تدبر سورة الأعراف: الحلقة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم

تدبر سورة الأعراف الكريمة الحلقة الثالثة

قد وقفنا في الحلقة السابقة عند بدايات سورة الأعراف وبينا أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين قد خاطبه القرءان في أول آية من السورة بعد الأحرف المقطعة فقال سبحانه وتعالى ” كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ” (1).  إن مهمة النبي عليه الصلاة والسلام تجاه هذه الرسالة وهذا القرءان الكريم هي : البلاغ والإنذار بكلام الله عز و جل والتذكرة للمؤمنين وقد فعل عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام، لقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في سبيل الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين.  ثم جاءت الآية التالية مباشرة تخاطب المؤمنين، هو بلغ الرسالة، ولكن ما دوركم أنتم يا من آمنتم بهذه الرسالة؟ ما دوركم يا من آمنتم بكتاب الله ؟  فقد قال في آخر الآية ” وذكرى للمؤمنين ” .

“إتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ” (2)، إن المؤمن في هذه الحياة مهمته هي إتباع المنهج الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، إتباع الكتاب الذي أرسل به الرسول، القرءان.  أن تتبعه يعني أن تنزله واقعا معاشا في كل تفاصيل حياتك، تسير على دربه وتعاليمه وشرعه وسنته، وكل ما جاء به.  وكأن هذه السورة العظيمة، وهي من طوال السور، تبين للمؤمنين بهذا القرءان العظيم أنه لا يمكن أن يكون لهذا القرءان دعوة بدون تطبيق، بدون انعكاس لما تقولونه وتؤمنون به وتقرأونه ليل نهار وتتعبدون به، دون أن يكون له شاهد في شئونكم وفي واقعكم وفي حياتكم، وتدبروا في نفس الآية جاء بما يقابلها جاء بما يقابل ذلك الإتباع قال عز وجل ” ولا تتبعوا من دونه أولياء ” .  إتبعوا ولا تتبعوا، أمر ونهي.  إما أن تكون متبعا للمنهج الذي أنزله لك الخالق الذي خلقك، وستأتي الآيات بعد ذلك في الصفحة الأولى من السورة تتحدث عن الخلق، عن النشأة الأولى التي أنشأ الله سبحانه وتعالى منها بني آدم من العدم ، من التراب، من لا شيئ، خلق وصور وأعطى وكلف فكان الأمر منه بالاتباع واضح، فهنا جاء الأمر ” إتبعوا ” ، وفي نفس الآية قال ” ولا تتبعوا من دونه أولياء “.  إن الطريق واضح، إما أن تتبع منهجا واضحا أرسله وأنزله خالقك الذي خلق، وإما أن تتبع تلك السبل والطرق والتي سوف تتفرق بك عن سبيل الله سبحانه وتعالى. كلمة ” أولياء ” لها معاني عديدة، و كلمة الولاية في اللغة وفي كتاب الله عز وجل وردت بعدة معاني ولكن سياق الآية هنا بمعنى أن يتولى شئون حياتك، ” ولا تتبعوا من دونه أولياء”، لا تسلم زمام حياتك وشئونك وأمورك الخاصة والعامة، اقتصاد وتعامل اجتماعي وأسري، لا تسلمها لغير الله أبدا، ولا تتبعوا من دونه أولياء.  وقد يقول قائل  ولمن  يا ترى في تلك البيئة كان المشركين يولون أمورهم ؟  ولكن كما قلنا مسبقا إن من أهم وأعظم قواعد التدبر في كتاب الله عز و جل أن تحاول أن تعايش تلك البيئة التي نزلت فيها الآيات، ثم تعبر من تلك البيئة إلى بيئتك أنت، إلى واقعك المعاش وإلى حياتك إلى ما تواجهه أنت من أمور وشئون.  وكلنا يعلم أن المشركين في ذلك الوقت كانوا يولون شئونهم الخاصة والعامة لأي شيئ ؟ لعقائد مختلفة ولأولياء متعددين، ومنهم كان يوالي عقيدة ومنهج الآباء.  بل اتخذوا الأصنام والأحجار والأوثان أولياء من دون الله يتولون شئونهم ويصرفون حياتهم كيفما شاءوا وستأتي السورة الكريمة على نماذج وانعكاسات لتلك الولاءات من دون الله.   وتبين لي بالتفصيل كيف وماذا يحدث حين يتولى أحد من دون الله تصريف شئون البشر وتصريف شئونهم وحياتهم.  كيف تكون النتيجة ؟  كيف تأتي عشرات الانحرافات والممارسات والسلوكيات المهينة لذات الإنسان والتي لا تليق بإنسانيته، من جراء أي شيء ؟  من جراء أن هذا الإنسان وتلك الأمة وتلك القرية قد اتخذت من دون الله أولياء في حياتهم يتولون شئون حياتهم ومعاشهم.  وتدبروا في الآية التالية مباشرة، وآيات القرءان كلها كل آية تسلمك إلى التي بعدها والترابط بينها واضح وما عليك أن تفعل فعلا أن تقرأ هذا الآيات مرة بعد مرة لتبحث عن أوجه التناسب والتناسق والترابط.  مباشرة بعد هذين الأمر والنهي في آية واحدة ” اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ” جاءت الآية الكريمة ” وكم من قرية أهلكناها فجائها بأسنا بياتا أو هم قائلون ” (3) .

وهذه هي النتيجة المباشرة لعدم اتباع ما جاء من عند الحق سبحانه وتعالى، الهلاك.  والقرءان الكريم يلون في الأساليب التي يبدأ بها الأحداث، وسورة الأعراف مليئة بالأحداث.  وقد قلنا في البداية أن مقصد السورة العام أنها تتحدث عن رحلة الإنسان الخليفة وكل ما يعترض تلك الرحلة من عقبات وتحديات وإشكاليات وصعوبات إلى أن تصل به إلى مرحلة الجزاء الأخروي.  وهنا تتحدث السورة عن عواقب ونتائج على الرغم من أنها لم تبدأ بعد بالتفاصيل.  إن النتيجة التي ستحدث عندما يتبع الإنسان من دون الله أولياء، الهلاك، والآية هنا لا تتحدث عن هلاك أخروي أو جزاء أخروي ، لا ، بل تتحدث عن عقوبة دنيوية.

ولنا أن نتدبر لماذا جاءت الآية ” وكم من قرية ” (1)، وحين يقول القرءان الكريم قرية فهذا يعني مجتمع ، يعني دولة ، يعني أمة أو حتي يمكن أن يعني شعب! ولماذا جاء على سبيل التكثير ” وكم من قرية “؟  إن القراءن حتى عندما يتحدث عن الفرد الإنسان إنما هو يتحدث عنه في سياق مجتمعي، في سياق الأمة أو في سياق الأسرة التي يتعيش فيها، لماذا؟ إن القرءان يؤكد لي عدة حقائق : الحقيقة الأولى أن القرءان في أصله يخالف الفكرة السائدة الطاغية على كثير من المجتمعات المعاصرة ، فكرة الفردية. إن القرءان منذ الأصل ينظر للإنسان على أنه الفرد ضمن مجتمع، أو ضمن الأسرة.  ولذلك نجد أن معظم خطابات القرءان تبدأ بيا أيها الناس ، أو بيا أيها الذين آمنوا، خطابات لجماعات وأمم، وهنا ” وكم من قرية ” ليعطيني هذا البعد، أنك أيها الإنسان الفرد لا تعتقد ولا يمر بمخيلتك ولا لثانية واحدة أنما تقوم به من سلوك صالح أوغير صالح في حياتك لا يؤثر على بقية المجموعة أو الأفراد من حولك ، لا، كل ما تقوم به هو ليس فقط شأن يخصك أنت وحدك، لا، كل ما تقوم به سيصب في نهاية الأمر في ذلك المجتمع العام فعليك أن تتريث وأن تتعقل وأن تدرك أن الخير  الذي تفعله لا يذهب هباءا، كما أن الشر الذي تفعل أو يظهر منك لا يمكن أن يذهب أثره هباءا بدون نتائج، بدون عواقب أبدا.  كل شيء تقوم به له نتائج على المستوى الشخصي أكيد أكثر من المستوى العام وأوضح وأظهر وأبين ولكن هذا لا يعني أنه لا أثر له على المستوى المجتمعي أو الأممي هذا البعد العظيم.  ولذا كانت الآية التي بعدها ” وكم من قرية أهلكناها ” ، أي شيئ، تدبروا في عظمة القرءان وإعجازه ، أعطاني السبب منذ البداية ، قال ” ولا تتبعوا من دونه أولياء ” لأن النتيجة الحتمية الطبيعية حين تتبع الدول والأمم والشعوب أولياء من دون هذا المنهج العظيم منهج الله سبحانه وتعالى فإن النتيجةهي الهلاك.  فجاءها نتيجة لذلك الهلاك والبأس بياتا وهم نائمون أو هم قائلون، في النهار أو في الليل أو في القيلولة أو هم يركضون أو ضحا وهم يلعبون، النتيجة واحدة، هي الهلاك.   تعددت وتنوعت الأساليب هي قدرة الله عز و جل وقوته سبحانه وتعالى القاهر فوق عباده.  وهذه النتيجة الحتمية سيأتي تفصيلها فيما بعد، فإن سورة الأعراف ستتحدثت عن قصص أنبياء مع أقوامهم: ستتحدثت عن موسى عليه السلام وعن داؤود عليه السلام وعن لوط عليه السلام، وكل أمة من تلك الأمم والأقوام لاقت مصيرا يختلف عن مصير الأمة الأخرى، جاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون، العذاب ، فقد تنوعت وتعددت أساليبه وفي نفس الوقت تنوعت الانحرافات ولكنها كلها تدخل تحت مظلة واحدة هي مظلة إتباع من دون الله ، تولى شئون حياتهم أولياء من دون الله عز و جل.  وكما سنرى في التفاصيل أن الأولياء ليسوا فقط آباء أو أصنام، أو حجارة أو ما شابه، فيمكن أن يكون الولي الذي يتولى شئون حياتي هو نفسي، هوى نفسي هو الذي يتحكم بي، ممكن ، وسنأتي على نماذج لأقوام كان الذي يحركهم ويصرفهم هو هوى النفوس لا شيئ آخر.  إن الأولياء يمكن أن يكونوا متعددين، القرءان هنا يعطيني من اللحظة الأولى من الموقف السبب وراء هلاك تلك الأمم المختلفة ، صحيح قدم لي نماذج من قصص الأنبياء كما سنأتي عليها ولكن النماذج تتعدد وستتنوع ولن نقف عند زمن أو عند بيئة لأن القرءان الكريم رسالة عالمية مفارقة لحدود الزمان والمكان والبيئة  فما أهلك به قوم في الزمان الغابر قد يهلك به قوم آخرون في زمان لاحق.

وفي آيات معدودة أوجزت لي سورة الأعراف تلك المواقف في تلك الأمم ” فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ” (2) ، إعتراف ، ظالمين ، بأي شيء ظلم هؤلاء القوم ، ظلموا أنفسهم أولا، كيف يظلم الإنسان نفسه ، نحن إعتدنا حين نتكلم عن الظلم نقول أن فلانا ظلمني، فلان يظلم الآخرين، فلان مظلوم ، ولكن أن يظلم نفسه !  والقرءان الكريم يعطيني

بعدا واضحا هنا في سورة الأعراف منذ البداية يشخص بدقة : ظلموا أنفسهم، لماذا ؟ لأن الإنسان حين ينتكس عن منهج خالقه سبحانه وتعالى ويتخذ من دونه أربابا وأولياء يصرفون له حياته وشئونه هو في واقع الأمر يظلم نفسه ، أكبر ظلم وأكبر مجال يوقعه في الظلم هو على نفسه وليس أي مجال آخر.  والقرءان الكريم في هذه الآية حين يتحدث عن النفس إنما يلقي بظلال المسئولية على الفرد.  أنت تظلم نفسك، ولذلك قال سبحانه وتعالى بلسان حالهم ” قالوا إنا كنا ظالمين ” (1).  ولكن ما هي الفائدة أن يقولوا إنا كنا ظالمين وقت الجزاء، بعد نهاية الإمتحان، بعد إنتهاء الدنيا، ما فائدة هذا !

وتدبروا في الآية التي قال الحق سبحانه وتعالى فيها ” والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ” (2) ، فقد أنتقل مباشرة من البأس الذي وقع على تلك الأمم في الحياة الدنيا إلى الآخرة بإيجاز كعادة القرءان وعظمته في تنوع الأساليب ليعطي المخاطب بهذا القرءان وفي هذه السورة القدرة ليتنبه لما سيأتي بعد ذلك من آيات.  وحين قال سبحانه ” ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ” (3) ، جاء بحالة الظلم في موضعين الأول ” إنا كنا ظالمين ” والثاني ” بما كانوا بآياتنا يظلمون ” ، وهنا خسروا أنفسهم ، وتدبر في الآية ، خسروا أنفسهم ، نحن نعرف أن الإنسان يخسر ماله، يخسر تجارة ، قد يخسر بيتا ولدا أو صديقا ، ولكن أن يخسر نفسه ! كيف يخسر نفسه ؟!

إن أعظم خسارة في الكون خسارة الإنسان لنفسه ، وحددت الآية الكريمة قال الحق سبحانه وتعالى ” خسروا أنفسهم ” ، كيف؟ ” بما كانوا بآياتنا يظلمون “.  والآيات التي كان يظلم بها هؤلاء لم تكن مجرد آيات كتاب قد أنزل عليهم ولكن هي آيات الله الكونية المبثوثة في واقعهم.  إن آيات الله عز و جل لا تنحصرفقط في آيات أنزلت في كتب ،  في الكتب السماوية فقط ، ولكن آيات الله سبحانه وتعالى متعددة : في النفس ، آيات في الكون، في الواقع ، آيات في الأمم السابقة والمجتمعات المختلفة.  هنالك نماذج كثيرة من الآيات منها كيفية هلاك بعض الأمم  والمجتمعات ونزول العقاب عليهم هذه أيضا آيات لله سبحانه في خلقه.  ولكن السؤال كيف يظلم  الناس بهذه الآيات ؟  يظلمون بها حين يمرون عليها مرور الإنسان الذي لا يفقه شيء ولا يعتبر، تمر الأحداث أمام عينيه دون أن يتوقف، دون أن يسأل نفسه سؤالا مشروعا تماما : لماذا حدث ما حدث ؟ و كيف حدث ؟ وكيف يمكن أن أتجنب ما حدث  ؟  إن الأحداث والوقائع والمصائب والكوارث التي تحدث في الأمم والمجتمعات لا تحدث خبطا عشواءا، ليس هنالك خبط عشواء في حياتنا أبدا، كل شيئ يسير وفق أمر الله عز و جل، وفق سننه في كونه ، وفق قانونه في خلقه.  إذن هنالك خلل أدى إلى هذا الذي حدث ، وحين لا يكتشف الإنسان موضع الخلل يكون كما قالت الآية الكريمة ” كانوا بآياتنا يظلمون ” .  إذن من بداية السورة وإلى الآية التاسعة تحدثني السورة عن العاقبة ، عن النتيجة ، وتعطيني موجزا كاملا لكل ما أوردته بالتفصيل سورة الأعراف، ما هو الموجز؟ هو رحلة الإنسان الخليفة والنتائج التي يمكن أن تكون متوقعة من تلك الرحلة إذا لم يتخذ الإنسان ربه وليا ومصرفا لشئونه ولحياته.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *