تدبر سورة الأعراف: الحلقة الثانية

سورة الأعراف الكريمة الحلقة  الثانية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه.  ما زلنا في بدايات الحديث عن سورة الأعراف، وقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن المناسبة بين أواخر آيات سورة الأنعام و أوائل آيات سورة الأعراف، وقد عرفنا قبل ذلك عن محور سورة الأعراف أو مقصدها وهو الحديث عن رحلة هذا الإنسان الخليفة الذي عينه الحق سبحانه وتعالى.  والرحلة بدأت منذ أن بدأ الحديث عن أبينا آدم عليه السلام، أبو البشرية ، وإلى الحديث عن المصير عن الجنة والنار وأحوال أهلهما، والوزن وزن الأعمال، هذه الأحداث التي جاءت في سورة الأعراف بشكل عام.  ولكن فلنعد إلى أوجه التناسب بين أول سورة الأعراف وآخر سورة الأنعام.  إن التناسب بين السورتين ، وهو مبحث عظيم ودقيق جدا وعلى درجة كبيرة من الأهمية ، يعطي القاريء والمتدبر تصورا كاملا عن مباحث هذه السورة إضافة إلى ما تعطيه من طبيعة هذا الإعجاز الذي اتسم به هذا الكتاب المعجز في وحدة بناءه، الإعجاز في التكامل في الوحدة البنائية كما يطلق عليها بعض العلماء والتي ما جاءت فقط هكذا، بل جاءت لتحقيق غاية هي أصل تنزيل هذه الرسالة الخاتمة بناء الإنسان في مجموعه البشري، في المجموعة التي يعيش فيها، في الزمن الذي يحيى فيه.

إن القرءان يخاطب كل البشر، فالقرءان عالمي ليس لجنس ولا لمنطقة ولا للون ولا لزمن معين هو لكل البشر وإلى أن تقوم الساعة ويؤذن برفعه.  ولذا فعلى القاريء المتدبر أن يحاول أن يدرك طبيعة الأجواء التي نزل فيها القرءان أول ما نزل ثم بعدها ينظر في واقعه وحياته أينما كان وحيثما حل ليدرك ويقف على المقصد من الآيات البينات، فهو لم يعش مقاصد السورة في زمانها ولكن يحاول أن يقف على تلك المقاصد فيعبر منها إلى واقعه فينفعل لهذا الواقع وينفعل بما تعلم من القرءان الكريم وما وقف عليه من الآيات العظيمة ويبدأ عملية التغيير في الواقع الإنساني، التغيير الإيجابي، المسئولية، مباشرة المهام التي أوكلت إليه كفرد في المجتمع، في العائلة، في الأسرة ضمن الأطر التي يعيش فيها.

قال الله سبحانه وتعالى في أوائل سورة الأعراف ” كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين” (1) ، ” إتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ” (2).  في واقع الأمر إن هذه الآية لا ينبغي أن تقرأ من دون الآية الثانية، قال في الآية الأولى ” فلا يكن في صدرك حرج منه ” ، والحرج في أصل الكلمة اللغوي المكان الضيق المتشابك الذي لا يستطيع السالك أن يجد فيه طريقا، شجر متشابك لا يستطيع الإنسان أن ينفذ منه، وهي كلمة تستعمل في الحسيات وهذا المعنى انتقل إلى المعنويات.  صحيح أن كثير من المفسرين قالوا أن الحرج يأتي بمعاني منها الضيق و الشك، ولكن الواضح من سياق الآية في كتاب  الله عز و جل ومقارنة هذه الآية بآيات أخر وردت فيها كلمة الحرج وهي خمسة عشرة موضعا، هذه المواضع التي جاءت في ذات السياق عن الضيق ” وضائق به صدرك” (3) تعطينا فكرة أن هذه الآية العظيمة نزلت عليه صلى الله عليه وسلم في مكة وهي تسلية لقلبه الشريف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولتبين كذلك للمؤمنين بهذا القراءن أن قضية الاتباع وتنزيل القرءان في واقع الحياة، في واقع الفرد في

واقع المجتمع عملية لها كما يقال ثمرات، لها نتائج تهيئ القلوب وتهيئ العقول والأفكار لما يمكن أن يأتي به هذا التطبيق لهذا القرءان العظيم  من نتائج أو ردود فعل البشر من حولك والتي قد تدخلك في نوع من الضيق، الشك، أو المشقة.  هذا الكتاب العظيم تتلقاه الأنفس البشرية باخلافات كثيرة وكبيرة، فهو على عالي قدره وعظمته وعلى عظيم قدر نفعه للبشرية قد لا يعبه به بعض البشر، قد لا يلتفتوا إليه، بل ويجادلوا فيه !! بل وقد يرفضوه جملة وتفصيلا كما فعل غالب أهل مكة.  ولا ننسى أن السورة مكية نزلت عليه صلى الله عليه وسلم وهو يعايش ويعاني أجواء الرفض من قبل قومه لهذا القرءان العظيم.  شيئ طبيعي أن يكون هنالك ضيق وحرج من ردود أفعال قومه صلى الله عليه وسلم، يكفيه أنه كان يعاين ذلك الواقع الأليم القاسي وهو كان يفعل كذلك صلى الله عليه وسلم قبل نزول القرءان إلى الحد الذي كان يفزع فيه إلى غار حراء ليخرج بنفسه من تلك البيئة الموبوئة بأمراض الجاهلية الإجتماعية والأخلاقية والنفسية والإعتقادية والفكرية، إنه شيئ طبيعي فإذا كان قبل نزول القرءان عليه يشعر بهذا الضيق نتيجة ما يراه في واقعه ألا يشعر بعد ذلك بالضيق وهو يرى أن القرءان الحق قد نزل على قلبه ولكن القوم لا يسمعون ويجادلون ويصدون عنه صدودا؟  ولذا كان قول الحق سبحانه وتعالى ومنذ بداية نزول سورة الأعراف للنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة أن قضية الضيق أو الشعور بالضيق لا ينبغي أن تكون حاجزا لك عن المهمة الأساسية التي من أجلها أنت على هذه الأرض :  لتنذر به وذكرى للمؤمنين.  يتضايق الإنسان، بلى، طبيعي لأنه بشر ولديه مشاعر، أحاسيس، تأتي عليه لحظات يشعر فيها بالضيق، ولكن هذا الضيق لا ينبغي أن يمنعه من إيصال رسالته، لتنذر به وذكرى للمؤمنين.  ومن الآية الثانية نعرف جليا أن هذا المنهج أنزل للإتباع، ونحن نقور مرارا وتكرارا حتى التدبر في كتاب الله عز و جل، ربي عز و جل أنزله لنتدبر فيه، هي مرحلة تليها مرحلة التطبيق والاتباع ، اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، الأمر.  إذن المطلوب مني وقد عينني الله عز وجل أن أكون خليفة في الأرض ، أن أسير رفق المنهج، أن أتبع المنهج الذي هو القرءان العظيم، ثم قال ” من ربكم ” ، هذا المنهج في الأساس لم يجيئ من عند النبي صلوات ربي وسلامه عليه ، النبي مبلغ عن ربه، رسول إلى البشر، ” بلغ ما أنزل إليك ” من من ؟ من ربك.  فالإنزال لهذا المنهج العظيم من الله سبحانه وتعالى، الذي خلق، الذي قدر فهدى، الذي أعطى، الذي أنزل، الذي صنع، الذي عين، وهنا تأتي الإجابة على عشرات الأسئلة في ذهن الإنسان وهو يسير في حياته.

وتدبروا معي في التناسب الواضح والذي دائما ما يكون في كل سور القرءان العظيم بين أوائل الآيات وأواخرها. في هذه السورة الكريمة كانت البداية أن لا يكون عليك أيها الرسول ومن بعده أمته حرج عليكم فيما أنزل إليكم من ربكم لأن ما أنزل هو إنذار وذكرى، وفي أواخر السورة قال ” وإذا قريء القرءان فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ” (1) ،  ” واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو الأصال ولا تكن من الغافلين ” (2) ” إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون” (3) .  ولو تدبرنا في هذه الآيات الكريمات لوجدناها هي علاج الضيق والحرج الذي نحتاجه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اليوم!! اليوم كثير من الناس في زماننا الذي نعيشه رغم تطور الإنسان في وسائل التسلية والترفيه، إلا  أن حالة الضيق والحرج، الحرج المعنوي، والتأفف والضجر والسآمة والملل أصبحت حالة أقرب ما تكون أن نقول عليها ظاهرة إنسانية تلازم حتى الصغير، الطفل، الكبير الذي يملك والذي لا يملك، الذي لديه فعلا ما يشتكي منه والذي ليس لديه، على الأقل ظاهرا ضجر وحرج.  وأواخر السورة الكريمة تعطيني العلاج لهذا الحرج، ما هو هذا العلاج؟  القرءان .  تدبروا، انظروا في التناسب في أولها ، قال ” فلا يكن في صدرك حرج منه ” ، إن القرءان حين يطبق وتتبعه في حياتك أنت في واقع الأمر تعالج عشرات بل كل حالات الضيق الذي يمكن أن تعترض طريقك كإنسان.  الحرج مع القرءان غير موجود. إن الحرج حالة إنسانية شعورية تطرأ على الإنسان ولكنها ليست بملازمة له.  وماذا أفعل حين يأتيني هذا الحرج أو الضيق، أفزع إلى القرءان ” وإذا قريء القرءان فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ” ، وسنأتي على التفرقة بين الاستماع والانصات.  إن العلاج للحرج هو الانصات للقرءان الكريم ، واذكر ربك، الذكر الكثير، الذكر المتواصل، أن تذكره في الرخاء والشدة، في السراء والضراء، في الصحة والمرض، في الليل والنهار، في القيام والقعود، حتى تصبح عادة وسجية لقلبك ولسانك وسائر جوارحك.  الذكر لا يكون فقط باللسان، ليس تمتمة  باللسان وهز رأس، هذا جزء يسير، ولكن الذكر المطلوب تحدثنا عنه سورة الأعراف وهو ذلك الذكر الذي تتحرك به المشاعر والجوارح فتصبح خاضعة للمنهج وللقرءان وسائر تعاليمه وأوامره، ذلك الخضوع والذكر الذي يحرك في الإنسان الجوارح حتى تسجد خضوعا وخشوعا، فهم لا يستكبرون عن عبادته وله يسجدون.  ذكر وانصات يحرك الإنسان معنويا حتى يتحرك جسده مستجيبا لأمر الله عز  و جل، والسجود هو موضع الخضوع لله والخشوع له سبحانه وتعالى.  وتدبروا  في ذلك التناسب العجيب، الذكر الذي يفترض فيه أن يبني في الإنسان خشوع وخضوع حتى تسجد وتخر تلك الجبهة على الأرض ذلا وعبودية لله ، ولكن القرءان لا يريد فقط جباها تخر على الأرض، يريد قلوبا وعقولا تفكر وتبني، تعمل وتعمر ولكنها ساجدة لله سبحانه وتعالى في محراب الكون إعمارا وإصلاحا وعطاءا، هذه سورة الأعراف في التناسب بين أولها وآخرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *