماذا تُريد حتى تسـأل خلقه؟ هل تعتقد في وقت من الأوقات أنَّ لك حاجةً عند أحدٍ من خلقه؟ هل القلب يعتقد هذا؟ فقُل لا إله إلَّا الله وقُم بين يديه لتعلم أنَّ كُلَّ حوائِجَك بين يديّ الله (عزَّ وجلَّ). تدبَّروا معي في الموقف: “وإذ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا”من الآية 35. والسُّؤال: يا تُرى لماذا لم يذهب إبراهيم (أبو الأنبياء) إلى قبيلة من القبائِل العربيَّة الَّتي كانت في مناطق رُبما على مقربة من الحرم يستجيرُ بجوارِهَا. وكان الجوار عادة معروفة، وأخذ في ذلك بالأسباب. ونحن دائمًا نقول: علينا الأخذ بالأسباب؟ صحيح، فلمَ لم يتوجه إبراهيم إلا إلى الله؟ تدبَّروا معي في هذا المعنى العميق العظيم أن يتوجَّه القلب إلى الله إذ قال:”رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا “أولًا وأخيرًا، وماذا عن الأسباب؟ لا تتوجَّه إلى أيِّ سبب قبل أن تتأكَّد من قلبِكَ أنَّهُ لا يتَّجِه إلى سبب. فهذه من النِّقاط الَّتي يغفل عنها بعض النَّاس. نعم الأخذ بالأسباب صحيح ولكن أمرنا الله تعالى قبل الأخذ بالأسباب الاستعانة بمُسبِّبِ الأسباب. وقد ذكرنا فيما سبق أنَّكَ إذا كان لك حاجة عند أحدٍ من الخلق فتوجَّه بدايةً إلى الله سبحانه ثُمَّ قل: يارب إنك بسُلطانك ورحمتك وقُوَّتِكَ وجبروتك جعلت حاجةً لي عند فُلان فاقضِهَا لي. الَّذي يقضيهَا ليس فُلانًا بل الله؛ لذلك نحن اليوم عندما يُريد أحد من البشر أن يُكرِمَك يقول لك: حاجتك مقضيَّة. والعرب سابقًا كانت حين تُقدَّم لها القهوة لا تشربها حتى تسأل عن قضاء حاجتها، فيقول صاحب البيت: حاجتك مقضيَّة. ولله المثل الأعلى ما بالك وأنت تطرُق باب الكريم الَّذي عرَّفكَ بنفسهِ سبحانه، والَّذي تتقلَّب في كُلِّ طرفة عين بين رحمتهِ ولُطفهِ فهل يليق أن تتجه لأحد قبل أن تتجهَ إليه؟ لا. ولذلك أيُّ حاجة لك تتعلَّق بنفسك أو بابنك، بحياتِك بأيِّ شيء عوِّد نفسك ألَّا تتوجَّه إلى أحد قبل الله. صلِ ركعتينِ لله، وارفع يدك وقُل: (يا ربّ واللهِ إنى لأعلم وأشهد أنَّهُ لا يقضى الحاجات إلَّا أنت وأنَّ حاجتى لا تُقضى إلَّا بأمرِكَ، وأنَّه لا سُلطان لأحد على أحد إلَّا بإذنكَ، وأنَّكَ أنت وحدك لا شريك لك بيدك الأمر من قبلُ ومن بعدُ، وأنَّكَ سبحانك وحدك أمرت بالأخذِ بالأسبابِ فأنا آخُذُ بها طاعةً لأمرِك وامتثالًا لما أمرت، ولولا أنك أمرتنى بالأخذ بها لما أخذت). صفاء التوحيد أن آخذ بالأسباب امتثالًا لأمرك، ولكني أشهد أنها لا تفعل إلَّا بأمرِكَ، ولا تكون إلَّا بقولِكَ كُن فيكون، ولا تتحرك إلَّا بأمرِك وإذنك فياربّ اقضِهَا لي. صفِّ القلب، تجدّد التَّوحيد آن لك أن تُباشِرَ الأسباب ويبقى القلب مُتعلِّقًا بمُسبِّب الأسباب لا بتلك الأسباب ولا يلتفت للبشرِ. بعض النَّاس حين تكون له حاجة عند أحد من البشر يلتفت إلى وجههِ، هل وجهه مُستبشر، مسرور، ضاحك، حزين، مُكتئِب؟ حاجتُكَ ليست عند الخلق. إذن لماذا تتوهَّم أنَّها عند الخلق؟ ظُلمة الغفلة أوهمتك أنَّ حاجاتك عند خلقهِ. وهي ليست كذلك إنها عند الله وحده لا شريك له هو الَّذي يملك قضاءها لا غيره؛ ولذلك قد يُؤدِّب الرَّبَّ (سبحانه وتعالى) عباده. فالرَّبّ يُربِّى فإذا توجَّه العبد إلى الخلق فيمنع الله (سبحانه وتعالى) تلك الحاجةِ عنه. لماذا؟ ليتعلم ذلك العبد ألَّا يتوجَّه إلَّا إلى خالقهِ؛ إذ يسدُّ الأبواب والمفروض أنها مفتوحة فما تنفتح، بمعنى آخر أو بالمصطلحات العاميَّة الواسطة قويَّة ويسدُّ (سبحانه وتعالى) لأنَّه لا حدود لقدرتهِ، ولا ينبغي أبدًا أن تستشعر عظمة أيِّ أحد ولا قُدرته ولا تلتفت إليها أمام قُدرة الله. فهو الَّذي يُحرِّك فالقلوب بيدهِ يُقلِّبُهَا كيفما يشاء سبحانه (جلَّ جلاله).
اُنظرإلى صفاء التوحيد لدى إبراهيم عليه السلام. فماذا بعد التَّوحيد؟ أي دعوة ممكن أن يدعو بها؟ قال:”رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا” من الآية 35 الأمان الَّذي لا يتحقق إلَّا بالتَّوحيدِ؛ ولذلك مكة البلد الحرام فيها البيت الحرام، فيها الأمن كله؛ إذ إنَّ واحد من أعظمِ أسباب الأمن التَّوحيد ونقاؤه. ونحن كأفراد نتفاوت في الشُّعورِ بالأمنِ. فقد تذهب إلى الحرم ولا تشعر بالأمن خائف بالرُّغمِ من كونك داخل الحرم وأمام الكعبة. قد تشعر بالخوف من مرض أو من مستقبل أو ما شابه فما الَّذي يُبدِّد مخاوفك؟ قُوَّة ونور التَّوحيد في قلبِكَ، يقينك. وهذا هو ما نحتاج إليه الأمان، التَّوجُّه إلى الله (سبحانه وتعالى). وتدبَّروا في الرَّبطِ إذ قال تعالى:”وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ”من الآية 35. كل الأصنام من أحجار وبشر كذلك، وكما ذكرنا تعدَّدت الأصنام والشِّرك والكُفر واحد. ولماذا قال؟:”وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ” وضع اليد على أساسِ الخوف، ولماذا يخاف البشر؟ الخوف في حدِّ ذاتهِ من الأصنام. وأذكر في كُتيب صغير جيد في المحتوى واسمه (حطِّم صنَمَك) يقول الكاتب في داخلِ الإنسان حين لا يكبر الإيمان بالله (عزَّ وجلَّ) ويعظُم في نفسِ الإنسان تظهر أصنام مختلفة. فناس تخاف من البشرِ، ناس تخاف من نفادِ المالِ، وناس تخاف من المرضِ، ناس تخاف من المستقبلِ، وناس تخاف على الأولاد. فالمخاوف هي أصنام ولكن ليس بمعنى أصنام الحجارة فيقول حطِّم صنمك بالإيمان بالله، بقُوَّة اليقين بهِ (سبحانه وتعالى) الَّتي تُسقِط كُل تلك الأصنام، تقع، تتهاوى مهما بلغت من القُوَّةِ، أكيد لأنَّ قلبي إذا امتلأ باليقينِ بالله (عزَّ وجلَّ) تساقطت كُل الأشياء الأُخرى في حياتي، وتدبَّروا معي في تلك المعاني فنحن ذكرنا – وسورة إبراهيم مليئة بالكلام عن مختلف الأصنام – القيَّادات فكريَّة، دينيَّة، اقتصاديَّة، قيادات مختلفة إذا لم يصحَّ إيمانُهَا بالله (عزَّ وجلَّ) ومسيرتها في الحياة أصبحت من الأصنامِ الَّتي يجري وراءها البشر”إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا”من الآية 21 . التَّبَعيَّة لا تنحصر في شكلٍ واحدٍ، فهناك تبَعيَّة الفِكر، تبَعيَّة الدِّين. بعض الأشخاص يرون الحق ما قاله فلان. فإذا قال الحقَّ غيرُه لا يُمكن أن يكون الحقّ حقًّا بل يكون باطلًا، والحقّ يُعرف بنفسهِ لا يُعرَف بالأشخاصِ، ولا بالأفرادِ، ولا بمن قال بهِ ولا بمن قالهُ. فالحقِّ حقّ ولكنها ظُلُمات فــحطِم صنَمَك. وتدبَّروا في هذا المعنى العظيم وهذا السُّؤال وتلك المناجاة الَّتي فاضَ به قلب خليلُ الرَّحمن إبراهيم (عليه السَّلام) إذ قال:”رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ” فلمَ الأصنام؟ كُل المخاوف في الدُّنيا سببها الأصنام. والآن حتى في حياة الأُمم والمجتمعات والأفراد توجد أصنام فما المطلوب؟ ألا يبقى صنم في قلبِك، الصَّنم ليس مُجرَّد رمز أو حجارة بل كُل الأصنام. ويبقى الواحد الأحد (سبحانه وتعالى) المستحق للتوجُّه بالقلبِ للعبادة. وتدبَّروا في الكلمة إذ قال تعالى:”رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ”من الآية 36 ضلال، ظُلمة الضلال فأي عمليَّة اتِّبَاع لغير منهج الله (سبحانه وتعالى) ضلال، وتدبَّروا في الكلمة قال تعالى: “كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ” والسُّؤال يبقى: كثير من النَّاسِ يعبدون الأصنام حتى بالحساباتِ؟ هي ليست أصنام الحجارة بل كُل أشكال الأصنام “أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ”
فما الحل؟ “فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ”من الآية 36 ماذا يتَّبِع؟ الحنيفيَّة السَّمحاء”حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”من الآية رقم 67 / سورة آل عمران وقال:”قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”162/ سورة الأنعام وحدهُ لا شريك له وهذا توحيد؛ إذن سورة إبراهيم في هذا الموطن موطن الدُّعاء تُكلِّمُني عن التَّوحيدِ، فإبراهيم (عليه السَّلام) يُعطينا نموذجًا لكيف يكون سُؤال العبد لربِّهِ إذ إنَّ السُّؤال لم يشغلهُ عن الخالِقِ، عن المسؤولِ (سبحانه وتعالى) وهو أكرم مسؤول، فلا تُشغِلُكَ المسائلُ عمن سألت. فالقلب ينشغِل بتوحيدهِ (سبحانه وتعالى) وبالتَّوجُّه إليهِ، فإذا ما ركزت تلك المعاني في قلبِ المؤمِن لا ترى المؤمِن إلَّا داعيًا. المؤمِن يقوم ويقعُد، ينام ويستيقِظ يدعو الله، يتقلَّب على الفِراشِ وهو يدعو الله أن ياربّ اغفر لي، ياربّ ارحمني، ياربّ أعطني، ياربّ ارزُقني، يا ربّ عافني والمسلمين. وعظمة الدُّعاء تأتي من عدَّةِ أشياءٍ أعظم جانب فيها هو إظهار الافتقار لله (سبحانه وتعالى) ومدى فاقتِك وحاجتِكَ إليه. وكثير من النَّاسِ يسأل عن أسبابِ إجابة الدُّعاء وموانع إجابة الدُّعاء، وواحــدة من أعظــمِ المـــوانعِ غفلة القلب عن الله (سبحانه وتعالى)، وانشغالِ القلب في أثناء الدُّعاء بغيرهِ حتى ولو بالمسألة الَّتي تُسأل. فلا تنشغِل بأحد عنهُ سبحانه، توجَّه إليه، وتلك اللحظة لحظة الدُّعاء هي تلك اللحظة الَّتي يغيرُ فيها الشَّيطان بجُندهِ وجنـودهِ على القلبِ ليُشغِلَهُ عن ذكـــرِ الله (عزَّ وجلَّ)؛ فيأتيهِ بكُلِّ الأفكارِ. فعلى سبيلِ المثال: أسأل اللهَ الشِّفاء فيُذكِرُنى الشَّيطان بِكُلِّ قائمة أسماء الأطباء من نسيت ومن لم أنسَ. وكُل أحد وأنا مُنشَغِل بالدُّعاء (لحظة الدُّعاء) والمطلــــوب؟ تجــــديد الإيمان والتَّوحــيد في القلــبِ لله (سبحانه وتعالى)، وصِدق الالتجاء والتَّوجُّه إليه وعدم الانشغال بشيء عنه سبحانه.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته