الحلقة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسَّلام على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين، وعلى آلهِ وصحبه أجمعين.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
ونحن نتدبَّرُ في سورةِ إبراهيم عليه السلام ذكرنا فيما ذكرنا أنَّ هذه السُّورة العظيمة تُقدِّم أُنموذجًا لرحلةِ النَّاس من الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، وذكرنا سبب اختيار اسم إبراهيم عليه السلام لهذه السُّورة العظيمة وهو أبو الأنبياء، وسيأتي ذكره في آخرِ السُّورةِ، والدَّور الَّذي قام به ولا يزال مُمتدًا وهو أبو الحنيفيَّة السَّمْحَة. إبراهيم عليه السلام سيأتي ذكره في موضعهِ، وكيف أنَّهُ ساهم بدعوةِ التَّوحيدِ، وأبقى قواعدها من خلالِ بناء البيت ورفع قواعدهِ الَّتي لا يمكن أن تكون هناك أيُّ رحلة من ظُلماتٍ إلى نُورٍ بدونِهَا.
وقفنا في اللقاءِ السَّابقِ أو انتهينا من قصَّةِ موسى عليه السلام وقلنا إنَّه رُغم أن قصَّة موسى ذُكِرَت في سُورٍ عديدةٍ من القُرآنِ، إلَّا أنَّ ذِكرها في هذا الموضع في سورةِ إبراهيم جاء لبيان دور موسى عليه السلام في مُحاولةِ إخــراجِ قومـــهِ (بني إسرائيل) من الظلمات إلى النور، ونحن نعلم أنَّهم في تلك المرحلة من حياتِهم كانوا فعلًا يُوحِدُّونَ الله عزَّ وجلَّ، وأنَّ السُّورةَ تتكلَّم عن توقيتِ خروجهم من أرضِ فِرعون، من مصرَ؛ إذن هم خرجوا من الظُّلُماتِ، ورُغم كلِّ ذلك تأتي الآيات العظيمة “أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ”من الآية 5؛ لتُبيِّن أنَّ الظُّلُمات ليست كفرًا أو نفاقًا أو فسادًا فحسب. فالسُّورة تعرض لنماذج من الظُّلماتِ، والظُّلمة الَّتي جاء ذِكرُهَا في قصَّةِ موسى عليه السلام مع قومهِ كانت تتحدث عن كُفرانِ النِّعَم وهذه ظُلمة. وقلنا إنَّ سِيَّاقَ الآيات في قصَّةِ موسى بيَّنَ ووضَّحَ أنَّ الإنسانَ أيًّا كان ممكن حين يبدأ بإلفِ النِّعمة الَّتي يعيشُ فيها -وهي في حقيقة الأمر ليست نعمة واحدة بل هي نِعَم- “وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا”من الآية 18 / سورة النحل. هذه النِّعم العظيمة إذا ألِفَهَا الإنسان واعتادَ عليها وأصبحت وكأنَّها جزء من روتين الحياة بمرورِ الوقت تصبح لا قيمة لها. فما الَّذي يجعل لها قيمة، ويُجدِّد الشُّعور والإحساس بها؟ إدامة الشُّكر؛ ولذلك في الآيات جاء الحديث عن الشُّكرِ، وعن الزِّيادةِ. فالإنسان كلما ازداد شُكرًا زادت له تلك النِّعَم كمًّا وكيفًا. وقلنا إنَّ النِّعمَ لا تنحصر في الأرزاقِ الماديَّةِ أو الحسِّيَّةِ، النِّعم ظاهرة وباطنة، حِسِّيَّة ومعنويِّة، ونعمة الحمد، ونعمة الشُّكر أعظم من أيِّ نعمةٍ يُرزقها الإنسان، بمعنى أنَّ الإنسانَ إذا رُزِقَ نعمة فأنعم الله سبحانه وتعالى عليه بشُكرِهَا كان الشُّكر على النِّعمة أعظم من النِّعمةِ. وقلنا إنَّ هناك فارِقًا بين الحمدِ والشُّكرِ. الحمد الَّذي نقوله في كُلِّ ركعة من ركعاتِ الصَّلاة، ونفتتح العلاقة والخطاب والرِّسالة بيننا وبين الله عزَّ وجلَّ بــ “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ “الآية 2/ سورة الفاتحة. هذا حمد القلب، هذا حمد اللسان، هذا الشُّعور بالنِّعمةِ الَّتي ينبغي أن يتبعها شيء آخر ألا وهو الشُّكر؛ لأنَّهُ يكون بالقلبِ واللسانِ والجوارحِ؛ ولذلك ربِّي عزَّ وجلَّ قال:”اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ “من الآية 13 / سورة سبأ. وذكرنا فيما ذكرنا أنَّ هذه العبادة الغائبة في كثيرٍ من الأحيانِ ليست مُجرَّد أن يُردِّد الإنسان بلسانهِ الشُكر والحمد لله واستشعار القلبِ بالنِّعمةِ، لا. فعمل الجوارح أن يستعمل كُلَّ ما أعطاه الله عزَّ وجلَّ من نِعَم فيما يُرضيهِ، وفي عبادتهِ، وفي طاعتهِ سبحانه، يستعملها في الانتهاء عمَّا نُهي عنه، لا يترك شيئًا من الأشياءِ الَّتي وهبها الله عزَّ وجلَّ له. وهذا يستدعي من الإنسان مُراجعةً لما أعطاهُ ومنحَهُ سبحانه، فلا يترك شيئًا إلَّا وأخرجَ زكاتهُ. فإذا كان يعرف الكتابة والقراءة فليُعلِّم من لا يعرف، وهكذا في كُلِّ نعمــة من نِعـــمِ الله عزَّ وجلَّ. تبدأ السُّورة في هذه الآيات بالحديث عن أقوامٍ عبر تاريخ الرُّسُل والأنبياء، وهؤلاء الأقوام الَّذين جاء ذِكرُهم في الموضع في هذه السُّورة إذ كانوا يُعانون كذلك من ظُلُماتٍ، والظُّلمة الَّتي ستعرض لها سورة إبراهيم هذه المرة (ظُلمة الشَّك) وهي ظُلمة تتعلَّق بالاعتقادِ، بالقلبِ، بالعقلِ يقول الله سبحانه وتعالى:”أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ”من الآية 9. صحيح أن الخطاب لِقُريش، وقد ذكرنا سابقًا أنَّ السُّورة نزلت بعد عشر سنوات أو أكثر من فترةِ الدَّعوةِ، دعــوة القُـرآن ودعوة النَّبيِّ في مكةَ، فكان الخطاب قويًّا شديدًا يتناسب مع تلك الشِّدَّة في اللجاجةِ الَّتي اتَّسمَ بها المكذبون من كُفَّار قُريش الَّذين عاندوا فكانت اللهجة والخطاب في هذه السُّورة العظيمة متناسبين مع الموقف الَّذي وقفوه تجاه دعوة القُرآن. عشر سنوات أو أكثر والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم يدعوهم ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، وبمختلفِ الأساليبِ ترغيبًا وترهيبًا فمـا تغيَّرت قُلـوب الغالـبيَّة منهم، وما تبدَّلَ شكُّهُم؛ فكان لا بدَّ أن ينزلَ ذلك الخطاب إذ قال تعالى:”أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ”من الآية 9. السِّيَّاق يُقدِّم نماذج ولكن الأنبياء الَّذين أُرسِلوا لتلك الأُمَم لا يعلمُهم إلَّا الله سواء كانوا بالعدِّ أو كانوا بالكيفِ، أُمم كثيرة عبر التَّاريخ. وهذا ما نفهمه من الآيات في بداية السورة حين قال تعالى:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ “من الآية 4. ربِّي عزَّ وجلَّ أرسلَ الرُّسُلَ لكُلِّ الأقوام الَّتي سبقتكُم. قال تعالى:”جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ”من الآية 9. دور الرُّسُل كما ذكرنا أن يأتوا بالآيات الواضحة، والَّتي قد تكون حسِّيَّة. مُعجزات نزلت مع الرُّسلِ والأنبياء، وقد تكون كتلك الَّتي مع نبيِّنا صلى الله عليه وسلم إذ ختمَ بها النُّبوَّات (القُرآن الكريم)، وتدبَّروا في الكلمةِ:”بِالْبَيِّنَاتِ”. والبيِّنَة شيء لا يحتاج إلى توضيح. فهي في ذاتها بيِّنَة واضحة إذ تُوضِح ما لم يُوَضَّح. فماذا كان الموقف؟ الإعراض. وربِّي عزَّ وجلَّ حين يأتينا بهذه المواقـف يُطمئِن قلــب النَّبــيِّ صلى الله عليه وسلم وكذا قلوب كُلِّ المصلحينَ والمجدِّدينَ عبر التَّاريخ وعبر الزَّمن. والإشكالية في مواقف الأُمَم والأقوام من هذه الكُتب والرُّسُل والرِّسالات. والحقّ أنَّهَا إشكالية لا تتصل بالحقِّ الَّذي أنت تعرضُه، أو تدعو النَّاس إليه، بل هي في نفسِ المتلقِّي؛ فالإنسان حين ينتبه لهذه النُقطة، ويدرك أنَّ قضيَّة الحقّ والباطل لا تتعلَّق بماهيَّة الحقِّ والباطلِ بقدرِ ما تتعلَّق بنفسيَّةِ المتلقِّي، تطمئن نفسه وتطمئن روحه، يزداد اليقين في قلبهِ وفي نفسهِ وفي ذاتهِ، ويعرف أنَّ الإشكالية ليست فيما يدعو النَّاس إليه، وإنَّما تلك في القلوب التي تتلقى الرسالة. قال تعالى:”فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ”من الآية 9. والقُرآنُ حين يُصوِّر لي كيف أنَّ بشرًا، بل قومًا يرُدُّونَ أيديهم في أفواهِهم فهذه كناية عن استهزائهم؛ فمتى يضع الإنسان يده على فمهِ؟ حين يسخر يضحك أو يسمع شيئًا يدعو إلى الضَّحِكِ؛ يمكن أن يضعَ يدهُ على فمِهِ للدَلالةِ على أنَّ ما سمِعَهُ مُضحِك جدًا. رسالة جاء بها نبيٌّ مُرسَل من عندِ الله عزَّ وجلَّ وهل يكون الموقف منها هكذا ضحكًا وسُخريةً؟! هذا عجيب! وهكذا كان موقف كُفَّار قُريش وأكثر من هذا؛ إذن المسألة أنت لست بِدعًا من الرُّسُلِ؛ فما حدثَ معك حدثَ مع رُسلٍ من قبلِكَ، ولم يكتفوا بالحركةِ الَّتي قاموا بها، إذ إنَّهم بذلك لا يتحلَّون بأدبِّ الاستماعِ والإنصات؛ قمَّة في الجحودِ والنُكرانِ وفي الإعراضِ، إعراض القلب عن الإيمان بالله عزَّ وجلَّ”وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ”من الآية 9. لم يكتفوا بالإشارةِ وإنَّما كفر بصريحِ العبارةِ، وليس هذا فحسب؛ إذ إنَّ الآية العظيمة تُبيِّن موقفًا في غايةِ الدِّقَّةِ والأهميَّةِ وهو أنَّ الإنسانَ -وحتى الكافر حين يكفُر- يبحث عن شيءٍ يُبرِّر به ذلك العمل الَّذي يقوم به، فالإنسان (وهذه طبيعة بشريَّة) يصعُب عليه أن يعترف بالخطأ؛ لأن الاعترافِ بالخطأِ شيء صعب على النَّفسِ إلَّا النَّفس الَّتي يُهذِّبُهَا القُرآنُ ويصنعهَا (نفس لوَّامَة). أمَّا النُّفوس الأُخرى الَّتي لم يُهذِّبْها أو يُربِّيها القُرآن فتلجأ إلى تبرير، وذكرنا في مراتٍ وتدبُّراتٍ سابقة أنَّ تبرير الخطأ أُسلوب إبليسيٌّ مائة بالمائة؛ إذ يجعل الإنسان لا يتحمَّل مسئوليَّة الفعل، هؤلاء كفروا وتلقَّوا دعوة الأنبياء بالسُخريَّةِ والاستهزاءِ والضَّحِك حتى إنَّ القُرآنَ نقل لي تلك الصُّورة: “فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ”من الآية 9.
ومع ذلك قالوا:”وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إليهِ مُرِيبٍ”من الآية 9. برَّروا الكُفر بأننا في حالةِ شكٍّ، ولذلك تناولت كل الآيات العظيمة التَّالية قضيَّة ظُلمة الشَّك؛ إذ قالوا: “وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إليهِ مُرِيبٍ”من الآية 9. إنَّ الشَّكَّ الَّذي نحن فيه مُخيف، والشَّكُّ نقيض اليقين. الإنسان في الفكرِ وفي الاعتقادِ له مراحل يمرُّ بها. أسوأُهَا الشَّكُّ، بعدها يأتي الظَّنُّ، بعدها يأتي اليقينُ.
لماذا كان الشَّكُّ أسوأ شيء؟ إن الشَّكَّ ورد مذمومًا في خمسةَ عشرَ موضعًا من كتاب الله، الغالبيَّة العُظمى منه في السُّور المكِّيَّةِ، ولأنَّهُ ظُلمة تأتي مُصاحبة للكُفرِ والإلحادِ والجحودِ والنُّكرانِ غالبًا. أمَّا الآية الوحيدة الَّتي جاء فيها الكلام عن الشَّكِّ في السُّورِ المدنيَّةِ شكٍّ في قضيَّةِ المسيحِ عليه السلام والخطاب فيها للنصارى. ماعدا ذلك شك في اليقينيَّاتِ والثَّوابِتِ الَّتي تُحدِّد علاقة الإنسان بربِّهِ، قالوا:”وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إليهِ مُرِيبٍ”من الآية 9. وما هي دعوة الرُّسُل والأنبياء عبر التَّاريخ بما فيهم دعوة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ لمن يدعوهم؟ لله الواحدِ القهَّار.
وتدبَّروا معي في الإجابة في آياتٍ عظيمةٍ تُربّي النفسَ؛ فهؤلاءِ القوم في ظُلمة، والإنسان حين يكون في شكٍّ (وسنأتي على قضيَّة إشكاليةِ الشَّكِّ) يكون عنده تردُّد وتستوي لديه الأشياء، ولا يعرف الصِّدق أو الحقيقة وليس لديه أيُّ دليل على أيِّ واحد منهما. ولكن الشَّكَّ في حدِّ ذاتهِ قائم في نفسهِ، في عقلهِ، في فكرهِ، في قلبهِ إذ ليس بالضَّرورة أن يكون في الخارج، ولذلك قال الله تعالى على لسانهم:”وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ”من الآية 9. إذن هم الَّذين في شكٍّ، وتدبَّروا معي في الرَّدِّ: “قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّماوات وَالْأَرْضِ”من الآية 10. استنكار فبأيِّ أمر تشكُّون ؟! وتدبَّروا معي في اختيارِ الكلمة في كتابِ الله عزَّ وجلَّ: “أَفِي اللَّهِ شَكٌّ “من الآية 10. هل يعقل أن تشك في وجود الله؟ أنت لا تعرف حتى الآن أنَّ الله هو الواحد الأحد؟!! وتدبَّروا معي أنَّ القُرآن لا يُخاطب بهذه الآيات قومًا انتهى زمانهم بل يُخاطب كلَّ زمن وكلَّ وقت.
يوجد كتاب رائع بعنوان (رحلتى من الشَّكِّ إلى الإيمانِ) للدكتور مصطفى محمود؛ يتكلم الكاتب فيه عن شكوكه في وجود الله يمكن الاستفادة منه؛ فعندما تُخالج الإنسانَ أفكارٌ إلحاديَّة يبدأ المجادلة في كُلِّ شيء ومنها وجود الله “أَفِي اللَّهِ شَكٌّ “من الآية 10. انظروا إلى الجواب المفحم. قال تعالى:”فَاطِرِ السَّماوات وَالْأَرْضِ”من الآية 10. فأنت إن غابَ عنك كُلُّ شيء فقد لا ترى الشَّجر لأنَّك تعيش في الصَّحراء وقِس على ذلك الكثير، ولكن السَّماوات والأرض لا يمكن أن تغيب عن أيِّ بيئة من البيئاتِ؛ في مَكَّةَ كما في المدينةِ، في الجزيرة العربية كما في أوروبا، كما في أمريكا كما في أُسترإليا. “أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّماوات وَالْأَرْضِ “من الآية 10. صُورة لا يمكن لبشرٍ ألَّا يراها سواء أكان كافرًا أم مُلحدًا أم مُؤمِنًا أم مُنافِقًا أم فاسقًا، فلا يمكن ألَّا يرى السَّماء. حتى لو لم يُرِدْ أن يراها فسيراها بعظمتِهَا، والأرض إذ يمشي ويعيش عليها فكيف لا يراها؟! وتدبَّروا في اختيارِ الاسم “فَاطِرِ السَّماوات وَالْأَرْضِ “فطرَ الشَّيءَ على غيرِ مثالٍ سابق. إشكاليةُ الشَّكِّ والسُّؤال الَّذي يطرح نفسه هنا ونحن نُعالج هذه الإشكالية ليس في ذلك الزَّمن كما عاش أهل مكة أو كُفَّار قُريش فحسب؛ ففي زماننا اليوم عدد غير قليل من البشرِ يُجادِل في وجودِ الله، ويقول لك: أنا لا أُؤمِن إلَّا بما أراه، أو بما أشعُر به في حسِّي؛ فكيف يُخاطب القُرآنُ هؤلاء؟ “أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّماوات وَالْأَرْضِ “من الآية 10. أأنت تشُكّ في وجودِ الله؟ القُرآن هكذا يُجادِل الكلمة بالكلمة، ويستجيب لتساؤلات الإنسان كلها حتى هذه الأسئلة الَّتي هي (غير مشروعة) فقد استنكر عليهم شكَّهم إذ قال: “أَفِي اللَّهِ شَكٌّ “من الآية 10. ولكن جــاء بالسُّؤال الأول “وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إليهِ مُرِيبٍ”من الآية 9. والقُرآن حين يسوق لي كل هذه الأقوال يُبيِّن لي أنَّ القُرآن كتاب حوار مفتوح مع كُلِّ الأجناس، كُلِّ الطَّبَقات والأصناف على اختلافها تجد ما يُجيب على تساؤلاتِهَا.
لماذا؟ تدبَّروا معي في أولِ كلمةٍ في السُّورةِ قال تعالى: “الــر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إليكَ لِتُخْرِجَ (من؟) النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ “إذن كُلّ النَّاس. إذن كُلّ البشر يجدون الإجابات على تساؤلاتِهم في هذا الكتاب؟ نعم. بعض الأشخاص وخاصَّةً الشَّباب يطرح تساؤلات فيمنعه بعض المربِّين، الآباء، الأُمَّهات خوفًا من أن يكون البحث عن دلائل وجود الله حرام أو ممنوع شرعًا ؟ المفروض في هذه الحالة التَّوجيه إلى قراءة القُرآن؛ وقد يستغرب توجيهه إلى قراءة القرآن الذي لا يؤمن به. نقول له: لا تبحث عن إجابة السؤال في مكتبة أو حتى على الإنترنت؟ ابحث في القُرآن عن إجابةٍ لسُؤالِك. إذا كنت تشكُّ في وجود الله فاقرأ القُرآن.
تدبَّروا معي في ذلك الرَّبطِ المعجِز بين كُلِّ كلمة وجملة وعبارة، سورة إبراهيم بدأت بقولهِ: “كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إليكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّور”من الآية 1. وآياتهَا جاءت تشمل كُلَّ النَّاس؛ إذن نقول للمُلحد تعالَ اقرأ ماذا يقول لك القُرآن، ثُمَّ بعد ذلك إذا أردتَ أن تُؤمِن أو لا فأنت حُرٌّ؛ إذ إنَّ هذه قضيَّة تالية بعد ذلك، وحرية الاعتقاد كفلها لك هذا الكتاب العظيم، ولن تجدها في كُتبِ الأرض أبدًا. ولكن أنت كإنسان عاقل أعطاك ربِّي عزَّ وجلَّ عقلًا فعليك أن تبحث عن الإجابةِ. فأنت تقول إنَّكَ في شكٍّ فابحث عمَّا يمكن أن يُزيل ذلك الشَّكَّ؛ وقُل لي للحظة: من الَّذي فطرَ السمواتِ والأرض؟ أم إنها خُلِقت هكذا بلا خالِق؟ فهل يعقل ذلك؟! وكمثالٍ إذا رأيت أيَّ شيء كـــطاولة أو قلم أو ثوب تسأل من الَّذي صنعه؟ وغيرها من الأمثلة في مُقارنتها بذلك الصُّنع الإلهي تبدو لا شيء فسبحان الَّذي صنعَ وخلقَ وأبدعَ وفطرَ. وإذا كنت تسأل عن الصَّانع فيما ذُكِرَ سابقًا من أمثلةٍ واستدراكًا نجد أنَّهُ في ظلِّ العولمة والسُّوق الاقتصاديَّة العالميَّة بدأت النَّاس تسأل عن مكانِ الصُّنع قبل أن تنظر حتى في البضاعةِ. فإذا كان الحال كذلك وأنت منذُ فتحت بصرك توجد السَّماوات والأرض أمام عينيك فلمَ لمْ تسأل من الَّذي فطرها؟ أهذا عقل؟ ثُمَّ تشُكُّ! الشَّكُّ ظُلمة جاءت من القلبِ الَّذي لم يفتح بصيرته، من العقلِ الَّذي أوصدَ كُلّ أبوابِ التَّعقُّلِ والتَّفكُّرِ؛ فالإنسان أعطاهُ وسلَّمهُ ربِّي عزَّ وجلَّ مفاتيح العقل والقلب، ولكن َّكُلَّ شيء بأمرِ الله سبحانه، مفاتيح عقلك في التَّفكُّرِ، في التَّدبُّر، في التَّأمُّلِ، في التَّبصُّرِ، في النَّظرِ ولذلك عشرات الآيات في كتابِ الله تدعو كُلَّ البشر للتَّدبُّرِ والتَّأمُّلِ والتَّبصُّرِ والنَّظرِ إذ قال تعالى: “أَفَلَا يَسْمَعُونَ “من الآية 26 / سورة السجدة. وقال: “أَفَلَا يَنظُرُونَ “من الآية 17 / سورة الغاشية. وكذلك”أَفَلَمْ يَنظُرُوا “من الآية 6 / سورة ق. ذكر الشَّكّ في آية واحدة ثم أعطى ووصَّفَ وشخصَّ الدَّاءَ ووصفَ الدَّواءَ، وأنت عطَّلت المفاتيح الَّتي بيدِك ولم تستفد منها؛ ولذلك وقعت في ظُلمةٍ.
دعوني أسألكم سؤالًا بسيطًا: أنا الآن في غُرفةٍ مُظلمة وبيدي مصباح ولكني لم أُشعِله، فهل الذَّنب ذنب المصباح أم ذنب اليد الَّتي تحمله؟ أو لو كان بالغُرفةِ مصباح وله مِفتاح لإضاءتهِ، ولكني لم أضغط عليه وظللت أشكو من الظَّلام فهل العيب في الغُرفة أم في عدم وجود النُّور أم في تلك اليد العاجزة الَّتي لم تعرف كيف تمتد إلى ذلك الضوء لتُحرِّكَهُ فتُبصِر. فتدبَّروا في آيةٍ واحدة “أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّماوات وَالْأَرْضِ “من الآية 10. المِفتاحُ بيدِك لا بيدِ أحدٍ سواك، مِفتاح خُروجك من ظُلمةِ الشَّكِّ، وكُل شيء بأمرِ الله. كيف أُعمِل المِفتاح”فَاطِرِ السَّماوات وَالْأَرْضِ”من الآية 10. تدبَّرْ في الكونِ، اُنظُر في الخلقِ عبر التَّاريخ بما فيها قُريش؛ هل ادَّعى أحد منهم أنَّ الَّذي خلق السَّماوات والأرض مناةُ أو هُبَل أو العُزَّى؟ لا. فِرعون هل ادَّعى فرعون أنَّهُ خلق السَّماوات والأرضِ؟ أبدًا، ولا حتى يجرؤ فأقصى ما قاله بجبروته وطغيانه:”يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا”من الآية 36 / سورة غافر. وفي آيةٍ أُخرى قال:”فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعلي أَطَّلِعُ إِلى إِلَٰهِ مُوسَىٰ”من الآية 38 / سورة القصص.
واستكمالًا لحديثنا قبل هذه الأمثلة عن المفتاح الَّذي هو بيدِك لتُخرج نفسك من الشَّكِّ؛ لأنَّ الشَّكَّ عذاب. ألَّا تعرف الحقَّ من الباطلِ، أو الصَّح من الخطأ فهذا عذاب. فأنت اليوم في حياتِك اليوميَّة إذا خُيِّرتَ بين أمرينِ استويا (مثل عملينِ) فتشعر أنَّك تكاد تختنق من الحيرة (هو صراع في واقعِ الأمرِ)، وما بين الحيرةِ والشَّكِ. الشَّكّ كارثة، يقع الإنسان في الحيرة حين تستوي بعض الأمور لديه؛ ولذلك برزت أهمية الدُّعاء وصلاة الاستخارة.
لماذا؟ لِتُخرج الإنسان من الحيرةِ. فما بالك بالشَّكِّ؟ ولذلك خُلاصة الكتاب الَّذي تكلَّمنا عنه (رحلتي من الشَّكِ إلى الإيمانِ) هي بيان كيف خرج هذا الرَّجُل من الشَّكِّ إلى الإيمانِ واليقينِ؟ بهذا التَّأمُّل والتَّفكُّر غير بعيد عن القرآن نخرج من الظلمات، فدعوةِ القُرآنِ هي لِكُلِّ النَّاس بما فيهم الملحدونَ المعاندونَ المكذبونَ بوجودِ الله. فإذا قرأت تغريدات يشوبها الإلحاد لشباب على وسائل التواصل الاجتماعي، فلا تعنِّفهم بل ادعُهم إلى قراءة القرآن الكريم، وإن قال لا أُؤمِن به، فقُل له: من قال لك أدعوك لتُؤمِن؟ هو رسالة اقرأها. وتدبَّروا كيف أنَّ هؤلاء الرُّسُل والأنبياء آية بعد آية يُبَيِّنُونَ أنَّ ما عليهم إلَّا البلاغ. أما الهداية فهي على الله عزَّ وجلَّ. قال تعالى: “فَاطِرِ السَّماوات وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ” لأيِّ شيء يدعوكم؟ “لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ” إذن من الَّذي يدعوكُم؟ الله عزَّ وجلَّ.
وعودة لما قاله الكُفَّار:”وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إليهِ مُرِيبٍ”من الآية .9 والأنبياء ماذا قالوا؟ قالوا: “يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ “من الَّذي يدعوكم؟ الله جل جلاله؛ إذن ليس الرسل. فالرسل مبلِّغون فقط فــ “مَّا عَلى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ “من الآية رقم 99 / سورة المائدة. وهذا تأكيد على صاحبِ الدَّعوة في سِياقِ الآيات وهو الله سبحانه وتعالى “فَاطِرِ السَّماوات وَالْأَرْضِ” من الآية 10.
وتدبَّروا معي في هذه الكلمة العظيمة لو خطر على قلب الإنسان ولو لثانية واحدة فقط
أنَّهُ جاءته دعوة من كبير من كُبراءِ الدُّنيا بغضِ النظرِ عن شكل وطريقة هذه الدَّعوة، فماذا سيفعل بها؟ ألا يفتحها ليعرف ماذا فيها قبل أن يرُدَّهَا؟ ولله المثل الأعلى. يا ناس ويا بشر جاءتكم دعوة من فاطرِ السَّماوات والأرضِ ألا تفتحونها وتقرؤونها؟ القُرآن كله دعوة؛ فكلُّ آية فيه دعوة. وأحيانًا لا نُكلِّف أنفُسَنا أن نفتحها. قمَّة الجحود والغفلة والنِّسيان وعدم اليقين وعدم وضع الأمور في نصابِهَا. قال تعالى: “يَدْعُوكُمْ “إذن الدَّعوة مُوجَّهة بالاسمِ؛ ولذلك لما سُئل أحد العلماء: كيف تتدبَّر القُرآن؟ قال: حين أسمع أيَّ آية من آيات القُرآن أُخاطب نفسي، فلا أقول: قال الله. بل سمعت ربّي يقول. فالكلام كلام الله؛ وحين يأذن لك الله تعالى أن تتلوه وتقرأه فهذا شرف عظيم. أمَّا إن حفظتَه وعملت به فيا لهُ من شرف! لأنَّ أعظم شيء كلامه سبحانه. إنَّهُ شرف فكيف تُعرِض عنه؟ قال تعالى: “يَدْعُوكُمْ “.
لماذا؟ تدبَّروا في الآيات الَّتي قبل: “وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) “. الإنسان مطلوب منه أن يشكُر لأنَّهُ يريد زيادة. يوجد بعض النَّاس يشكُر النِّعم لأجلِ أن تزدادَ فلا إشكالية، ولكن الله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى يدعوك للإيمانِ وهو الغنيّ عنك الحميد ؛ فالكُفرُ والإيمانُ إذا وجد أحدهما على الإطلاقِ في كلِّ الخلق لا يزيد ولا ينقص من مُلكهِ شيء؛ إذن لماذا يدعونا؟ قال تعالى: “لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ” من الآية 10. ولماذا يريد ربنا أن يغفرَ لنا؟ ببساطة لأنَّهُ يحبنا إذ خلقنا. ولله المثل الأعلى أنت تُربّي قطَّة في بيتِكَ تُحبُّهَا، وتتعلَّق بها وتحنو عليها وتخاف عليها وهي قطَّة. تُربّي ابنًا أو بنتًا تخاف عليه من الهواء خشية أن يتأذَّى فما بالك بمن يخلق سبحانه؟ قال: “يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ” من الآية 10. دعوة لكُلِّ النَّاس ولكُلِّ البشر.
كيف تدعو النَّاس؟ تفهمهم أنَّ الله يُحبُّهم. فلا بُدَّ أن تصلهم هذه الرِّسالة. ولو لم يكُن يُحبَّهم لما دعاهم ليغفرَ لهم. أنت اليوم في واقعك المعاصر تدعو الناس إلى مأدبة، وقد تدعو من تحبُّ ومن لا تحبُّ، ولكن حين تكون الدعوة عزيزة عليك فإنك تدعو إليها من تُحبُّ. ولله المثل الأعلى فالدَّعوةَ الحقيقيَّة باسمِ الله عزَّ وجلَّ! إذن ما الَّذي حصلَ في كُفارِ قُريش؟ وما الَّذي يحصُل في كُلِّ زمان حين نغفل عن كُلِّ هذه المعاني؟ الإجابة ببساطة أننا لا نقرأ بطاقة الدَّعوة بالشَّكلِّ الصَّحيحِ. وعليَّ حين أقرأ: (من فاطرِ السَّماوات والأرضِ إلى فُلانٍ ابن فُلان) ومَن هو فُلان ابن فُلان حتى يبعث له فاطر السَّماوات والأرضِ؟ ماذا يساوي في ملكوتهِ؟ فهل تبعث بطاقة لمن لا يهمُّك أمره، أم لمن يهُمُّك أمره؟ ولله المثل الأعلى. بطاقة من الله فاطر السَّماوات والأرضِ إلى العبدِ الفقيرِ الَّذي في كثيرٍ من الأحيان يطرُق أبوابَ العبيد من أمثالهِ فلا يُعطونَه ولا حتى بطاقة، وهو سبحانه له المثل الأعلى يدعوك سبحانه -جلَّ في عُلاه-.
تدبَّروا معي كيف ينتشِل القُرآن الإنسان من ظُلمةِ الشَّكِّ والحيرةِ إلى نُورِ الإيمانِ والتَّوحيدِ واليقينِ بالله عزَّ وجلَّ، كيف يُحرِّك القُرآن في نفسي هذه الأحاسيس؟ فكُلّ مرة حين أفتح القُرآن بل وقبل أن أفتحه أعطي نفسي ثانية، دقيقة واحدة إذ إنى أفتح رسالة من الله عزَّ وجلَّ فكيف يجب أن يكون تعامُلي معها؟ وكيف يكون إقبالي عليها؟ بعض النَّاس يشتكي ويقول: أنا عندما أفتح القُرآن أشعُر بالنُّعاسِ فنجيبه لو تدبَّرت ممن هذا القرآن ما شعرت بالنُّعاس. أيأتيك النُّعاس وأنت تفتح الرِّسالة من فاطرِ السَّماوات والأرضِ؟! بينما إذا جاءتك وأنت نعسان من فُلان من النَّاسِ صاحب مقام أو منزلة رفيعة في الدُّنيا فماذا يحدُث؟ يطير النَّوم من عينيك ويتبخَّر كأنه لم يكُن. حتى إنَّكَ قد لا تنام تلك الليلة. وأنا أجزم أنك تُفكِّر في كُلِّ ما قد يتعلَّق بهذه الرِّسالة وصاحبها ولله المثل الأعلى؛ ولذلك “لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ ” من الآية 1. ظُلمة الغفلة والبُعد عن الله سبحانه وتعالى، وعدم التَّفكُّر في كُلِّ ما نحن فيه. ماذا كان الرَّد؟ “قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ” من الآية 10. تدبَّروا في الظُّلمةِ، لم ينظروا في الدَّعوةِ ولا نظروا في قضيَّة أنَّ اللهَ أرسلَ إليهم وهو فاطر السَّماوات والأرض، نظروا في شيء واحد ألَّا وهو بشرية الرُّسُل، الأمر الَّذي يدُل على مُنتهى الغفلة والجهل، لأنَّ الشَّكَّ نوع من أنواعِ الجهلِ. وقطعًا كُلُّ إنسان يقع في الشَّكِّ فهو جاهل ولكن ليس كُلُّ جاهل يشُّكُّ؛ فالجهل ممكن أن يُزال بالتَّعلُّمِ، ولكن الشَّكّ لا يُزال إلَّا بيقينِ الإيمانِ. فالشَّكُّ أخطر حلقات الجهل، ولذلك كلُّ الآيات جاءت في القُرآن تذُم الشَّكَّ. وفي سِيَّاقِ الذَّمِ صفة لا يمكن أن تكون في قلبِ المؤمِن بالله عزَّ وجلَّ، ألا وهي الشكُّ في الاعتقاد. “قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ” من الآية 10. أنتم بشر. أنت الآن وصلتك رسالة أو بطاقة هل تنظر إلى الرسول الذي حملها، ورغم أن الرُّسُل لهم مكانتهم، إذ اصطفاهم الله من بين الخلقِ، إلا أن مهمتنا لا تنحصر في النظر إلى من حمل الرسالة
بل إلى من أرسل لنا الرِّسالة؟ هؤلاء لا ينظرون فيمن أرسل، لا يتفكَّرون وليس هذا فحسب، فالإنسان حين يقع في مرضِ الشَّكِّ (وهذه مُشكلة خطيرة سنأتي عليها حيث تندرج تحت الشَّكِّ في الاعتقادِ، والشَّكّ كذلك أنواع) يصبح الليل عنده نهارًا والنَّهار ليلًا؛ إذ جاءهم رُسل لإيصال رسالة فما فكروا بهذا، ولكن قالوا: “تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ” من الآية 10. ولكن ما علاقة آبائكم بالرِّسالةِ؟ حالة الشَّكّ تجعل الإنسان يرى أشياء كثيرة غير موجودة.
ولذلك الشَّكّ عامةً والشَّكُّ بين الأزواجِ خاصة من أخطرِ الأمراضِ إذا دخل في قلبِ الرَّجُل أو المرأة هو أعظم على مستوى الزوجين؛ إذ تبدأ الزوجة في تفتيش جميع مُتعلِّقات الزَّوج، والبحث وراءه، وتفسير ما تصل إليه بأسوأ ما يكون. فالشَّكُّ يُخرِّب العلاقة فيرى الإنسان أشياء لا حقيقة لها وليس لها وجود. وقِس على هذا، ويكون الوضع كذلك بالنسبة إلى الزَّوج إذا دبَّ الشَّكُّ في العلاقةِ يسوق إلى عشراتِ الأشياء منها ما بدأ به القُرآن حين قال على لسانِ هؤلاء: “تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا ” من الآية 10. الرُّسُل المبلِّغونَ للرِّسالةِ أصبحوا في نظرِ هؤلاء متمردين على دين الآباء والأجداد؛ والمطلوب: “فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ” من الآية 10. والسَّماوات والأرض أليست سُلطانًا؟ لا. إذ يريدون ما هو أوضح من السَّماوات والأرضِ بسببِ الجهلِ. أو ضعف العقول. فهل يوجد آية أعظم من السَّماواتِ والأرضِ؟! ولكن ما عادوا يرون النُّورَ نُورًا، ولا الليلَ ليلًا، ولا النَّهار نهارًا. وهكذا صاحب الشَّكِّ فكُلُّ شيء أسود في حياتِه.
ومن أخطرِ الأشياء إن وقع في الاعتقادِ، أو وقع في عملِ الجوارحِ الشَّكّ في الوضوءِ والصَّلاة وما شابه فبعضِ النَّاسِ لديهم وسواس. عالجه القُرآن والسنة المطهَّرة.
وتدبَّروا معي في بقيِّةِ الآية “تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا ” من الآية 10. ظُلمة أُخرى. ماهي؟ ظُلمة (الآبائيَّة). الشُّعور الشَّديد بالانتماءِ للآباءِ والأجدادِ؛ هذه حقيقة لا يمكن نفيها ولكن الانتماء إليهم بالنَّسبِ، وليس المفروض أن يكون بالاعتقاد الَّذي هو قضيَّة فرديَّة لا بدَّ أن يقوم على الأسسِ الَّتي جاء بها القُرآنُ العظيم.
وتدبَّروا معي لماذا انقلب الإسلام لدى أكثريَّة المسلمينَ اليوم إلى طقوس وشعائر مفرغة من أهدافها؟ الإجابة المنطقيَّة لأنَّهُم ورثوا الإيمان والاعتقادِ والإسلام الَّذي لا يُوَّرَث. هذه قضيَّة خطيرة، مُشكلة المشاكل هنا الَّتي يضعها القُرآن في سُورةِ إبراهيم في آية واحدة إذ قال تعالى: “عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا ” من الآية 10. عَقَبَةٌ كَؤُودٌ في طريقِ هؤلاء ولا تزال إلى إليوم. فالنَّاس يعيشون في أثوابِ وجلابيب آبائهم وأُمهاتهم وأجدادهم، وإذا كان هذا الثَّوب لا يُناسبني وربّي عزَّ وجلَّ أعطاني عقلًا وفكرًا لأتأمَّل وأتَدبَّر وأتساءل وأصِل إلى الحقيقة فهل أترك كل هذا من ورائي كما فعل هؤلاء الكُفَّار؟ إذن القُرآن حدَّد لي هنا ظُلمتين: الظُلمة الأولى هي ظُلمة الشَّك وهي نتيجة. لماذا حدثت؟ نتيجة لتلك الظُلمة الَّتي كان يعيش فيها هؤلاء، ظُلمة الآباء والأجداد والاعتياد على الشيء المألوف، هل يمكن أن يصير ظُلمة؟ نعم جدًا؛ لذلك في كثير من الأحيان نحن نقع في أسرِ المجتمع، أليس كذلك؟ أسر النَّاس فكُلُّ النَّاس يفعلون هكذا. هذه ظُلمة تُوقع الإنسان في الشَّكِّ والحيرةِ؛ لأنَّه من آنٍ لآخر تُصبح كثير من الثَّوابت في حياتِنا والَّتي هي حقّ ظاهرةً مثل الشَّمس في وضحِ النَّهار نُصبح منها في شكٍّ.
الآن بعض المسلمين غير مُتأكِّد من نفسه، ولا حتى في أبسط التَّعاليم أو الأوامر الرَّبانيَّة الإلهيَّة، من أين جاء هذا؟ من ضغطِ المجتمع، وماذا يُشكِّل المجتمع هنا؟ “يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا “هذا نموذج والنَّماذج مُتعدِّدة، السائد والمألوف في المجتمعِ أنَّهُ أصبح يُقِر الشيء الفاسد، والآن عدد غير قليل من النَّاسِ لا يدفع الزَّكاة، يُصلي ويصوم رمضان ولكن لا يدفع الزَّكاة فلديه شكّ _ والعياذ بالله _ فما الَّذي أدَّى إلى كل هذا؟ هذا الضَّغط على الحقِّ ليُصوَّر بصُورةٍ باطلة فيُوقِع الإنسان في الشَّكِّ والحيرةِ ما بين: هل هذا صحيح أم لا؟ ما بين ما يقوله فُلان وبين ما ورد في القُرآن، هل الرِّبا فعلًا حرام؟ وغيرها من التَّساؤلات. ظُلمة الشَّكّ الَّتي جاءت من هذه الظُلمة “كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا” لماذا كانوا يُعطون كل هذه القيمة لما يعبُد الآباء؟ سؤال وجيه جدًا يطرح نفسه: هل كان مُشركو مكةَ يحبون آباءهم لهذه الدَّرجة؟ وإن كانوا كذلك فهذا يدُل على أنهم كانوا في قمةِ البر بآبائهم، علامَ يدُل تكرار ذِكرهم “يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا ” هل هو تعبير عن المألوفِ السَّائِد؟ التَّيَّار الذي يمشىي الإنسان معه؛ إذ إنَّهُ من أصعبِ الأشياء أن يسبح الإنسان ضد التَّيَّار، وكانوا يُعارضون هذا، لذلك تضرَّعـوا بقولهـم: “فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ “. من الآية 10.
وتدبَّروا معي في عظمةِ الحوار الَّذي دارَ بين الرَّسولِ وهؤلاء الأقوام: “قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ” من الآية 11. فــالبشريَّة لا أحد يُجادل فيها، والرُّسُل أراد الله لهم أن يكونوا بشرًا.
لماذا؟ حتى نعرف كيف نسير على ما ساروا عليه؛ فهم إن لم يكونوا بشرًا كيف يُقتدى بهم؟ صحيح “إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ” من الآية 11. إذن لماذا اصطفاكم الله؟ تدبَّروا معي في الكلمة العظيمة: “وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ” من الآية 11. إشكالية خطيرة في حياةِ النَّاس اليوم تأتي بظُلمةِ الحسد، حتى حسد الأنبياء، ومن السِّياقِ والسُّورة مكيَّة نفهم أنَّ كُفار قُريش قالوا لنبيَّنا صلى الله عليه وسلم: ولماذا يُرسِلُكَ الله وأنت من بني هاشم؟ ولمَ لم ينزل هذا القُرآن على أيِّ أحد منا “وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ” آية 31/سورة الزُّخرُف. لماذا يأتي دائمًا في بني هاشم ويخُصُّهم بالشَّرفِ؟ حسد. وهذا تحليل عميق، فيمَ يُوقِع الإنسان؟ في ظُلمةٍ. فلما وقعوا في تلك الظُّلمةِ كان الردِّ “وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ “. إذن هو اصطفاء، والحسد مرض كيف تتخلَّص منه؟ وفي هذه الآية كلمات موجزة عالجت إشكالية الحسد، كان ذاك حسد وقع والآية لم تُصرِّح به، ولكنَّهُ واضح من سِياقِ الكلام بين الأقوامِ وبين الرُّسُلِ، وبين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وكُفَّار قُريش. لماذا رفض اليهود في المدينةِ الدَّعوةَ؟ “حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ “من الآية رقم 109 / سُورة البقرة. إذن هو حسد. والحل أن تُدرِكَ أنَّ “اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ” من الآية 11. فلا تتساءل لأنَّ هذا السُّؤال غير مشروع. فكثير من النَّاسِ يسأله ويقع في الحسدِ؛ ومثال على ذلك قول أحدهم: فُلان لا يستحقّ. لماذا؟ لأنَّ عنده كذا.. أو أنا أفضل منه علمًا وعملًا وحسبًا ونسبًا وشكلًا وجمالًا، لماذا هو أحسن مني ؟! أأنت تُقسِّم الأرزاق؟ تدبَّروا معي كيف يُعالَج التَّوحيد، وتدبَّروا في الكلمة إذ قال تعالى: “وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ” المنّ والعطاء بيدِ الله، وتدبَّروا في اختيارِ الكلمة في نهايةِ الآية: “وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ “. فنحن عبيد وهو سبحانه السَّيِّد، هو الَّذي يُقسِّم بيننا الأرزاق، هو يعرف من يُعطي وكيف يُعطي ولماذا يُعطي ومتى يُعطيه فلا تنسى هذا أبدًا؛ ولذلك ما كان لنا أن نأتيكم بسُلطان إلَّا بإذنِ الله، قمَّة التَّواضع والانكسار بين يديّ الله عزَّ وجلَّ .
أنت لا تدعو النَّاس بحولك وقُوَّتك، ولا بما أُوتيتَ من منطقِ. فبعض النَّاس يعتقد وخاصة الدُّعاة أنَّهُ قد أُوتي لسانًا جميلًا فتُفتح له القلوب. والقـلوب لا تُفتح إلَّا بيدِ من خلقها، وأنت عليك أن تُدرك أنَّهُ لــولا أنَّ الله عزَّ وجلَّ يُعطيك لما تكلَّمت بكلمة، ولتلعثمت ولرُبَما ما نطقت وهكذا في كُلِّ شيء. إذن “اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ” فإشكالية الحسد هي الَّتي تقع فتمنع عنك الخير. وهذه إشكالية خطيرة وظُلمة يقع فيها الكثير حتى من المؤمنين، ولذلك قال تعالى: “وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ” آية 5/سورة الفلق. فالإنسان قديقع منه الحسد وقد لايقع. ومثال على ذلك أُخوة يُوسف وهُم سُلالة الأنبياء. ما الحل في الحسد؟ أن تضعها قاعدة أمامك: “وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ” فكُلَّمَا حدَّثْتكَ نفسُك لماذا فُلان عنده وأنت ليس عندك؟ وغيرها مما شابه من مُقارنات تكون الإجابة هي الآية السَّابقة. وأن تعرف أنَّكَ عبدٌ، وهو فاطر السَّماوات والأرض، أرضيت به ربًّا، ولا ترضى به مُقسِّمًا للأرزاق؟ رضيت أو لم ترضَ فلن تنال إلَّا ما يُعطيك الله.
وتدبَّروا في موقف الرُّسُل إذ قالوا: “وَعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ” من الآية 11. مُقابل ذلك الشَّكّ جاء بعبادة في أكثرِ من موضع في سُورةِ إبراهيم وهي عبادة التَّوَكُل. فلماذا؟ ظُلمة الشَّكِّ لا تنحصِر في الإيمانِ أو الاعتقادِ أو وجود الله أو عدمه فحسب، لا بل تأتي على الإنسان المؤمِن أحيانًا.
كيف؟ بعض الأشخاص يشُّكُّ في أنَّ اللهَ سيرزُقُه وهو الّذي يقول: “وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلى اللَّهِ رِزْقُهَا “من الآية 6 / سورة هود. ولذلك يجعـــل رزقَــهُ بأن يُكــذِّب بالله سبحانه. فبعض الأشخاص يقول لك (على سبيلِ المثال): لم يكُن الوارد كافيًا مُقارنةً بالوارد الَّذي زاد عندما أدخلتُ -مثلًا- الخمور وعناصر أُخرى، فانفتحتُ على العالم وانفتح عليَّ العالم وزاد المال. فبأيِّ شيء تختلف تلك القضيَّة عن قصَّةِ الَّذين تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شُرَّعًا ويوم لا يسبتونَ لا تأتيهم حيتانهم؟ “وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ” آية 82/سورة الواقعة. إذ تربُط الرِّزق بالتَّكذيبِ بالله. فمن الَّذي يرزقُكَ حتى تُكذِّب به؟ وكمثال ذكرته سابقًا في مرة أنَّ بعض الفتيات أو الشَّباب المقبِل حديثًا على الدَّين يقولون: قبل أن أصلي كانت صحتي كأروع ما يكون، أُموري مُيسَّرة وكُل شيء كذلك. وعندما بدأت أُصلي وكأنَّ الأبواب غلِّقت في وجهي، وصِرت أمرض ولا يوجد شيء يتيسَّر أمامي. وهذه حقيقة يذكُرها بعض الشباب، ربّي عزَّ وجلَّ يبتلي عباده بما شاء ما الحل؟ ألَّا تشُّكَّ ولا طرفة عين أنَّ الله رازقُكَ، وأنَّ الله معطيك، وأنَّ بعد الصَّبر سيأتي الفرج، وأنَّ بعد الضِّيق سيأتي الفرج، وأنَّ بعد العُسرِ يُسرًا، وإنَّ مع العُسرِ يُسرًا. ولو كنت في شكٍّ منها لثانية جدِّد إيمانك، وكرِّر الشَّهادة. فالله لا يُشكَّ فيه سبحانه ولذلك لا يُجرَّب، هذا يقين يجب أن يستقرَّ في قلبِك، وعليك أيضًا أن تُخرج الشَّكَّ، وتعلم أنَّ رزقك ليس بيد أيِّ أحد، وأنَّ أجلك ليس بيدِ أحد، فإذا كان لديك شكّ في هذه الأشياء الثابتة، المبادىء، اليقينيَّات، المسلَّمات فجدِّد إيمانك وتوحيدك، وإذا كان لديك شكّ أنَّك حين ترفع يدك وتقول: يارب فإنَّهُ لا يسمعك –سبحانه- ولا يستجيب لك فجدِّد إيمانك، وإذا عندك شكّ لثانية أنَّك حين تكون مُنكسِرًا وترفع يدك وتقول: يا غياث المستغيثينَ أغثنى، وتظُنُ بأنَّهُ لن يُغيثك جدِّد إيمانك، إذا كان لديك شكّ أنَّهُ إذا غُلِّقت أبواب كل البشر ولم يبقَ باب أمامك وتوجَّهت إليه سبحانه تدعوه وما فتح لك الباب فجدِّد إيمانك وقُل: لا إله إلَّا الله، وإذا كان لديك شكٌّ أنَّك في يومٍ من الأيامِ قلت له: ربّي إنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين (الدعاء مأخوذ من الآية الكريمة رقم 83 / سورة الأنبياء). ولن يُنجيّك فجدِّد إيمانك فهذه -كما سبق ذكره- مُسلَّمات؛ ولذلك جاء بأعظم عبادة على لسانِ الرُّسُل، قال: “وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلى اللَّهِ ” من الآية 12. فهذا قرين الإيمان، اليقين بالله. ولذلك كُلَّمَا ازددتَ يقينًا وثباتًا ازددت توكُّلًا على الله. الضِّيق الَّذي أنت فيه سيُخرجك منه، الظُّلمة الَّتي أنت فيها سيأتي بعدها النُّور، ولذلك من أعظمِ وسائلِ دفع الوساوس على الرزق أو الصحة أو الأولاد أو تيسير الأمور كلمة واحدة يرد بها على كُلِّ الوساوس: “حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِنَّا إِلى اللَّهِ رَاغِبُونَ ” الدعاء مأخوذ من الآية 59 / سورة التوبة. فإذا قال الشَّيطان لك: لن يُعطيك، أو خوَّفك البلاء فقل له: “حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِنَّا إِلى اللَّهِ رَاغِبُونَ”. إذا تركت العمل الَّذي فيه شُبهة أو حرام ووسوس لك الشيطان أن: وماذا سيحدُث لك ولا عمل عندك ولا بيت عندك وديون عليك و..و..؟ فقُل له: “حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِنَّا إِلى اللَّهِ رَاغِبُونَ”. وإذا سوَّد الدنيا في وجهك وقال لك: فُلان يحسدك ويمكُر بك وقد يسحرك فقُل له: “حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِنَّا إِلى اللَّهِ رَاغِبُونَ”. وقُل: “وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلى اللَّهِ ” من الآية 12 قمَّة التَّوكُّل، والتَّوكُّل ليس كلمة يقولها الإنسان بل هو عمل قلبيّ، ومتى يقوى التَّوكُّل في القلبِ؟ كُلَّمَا قوي الإيمان واليقين بالله، كُلَّمَا عرفت الله أكثر أيقنت به أكثر، وكُلَّمَا أيقنت به أكثر توكلت عليه أكثر وازددت شُعورًا بضعفِك وعجزك أمامه. قال تعالى: “وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ” من الآية 12. الهداية وماذا بعدها؟ وماذا أكثر من الهداية؟ اُنظر لعُمرك كلِّه. وكيف أنَّ ربّي يهديك ويفتح لك أبواب الخير، والسُّؤال الَّذي يطرحه بعض الشاكِّين: ما بال المسلم عندما يتوكَّل على الله يزداد تواكُلًا؟ أو هكذا يُروَّج ضد عبادة التَّوكُّل، أبدًا. تدبَّروا في الكلمة إذ قال تعالى: “وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آَذَيْتُمُونَا ” من الآية 12.توكُّل أعطاه شُحنة، دفعة قويَّة دفعت به إلى الثبات “وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آَذَيْتُمُونَا “. سيأتينا الأذى إذن أين التَّوكُّل إذا حصل أذى من النَّاسِ؟ والكلام موجَّه لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم ولكُلِّ الأُمَّة، ولكُلِّ من يقرأ القُرآن العظيم. قال: “وَلَنَصْبِرَنَّ “إذن كيف تُواجَه مصاعب الحياة؟ بالصَّبرِ، كُلَّما ازددت توكُّلًا ازددت صبرًا إذ أعطاك الإيمان والتَّوكُّل صبر على كُلِّ شيء، ومرة ثانية قال تعالى: “وَعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ” من الآية 12
تدبَّروا الآية الَّتي قبلها قال تعالى: “وَعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ” من الآية 11 إيمان يُولِّد يقينًا يُوِّلد توَكُّلًا، وتوَكُّل يُولِّد صبرًا وثباتًا؛ لذلك ترى أمر المؤمِن كُلَّهُ خيرًا. تُصيبَهُ الشِّدَّة فيتوكِّل على الله ويتفاءِل. إنسان إيجابي ولسان حالهُ غدًا أو بعد غد أقوم بالسَّلامة؛ ولذلك الحذر الشَّديد من اليأس والإحباط ومِمن يبثُّون اليأس والإحباط لأنَّ هناك مِنَ النَّاسِ مَن هو مُؤمِن، ولكن شُغله الشَّاغِل أن يَبُثَ اليأس في النُّفوسِ لا يعرف شيئًا سوى اليأس والتَّشاؤم والإحباط وليس له من التَّوَكُّلِ أيُّ حظٍ سوى أن يقول أحيانًا: حسبُنا الله ونعم الوكيل، وحتى عندما يقولها يكون في سِياقِ التَّذمُّرِ وهذه إشكالية خطيرة؛ ونحن في كثير من الأحيان أصبحنا نقول: حسبُنا الله ونعم الوكيل حين لا يُعجبنا شيء، فأين الإيمان واليقين بالله عزَّ وجلَّ ؟ قال تعالى: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا “فعلًا واقع الأمر “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَولَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ” من الآية 13. تحدٍ وإصرار وعناد، والموقف؟ “فَأَوْحَى إليهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ” من الآية 13. تدبَّروا في الكلمة، هل الظالمون في عصرِ الأنبياء فقط؟ لا بل الظالمون في كل زمان ومكان. إن كان لديك إيمان، يقين، توَكُّل على الله، اعلم أنَّك إن أُخرجت من أرضِك ربّي سيُهلِك الظَّالمين؛ مَن ظلمك ومن الَّذي يظلم الإنسان؟ إنه الإنسان حين يُحارب لأجلِ شيء يعتقِدُه أو يُؤمِن به مما يتعلق بنفسه أو ماله أو صحته أو حريته أو أولاده.
وتدبَّروا معي هل الإسلام لا يعرف الحُرية ولا يعترف بالحُرية؟ أي كتاب في الكون يأتي بكُلِّ هذه المبادىء العظيمة فأين الإشكالية؟ “لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَولَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا “ولكن الحُرية الَّتي يصنعها القُرآن ويبنيها ليست الحُريَّة المنفلِتَة الواردة من الغرب والشَّرق والَّتي تُملى على البشرِ تحت الضغوطِ والإكراه، لا فهذه ليست حُريَّة بل عبوديَّة، الحُريَّة الحقَّة الَّتي يصنعها القُرآن هي الَّتي تُحرِّر الإنسان من الخوفِ فلا يعُد شيء يُخيفه فرزقه بيدِ الله، وأجله بيدِ اللهِ، وكُلّ شيء بيدِ الله، التَّوَكُل فمن الَّذي صنعها؟
ثم يأتي الوعيد “لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ “وبعده البشرى “وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ” من الآية 14. ولكن لمن؟ قال تعالى: “ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ” من الآية 14. لماذا جاء بالخوف هنا؟ لأنَّ الموقف شديد؛ فالإنسان في مثلِ هذا الموقف مِثل هؤلاء الكُفَّار حين واجهوا الرُّسُل أقوياء لديهم سُلطان وجاه ومناصِب ومال ودُنيا، فما ظنَّت الخوف ولكن من يخاف منهم لا يعرف طعم التَّوكُّل، من الَّذي ينجو؟ “خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ “الَّذي يبقى الله سبحانه وتعالى عنده أكبر من كُلِّ أحد ومن كُلِّ شيء، وخوفه من الله أكبر من كُلِّ خوفٍ، وإذا كبُرَ خوف العبد من ربِّهِ عزَّ وجلَّ تلاشى خَوفه من كُلِّ أحد، قاعدة. وإذا كبُرَ خوفُ العبدِ من العبيدِ من أمثالهِ كبُرَ في قلبهِ الخوف منهم وكَبُرَت كُلّ هذه المخاوِف وما عاد يرى ولا يستشعِر الخوفِ من الله عزَّ وجلَّ؛ ولذلك إن قالوا له: اسرق يسرِق، اكفُر يكفُر، إذ قالوا: “أَولَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا “بأي شيء يهددونهم؟ بالقُوَّة بالسُلطان الَّذي بين أيديهم؛ والمؤمِن يُدرك الحقيقة. فكيف أدركها؟ كيف لا يخاف المؤمن إلَّا من الَّذي خلقه؟ لأنَّهُ يعرف فعلًا خالقهُ عزَّ وجلَّ. ومن عرف الله سبحانه أحبَّهُ وخافَهُ. ومن عرف من سُواه من البشرِ خاف من البشرِ، وما عَرفَ طريق الخوف من الله سبحانه. ما النَّتيجة؟ أنَّ الله عزَّ وجلَّ يُخيفُهُ من كُلِّ شيء، فيصير يمشي ويلتفت وراءه من الخوفِ، من الكلمة الَّتي ينطق بها، ومن الحركة الَّتي يتحرَّك بها، بل من سكناتِه ومن كُلِّ شيء. ولذلك المقولة الَّتي تقول: (الحيطان لها آذان) وكُل شيء له آذان قد تنسىي الإنسان أنَّ اللهَ يسمع ويرى، حتى الحيطان صار لها آذان في عُرفِ مَنْ؟ في عُرفِ الَّذي يعمل حسابًا لكُلِّ أحد إلَّا الواحد الأحد. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفعنا وينفعنا بالقُرآن العظيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.