الحلقة الرابعة من وقفات في تدبر سورة النساء

تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وقفنا في آيات سورة النساء في الحلقة السابقة التي تكلمت عن طهارة النفوس من أمراضها، من التعالي والتباهي والتفاخر على الآخرين والبخل والشح والرياء، تلك الأمراض والعقد النفسية التي تنعكس سلبًا على علاقاتنا الأسرية وعلاقاتنا الاجتماعية فتأتي عليها من جذورها فتحطّمها. وإذا بكتاب الله عز وجلّ في سورة النساء يقدّم العلاج الأنجع والأمثل، علاج عن طريق الإحسان وبناء فضيلة الإحسان، الإحسان مع الكل، الإحسان في كل سياقاته الأسرية والاجتماعية، الإحسان الذي لا يمكن أن يبنى في قلب الإنسان ونفسه إلا إذا استعشر عظمة الجزاء الأخروي المترتب عليه ولذلك ربي سبحانه وتعالى جاء بتلك الآية فقال (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٤٠﴾) فإذا نسي الناس وظلموا وإن نسي الناس إحسانك فإن الرب جلّ وعلا كل شيء عنده بمقدار، كل شيء عنده مكتوب في كتاب يجازي بالإحسان إحسانًا ويجازي بالحسنات من المزيد والتفضّل والكرم ما لا يسعه تصور الإنسان!. عندها فقط إذا استحضر المؤمن هذه المنزلة تحرر من قضية الخضوع لأهواء الناس وما يفعلون في تقديم علاقاتهم الأسرية أو الاجتماعية فأصبح بالفعل لا يطلب الجزاء من أحد إلا من الذي خلق الواحد الأحد الذي فعل يتوجه إليه بالخضوع لمنهجه وأوامره وتشريعاته.

ثم إن الله سبحانه وتعالى بعد ذلك جاء بالموضع العظيم للشهادة شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وشهادة الأنبياء على أممهم بأنهم قد أدّوا الرسالة، رسالة التوحيد رسالة الإحسان، رسالة القيم والعدالة. واللافت للنظر في خضم الحديث عن هذا من العلاقات الأسرية إلى العلاقات الاجتماعية إلى أمراض النفس وتطهيرها والتخليص من أدناسها إذا بالحديث يأتي عن الصلاة، والصلاة في سورة النساء ذُكرت أكثر من مرة وفي أكثر من موضع، صلاة في السفر والإقامة، صلاة في الخوف وفي الأمن، صلاة في الحرب وفي السلم، كل هذا الوقوف الطويل في آيات سورة النساء عند الصلاة يدل على قيمة هذه العبادة العظيمة، أهمية هذه العبادة العظيمة في إرساء قيمة العدل والحرية والأمانة والمساواة وتجديد العهد الذي هو التوحيد بين العبد وربه واللافت للنظر والذي يتضح فيه التناسب بين آيات الكتاب العظيم، وقلنا سابقًا أن من أعظم قواعد التدبر في هذا الكتاب أن يدرك المؤمن المتدبر أشكال المناسبات بين الآيات.

الآية التي تتحدث هنا عن الصلاة يقول الله عز وجلّ فيها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) وكانت الخمر في ذلك الوقت الذي نزلت فيه الآية لم تُحرّم بعد والناس كانوا قد اعتداوا على الخمر، ألفوها، أصبحت الخمر جزءًأ لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية والأُسرية والمجتمعية بشكل عام في ذلك العصر ولذلك القرآن عالجها بحكمة وتدرج لكن الذي يلفت النظر فعلًا أن الحديث عن أشكال الطهارة قبل الوقوف أمام الله سبحانه وتعالى في الصلاة واضح في هذه الآيات حدثتنا أولًا عن تطهير النفس من التباهي والعالي والتفاخر على الآخرين والبخل والشح والرياء وطلب السمعة والجري وراءها من خلال الناس وتلك أمراض تدنّس القلب تطمس التوحيد في قلب الإنسان المؤمن تحول بينه وبين النظر إلى القيمة العظيمة الموجودة ي التوحيد، قيمة التسليم لله سبحانه وتعالى  قيمة الخضوع لأهواء البشر وطلب الجزاء منهم إلى طلب الجزاء من الله سبحانه وتعالى الذي لا يضيّع مثقال ذرة. ثم انتقلت بعد ذلك إلى طهارة العقل فجاء النهي عن الخمر فقال (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) الخمر تدنس العقل، العقل الذي هو محط التكليف، محط تشريف الإنسان، الإنسان ربي سبحانه وتعالى شرّفه وكرّمه بالعقل فكان على هذا الإنسان العاقل الذي خوطب بالتكليف وبهذا القرآن بناء على أنه إنسان عاقل مدرك مسيطر على القوى الإدراكية التي أعطاها الله سبحانه وتعالى له كان لا بد أن يتخلى عن الخمر، فالخمر تخامر العقل وتغيبه، تطمس معالم التعقل والتفكر فيه، فالله سبحانه انتقل من طهارة النفوس من تلك الأمراض إلى طهارة العقل من الخمر ثم إلى طهارة الجسد أو البدن عن طريق الصلاة والتيمم والطهارة والوضوء. هذا التدرج من طهارة النفس والقلب من الشرك ومن الأمراض التي تحول بين القلب وبين الوصول إلى رضا الله سبحانه وتعالى وطهارة العقل من الخمر وكل ما يمكن أن يُسكره ويصرفه عن التعقل في معاني الصلاة  ولقاء الله سبحانه وتعالى من خلالها. ثم بعد ذلك الحديث عن طهارة البدن. قيمة الصلاة، الصلاة من أعظم العبادات التي ينبغي للمؤمن أن يتحرى فيها تلك الأشكال من الطهارات ولذلك كان الحرص على طهارة البدن واستشعار أن الإنسان حين يستعد من خلال الوضوء للقاء الله سبحانه وتعالى في الصلاة عليه أن يستحضر ويستذكر أنه لا بد له أن يطهر القلب والعقل من الخواطر والشوائب وسوء الظن بالآخرين ويُقدم ويُقبل على الله سبحانه وتعالى بقلب نقيّ وجسد وبدن نظيف طاهر يليق بذلك اللقاء الذي ينبغي أن يكون من خلال الصلاة، لقاء العبد بربه، ذاك اللقاء الذي يجدد فيه القدرة على الاستمرار في الحياة، القدرة على العطاء، القدرة على البذل والإحسان وبناء تلك الفضيلة التي جاءت سورة النساء لتبنيها في النفس وفي المجتمع. لا يمكن لعلاقات زوجية أو أُسرية أو اجتماعية أو العلاقات الاقتصادية والسياسية التي ستحدثني عنها سورة النساء لا يمكن أبدًا أن تستقر من دون وجود فضيلة الإحسان، وفضيلة الإحسان لا تُبنى إلا على نفوس طاهرة وعقول نظيفة واعية مدركة لعظمة الأمانة التي حمّلت إياها من قبل الله سبحانه وتعالى. وختمت الآية بقول الله عز وجلّ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) مساحة العفو والمغفرة لأننا ونحن نحاول ونبذل كل ما نستطيع لأجل أن نطهر نفوسنا وعقولنا وأبداننا بالشكل اللائق بالله سبحانه وتعالى. ونحن في كل هذه الرحلة إنما هي محاولات جهود بشرية لا يمكن في كثير من الأحيان إلا أن يعلو فيها جوانب الخطأ والنسيان والتقصير والزلل فكان الحديث عن العفو والمغفرة مناسب تمامًا لتلك المعاني العظيمة.

ولأن الآيات ستنتقل بعد مواضع بسيطة إلى الحديث عن الأمانات، الأمانات بكل أشكالها ومن أعظمها بناء قيم العدالة والحرية والحقوق والمساواة في الأسرة وفي المجتمع  قدمت الآيات سلسلة من المواضع تتحدث عن نموذج لناس عاشوا وكان لهم منهج كتاب كانت تنزل عليهم الآيات وأُرسل إليهم الرسل بالمنهج ولكن الموقف الذي كانوا يقفونه إزاء ذلك المنهج كان موقف السمع والعصيان والخروج على ذلك المنهج الرباني الإلهي فأراد الله سبحانه وتعالى أن يقدم في الآيات من الآية 44 إلى الآية 57 أكثر من عشر آيات تحدثنا عن أهل الكتاب، لماذا الحديث عن أهل الكتاب؟ أهل الكتاب في سورة النساء نموذج لقوم لم يحسنوا التعامل مع كتابهم المنزّل. فسياق الآيات مناسب تمامًا لتنبيه لأمة القرآن أن يا أمة القرآن إن لم تحسني التعامل مع هذا المنهج القرآني، مع منهج الكتاب، مع القرآن الذي نزل وتقومي بتطبيق ذلك المنهج سلوكًا وعملًا وأخلاقًا وتعاملًا في مجالات الحياة المختلفة فانتظري الجزاء، والجزاء ليس فقط جزاء أخرويًا ولكن هو جزاء دنيوي وقفت موقف المخالف لذلك المنهج، تدبروا هذه الآيات (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ﴿٤٤﴾) ثم بعد ذلك (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) والآية بطبيعة الحال وهي تكلمنا هنا عن أهل الكتاب وعن بني إسرائيل اليهود لا تخرج أبدًا عن سياق العدل في الحديث عن الآخرين وهو أدب قرآني بامتياز واضح قال الله سبحانه وتعالى (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) ليس كل الذين هادوا واليهود يحرفون الكلم عن مواضعه (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) وربما خصّت كثير من الايات سواء آيات سورة النساء وسور أخرى فئة العلماء أحبار اليهود هؤلاء العلماء الذين حُمّلوا أمانة نقل العلم وتأديته لأمتهم وأهلهم ومجتمعهم لكنهم كانوا في ذات الوقت كانوا يتميزون بمنهج التحريف، التحريف الذي ذكرته الآيات هنا تحريف الكلم عن مواضعه، تحريف بالكلمات. ولذلك هناك آيات أخرى في سورة البقرة وغيرها من سور القرآن حدثتنا عن أشكال وأصناف من تحريف أهل الكتاب (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴿٧٩﴾ البقرة) شكل من أشكال التحريف. ولماذا الحديث عن التحريف في المنهج والله سبحانه وتعالى سيعطيني بعد قليل آيات ستحدثني عن الأمانة؟! تنبيه لنا جميعًا، نحن حُمّلنا أمانة أمانة هذا الكتاب العظيم علينا أن نحسن أداء تلك الأمانة بدون تحريف ولكن التحريف ربي سبحانه وتعالى تكفل بأن يحفظ هذا القرآن من أيّ تحريف فهو الذي نزّل الذكر وهو الذي تكفّل بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴿٩﴾ الحجر). إذن فلماذا ربي سبحانه وتعالى يؤكد هذه المعاني ويحذّر من الوقوع فيما وقع فيه علماء بني إسرائيل؟! التحريف ليس شكلًا واحدًا، صحيح التحريف الذي وقع هنا والذي جاء سياق الحديث عنه كان تحريف كلمات، تحريف الكلم عن مواضعه كان كتمانًا للحق وخاصة بما يتعلق بمواضع نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ربي يحذرنا من شكل آخر من أشكال التحريف، شكل أن تأتي أفعالي وسلوكي وأخلاقياتي وتعاملاتي اليومية مناقضة لما في كتاب الله عز وجلّ، هذا تحريف! بمعنى آخر: أن يقول لي المنهج شيء ولكني أفعل شيئًا آخر ولذلك ربي سبحانه وتعالى عاتب عباده المؤمنين فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٢﴾ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٣﴾ الصفّ) من أعظم قواعد التدبر أن نتعلم كيف نربط بين الآيات ولو كانت في مواضع مختلفة في كتاب الله، فكتاب الله عز وجلّ يفسر فيه الآية بآية أخرى في موضع آخر وعلى المتدبر أن يدرك تلك المعاني العظيمة ولذلك حذرنا من هذا المسلك في التعامل مع المنهج، مع الكتاب فقال عن أهل الكتاب (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ) المناسبة واضحة، سياق تحذير ولذلك ربي عز وجلّ في خواتيم سورة البقرة قال عن المؤمنين (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴿٢٨٥﴾). إذن هناك أشكال للتعامل مع المنهج، هناك شكل كالشكل الذي وقع هنا في بني إسرائيل (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) وهذه هي العاقب والنتيجة جاءت في الآيات، وهناك شكل آخر ينبغي أن نقوم به وهو الذي ينبغي أن تقوم به أمة القرآن (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ولكن والذي سنأتي عليه بعد قليل في آيات في موضعها في سورة النساء السمع والطاعة ليس عملية ادّعاء، السمع والطاعة ليست كلمات تقال باللسان، السمع والطاعة اتباع وسير على المنهج الذي جاء به هذا الكتاب العظيم وطبقه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في حياته وتعاملاته وسلوكياته المختلفة. وبالتالي سيأتي عدد كبير من الآيات في سورة النساء كلها تتحدث عن أهمية طاعة الله وطاعة رسول صلى الله عليه وسلم، المنهج، السمع والطاعة ليست مجرد كلمات، السمع والطاعة تطبيق في واقع الحياة ولذلك حذار حذار أن نقول بألسنتنا سمعنا وأطعنا وتصبح الكلمات والآيات حُجّة علينا ونأتي إلى واقعنا وتعاملاتنا في محيط الأسرة والعمل والحياة اليومية والاجتماعية وحتى في علاقاتنا مع الأمم الأخرى وإذا بمنهج التعامل الذي نقوم به ليس فيه أي شكل من أشكال الطاعة لما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى وإلا فالعاقبة أوضحتها هذه الآيات العظيمة (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) عاقبة واضحة!.

وتدبروا في الآية التي تليها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴿٤٧﴾) ولنا أن نقف طويلًا عند هذه الآية. الآية تقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) والسؤال: وهل هذا الكتاب جاء ليخاطب الله سبحانه وتعالى به الذين أوتوا الكتاب؟! وتدبر في أول آية في سورة النساء (يا أيها الناس) هذه الخطابات والنداءات في كتاب الله تدل على أي شيء سوى عالمية هذا القرآن العظيم؟ عالمية رسالته وقيمه، عالمية تعاليمه ومبادئه وتشريعاته وتوجيهاته. وبالتالي ربي بعد قليل في الآيات التي تليها بعد عدد من الآيات سيأتي الحديث عن الأمانات (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) نحن حُمِّلنا أمانة أن نحمل رسالة القرآن إلى أمم العالم بأسرها ولكن الحمل ليس بالضرورة فقط أن يكون من خلال الكلمات أو من خلال تبليغ الرسالة فقط شفهيًا، الحمل الحقيقي لرسالة القرآن وقيمه أن تصبح واقعًا في مجتمعاتنا وأُسرنا أن نقدّم أنموذجًا لأمم العالم وشعوب العالم، أنموذجًا للعدالة أنموذجًا فعليًا وتطبيقًا عمليًا لواقع هذا القرآن وتعاليمه في حياتنا حتى لا يُفتن الناس، حتى لا ينظر الناس إلى مضمون الكتاب فيرون شيئا وينظرون إلى واقعنا فيرون أشياء أخرى لا تمت إلى ذلك المنهج بصلة فتحدث فتنة كهذه التي تحدث اليوم. اليوم العالم بأسره – وسنأتي عليها في سياقاتها – ينظر إلى القرآن فيرى شيئا ويسمع شيئا وينظر إلى واقعنا في داخل أُسرنا ومجتمعاتنا ومؤسساتنا فيرى شيئا يصل إلى حد التناقض في بعض الأحيان فيحدث الفتنة هذه الفتنة هي فتنة الصد عن منهج الله سبحانه وتعالى فتنة أشبه ما تكون بالتحريف ولكنه شكل جديد من أشكال التحريف الذي وقع فيه من قبل بنو إسرائيل، تحريف بمعنى أيّ شيء؟ تحريف ليس بالكلمات فالقرآن مصان ومحفوظ من قبل الله سبحانه وتعالى تكفّل بحفظه، بحفظ حروفه وكلماته لكن التحريف جاء من قبل من يناقض في سلوكياته وأعماله منهج القرآن، القرآن يقول اعدلوا وهو يظلم القرآن يقول أدوا الأمانة وهو يخون الأمانة هذه الازدواجية والتناقض في حياة بعض منا شكل من أشكال التحريف، تحريف المنهج الرباني الذي نزل على هذه الأمة لتحمل به الرسالة إلى أمم العالم. ولذلك جاء الحديث عن الشهادة (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴿٤١﴾) النبي صلى الله عليه وسلم شهيدًا على أنه قد أدّى الرسالة ووفى بالأمانة وبلّغ الرسالة ونصح الأمة وسنُسأل وسيشهد علينا إن كنا قد قمنا بأداء تلك الأمانة أم لا.

ثم تنتقل بعد ذلك الآيات العظيمة تعلمنا وترينا أشكالا وصورا من العقوبات التي دمغ الله سبحانه وتعالى بها بني إسرائيل نتيجة لتحريفهم لكتابهم، نتيجة لعدم قيامهم بأمانة حمل المنهج منهج التوراة في سلوكياتهم وحياتهم، وتدبروا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴿٤٩﴾ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ﴿٥٠﴾ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ﴿٥١﴾) صور لمخالفات حقيقية، ممارسات عملية في الواقع كان يراها المسلمون لأنهم كانوا كما نعلم يعيشون مع اليهود في المدينة فكانوا يرون ويشهدون ذلك التناقض في حياة بني إسرائيل، التناقض الذي ما أمر الله سبحانه وتعالى به أن يكون فكان افتراء على الله لذلك قال (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) مناقضة (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) يفتري الإنسان على الله الكذب حين يأمره الرب الذي يعبده ويوحده بشيء ولكن تأتي أفعاله وسلوكياته مناقضة لذلك الأمر مناقضة للمنهج الرباني الذي ربي سبحانه وتعالى أنزله لعباده هدى ورحمة. ولذلك قال ربي (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) السياق سياق تحذير من السير على ذات المنهج والوقوع نفس المزالق والإشكاليات الخطيرة التي وقع فيها بنو إسرائيل (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الحديث عن ممارسات عن سلوكيات وقع بها بنو إسرائيل. ثم ختمت الآية فقالت (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿٥٦﴾) والكفر بالآيات ليس شكلًا واحدًا، الكفر بالآيات كما ذكرنا في التحريف ليس على شكل واحد، الإيمان الحقيقي بالآيات أن تصبح آيات الكتاب واقعًا وتطبيقا في الحياة بكل مجالات الحياة المختلفة. ولذلك تدبروا في الآيات التي تليها كيف جاءت تحكي عن الإيمان (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ﴿٥٧﴾) آمنوا وعملوا الصالحات، آمنوا بالمنهج فكان العمل الصالح إيمانًا بذلك المنهج، العمل الصالح جزء لا يتجزأ من الإيمان ولا تكاد تذكر في كتاب الله في آياته كلمات عن الإيمان إلا ويذكر معها العمل الصالح، التطبيق، الفسير الحقيقي لمعنى الإيمان،  الرصيد الحقيقي للمؤمن، أن يجعل من ذلك الإيمان المستقر في سويداء قلبه واقعًا أخلاقًا تعاملًا سلوكيات، فجاءت الآية مقابل ذلك المنهج المنحرف الذي كفر بآيات الكتاب، كفر بها في واقعه كفر بها من خلال أخلاقياته السيئة وسلوكياته المنحرفة حسدًا وبخلًا ورياءً وكفرًا وبُعدًا عن منهج الله وتضليلًا وشراء للضلالة على حساب الهدى.، هذا منهج مناقض وتأتي السورة بعد ذلك بالأمر.

وتدبروا اعجاز القرآن وعظمة التناسب بين آياته! مباشرة بعدها (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٥٨﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) تدبر واقرأ الآيات وأنت فعلًا مستحضرًا لكل مبادئها ومعانيها العظيمة، قيمها ومقاصدها (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) إيمانك أمانة. وتدبروا جاء الحديث عن الأمانة بعد الآية التي قالت (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) انظر إلى الربط، إيماني بالله سبحانه وتعالى أمانة عليّ أن أحسن أداءها وجزء من ذلك الأداء أن أعمل بمقتضى الإيمان، آمنت بالله وآمنت برسوله صلى الله عليه وسلم فعليّ بالتطبيق ولذلك جاءت الآية التي تليها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) إيمان دون طاعة أنّى له أن يكون إيمانًا! وتدبروا ذلك التلازم الواضح بين الإيمان والأمانة. الأمانة إيمان وكلما ازداد وترقى الإنسان في إيمانه ازداد أمانة، ازداد حرصًا على أداء الأمانات، وكل ما نقوم به في حياتنا أمانات، الكلمة أمانة، النظرة أمانة، الحواس المختلفة التي وهبنا الله سبحانه وتعالى أمانات كيف أقوم بوظائفها، كيف أوظفها في حياتي أمانة كيف أستعملها أمانة، كيف أحافظ عليها أمانة، العلاقات الزوجية والأسرية الاجتماعية أمانات، علاقات الجيرة والصداقة والزمالة والعمل أمانات، الأعمال أمانات. الأمانة في القرآن ليست أمانة درهم ودينار فحسب، هي جزء يسير شكل واحد من أشكال الأمانة ولكن الأمانة هي تلك الأمانة التي قال الله تعالى عنها في موضع آخر (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴿٧٢﴾ الأحزاب) أمانة، أداء المنهج والقيام بهذا القرآن العظيم في الحياة والتطبيق وحمله إلى أمم الأرض أمانة آن للمسلمين أن يسألوا أنفسهم قبل أن يُسألوا ويقفوا بين يدي خالقهم هل فعلًا أدينا الأمانة؟ هل استطعنا أن نحمل قيم القرآن إلى أمم الأرض؟ قيمة العدالة، هل فعلًا تمكنا من ذلك؟ هل أدينا الأمانة؟ لذلك تدبروا في نهاية آية الأمانات (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٥٨﴾) من الذي يراقب مستوى الأمانة في قلبي وأخلاقي وسلوكي؟ الأمانة الفردية والأمانة الجماعية؟ السميع البصير. الكلمة أمانة بكل أشكالها وصورها سواء ما تحدّث به نفسك أو ما تقوله عن الآخرين، الكلمة أمانة. واعلم أن من يحاسِب على هذه الكلمة هو السميع البصير تدبروا كيف تنضبط قيمة العدالة في المجتمع، العدالة كقيمة يعرفها البشر، الآن على سبيل المثال في مجتمعات الدول المعاصرة تتشدق بالكلام عن العدالة والحرية والمساواة لكن من الذي يجرؤ أن يقول لدولة أو لقوة عظمى هنا أو هناك أنت تطبقين العدالة أم لا تطبيقينها، وكيف تُضبط؟! هذه لا تضبط بمقاييس البشرية، هذه تحتاج إلى رقابة ذاتية والرقابة الذاتية التي تصنعها سورة النساء: إن الله كان عليكم رقيبا، إن الله كان سميعا بصيرا، خبيرا عليما. تدبروا كيف تُبنى الرقابة على الضمير في نفس الإنسان المؤمن.

وتدبروا في نفس الآية (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) قبل أن يقول (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ونحن لا زلنا نتعامل مع القرآن بنفس تلك القرآءة التي أشرنا إليها فيم سبق القرآءة العضين المجتزأة المقتطعة من سياقاتها نقتطع من الآيات! ولذلك في بعض المؤسسات أو بعض المحاكم الآية تقتطع هذا الجزء من الآية فقط (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أين الجزء الأول من الآية؟! لا ينفصل عن أداء الأمانت لهم ثم إن الله سبحانه وتعالى قدّم أداء الأمانة على الحكم بين الناس والقضاء بينهم لماذا؟ ليجعل الفرد الإنسان المسلم رقيبًا على أمانة نفسه وإذا أصبح الإنسان المسلم المؤمن رقيبًا على ذاته في أداء الأمانة ما احتاج إلى القضاء، ولا احتاج إلى التحاكم ولا احتاج إلى أن يرفع مظلمته إلى محكمة هنا أو هناك. لو أقيمت فضيلة أداء الأمانات في بيوتنا وفي أُسرنا وبين الأزواج يا ترى هل كنا سنحتاج إلى الوقوف في تلك الطوابير المضنية ساعات لأجل رفع قضية طلاق أو ضرر أو نفقة أو ما شابه؟! لو أدى الناس الأمانات إلى أهلها فعلًا هل كان سيكون هناك فعلًا حاجة حقيقية لما يحدث في المحاكم الشرعية والمحاكم الأسرية محاكم الأحوال الشخصية وقضاياها التي لا تكاد تنتهي ولو قلبنا في إضبارات وملفات ودفاتر تلك القضايا المختلفة المرفوعة هنا وهناك في مختلف دول العالم ولكن نتكلم عن عالمنا الإسلامي ومجتمعاتنا المسلمة التي أُمرت ووجِّه لها خاصة هذا الخطاب القرآني أن تؤدي الأمانة إلى أهلها لو بحثنا لوجدنا فعلًا أن الكارثة الأصل غياب الأمانة! قضايا النفقة المرفوعة، المطالبات بالنفقة، الرجل يريد مخرج قانوني لأجل أن يتحايل على النصوص الشريعة والقانونية فيتخلص من النفقة على سبيل المثال! هذا جزء من مثال، هذا لو أدرك أداء الأمانة إلى أهلها أكنّا بحاجة إلى ما نحن فيه؟! أداء الأمانة إلى أهلها! لكن القرآن كتاب واقعي يعالج الواقع الإنساني ما كان من الممكن أن يترك الناس دون تحاكم دون وجود من يحكم بينهم بالعدل دون وجود من ترفع إليه المظالم، القضاء، نظام القضاء ولذلك جاءت الآية (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) الحكم بين الناس، قيمة العدل الحقيقية أمانة، القضاء أمانة.

وأنا أريد أن أقف – ونحن في سياق الحديث عن القضايا الأُسرية والمشاكل الزوجية وما شابه – تأخير العدالة ظلم وغبن، تأخير إعطاء الحقوق وردّ الحقوق إلى أصحابها، التأخير فقط في الأجَل، التأجيل  في الزمن في المدة هذا ظلم، وهذا ليس من العدل في شيء. ولنا أن نقف طويلًا عند كل تلك طوابير الانتظار عند المحاكم في المجتمعات المختلفة في مجتمعاتنا المختلفة سنجد عشرات وربما مئات من القضايا أُجّل النظر فيها مرة بعد مرة، لماذا يؤجل؟ تدبروا في كل هذه المعاني (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) فمن العدل وتمام العدل أن يعجل الحاكم في رد الحقوق إلى أصحابها متى ثبت عنده ذلك. هذه العدالة التي تأتي بها آيات القرآن العظيم.

ولذلك جاءت الآية التي تليها بقول الله عز وجلّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) الطاعة والأمر بالطاعة سيأتي كثيرا في سورة النساء وتأملوا في التناسب بين ما قاله بنو إسرائيل (سمعنا وعصينا) وبين الأمر الذي يأتي مرة بعد مرة (أطيعوا)، لماذا؟ لذلك التناسب الذي ذكرناه قبل قليل، أنا لديّ أنموذج لأمة تعاملت مع المنهج بالعصيان قولًا وفعلًا وأخلاقًا وتعاملًا وسلوكًا فكانت العاقبة ما ذكرته الآيات العظيمة ونحن اليوم لدينا منهج، هذا المنهج أحتاج أن أتعامل معه بالسمع والطاعة ليس فقط قولًا ولكن تطبيقًا وتنفيذًا وسلوكًا ولذلك ربي قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) أصحاب المسؤوليات،علماء، حكام، رؤوساء، مسؤولين ولكن سياق الآيات هنا والترتيب الذي جاءت به الآيات أعطتنا ضابطًا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) إذن الدعوة إلى تلك الطاعة الربانية للمنهج هي طاعة عامة شاملة للجميع بما فيهم المسؤول والحاكم والرئيس والقاضي كلٌ في موقعه، هذه طاعة شاملة. ثم إن بعد ذلك هذا المسؤول حين يطلب الطاعة ممن هم تحت مسؤوليته عليه وقبل كل شيء هذه الآيات التي سبقت أداء الأمانة، القيام بالعدل، طاعة الله وطاعة الرسول. ولكننا لأننا أصبحنا نتعامل مع هذا القرآن بانتقائية ننتقي منه ونتخير على الله سبحانه وتعالى نأخذ من القرآن أجزاء ونقتطع أحيانًا كلمات لا لأجل أن نعالج بها واقعنا ولكن لأجل أن نبرر بها واقعًا قد يكون قد وقعت فيه الكثير من الأخطاء والسلبيات، الفارق بينهما شاسع، أن آتي إلى القرآن بقلب واع سليم جاء ليسمع ويطيع وبين أن آتي إلى القرآن لأجد فيه ما يوافق هوى نفسي وآيات سورة النساء ستتحدث عن الهوى في أواخر الآيات لتبين لي أن آفة المجتمعات في اتباع الأهواء بكافة أشكالها، هوى النفس لا صورة واحدة له بل صورة متعددة، أشكال متعددة! وإذا اتّبع الإنسان هواه ضيّع قيمة العدالة، وضيع قيمة السمع والطاعة لذلك المنهج الرباني الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يُطبَّق في الأرض. وذكر ربي في هذه الآية (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) ذكرنا أن سورة النساء من أعظم السور التي تعلم الإنسان والمجتمع والأسرة المسلمة كيفية إدارة النزاعات والصراعات والخلافات الزوجية والشقاق بين الزوجين بكل هذه المفردات التي جاءت بها. فهنا قال (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) الكتاب والسنة وبخاصة ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من السُنة الفعلية وطبقها في حياته سلوكًا وعملًا. النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك تفسيرا مكتوبا إلا بضع آيات ذكر لها معاني ولكن الحياة التي عاشها السنوات التي قضاها سلما وحربا، رجل أمة ورجل أسرة وزوج أب وأخ وجار وقائد في ميدان المعركة وأشكال عشرات الصور مربي معلم بائع مشتري حاكم هذه الصور بأكملها تشكل التفسير العملي لهذا المنهج الرباني القرآني الذي نحتاج إلى أن نرد الخلافات حين تقع فيما بيننا إليه لذلك المنهج نتعلم من حياته وسنّته كيف أدار النزاع لا نذهب بنزاعاتنا إلى الخارج! والآية العظيمة هنا تبين لي مبدأ عظيمًا جدًا: النزاعات والخلافات ينبغي أن تُحلّ في البيت الاجتماعي، بيت المجتمع، الأسرة هي البيت الصغير، والقرآن في الآيات التي سبقت في سورة النساء أكد أهمية أن يقوم الزوجان بحلّ الخلافات فيما بينهما إلا إذا وصلت إلى سقف وإلى حد لا يمكن إلا أن يتدخل فيه حكم من أهله وحكم من أهلها وفي حالة النزاعات في المجتمع في المؤسسات، في المصارف، مؤسسات الدولة، طوائف مختلفة في المجتمع فئات مختلفة في المجتمع، حدث النزاع، النزاع وحدوث النزاع ليس بالشيء المستغرب، هذا واقع إنساني من خلال التعامل والاحتكاك يحدث سوء فهم وسوء الفهم يؤدي إلى نزاع، لا إشكالية في ذلك، الإشكالية في أن لا نحسن التعامل مع نزاعاتنا وأن نذهب بنزاعاتنا إلى طرق من هنا ومن هنا بعيدًا عن الردّ إلى الله وإلى الرسول، هذه هي الإشكالية الخطيرة! لأن ربي عز وجلّ ربطها بعد ذلك فقال (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) لا تذهب به إلى محاكم دولية هنا وهناك. النزاعات التي تحدث في واقعك وفي مجتمعك عليك أن تقوم بحلّها أنت حل داخلي ولكن لأجل أن تقوم بحلها وتحسن إدارة هذه النزاعات ومحاولة استيعابها واحتوائها عليك أن تؤمن بالله واليوم الآخر حتى تحسن الرد لأنك إن لم تؤمن بالله واليوم الآخر كيف ستقوم برد هذه النزاعاتومعالجتها من خلال الرجوع إلى الله والرسول، إلى المنهج إلى القرآن وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة. هذا ما نحتاج إليه ولذلك آيات سورة النساء تعالج قضايا مجتمع، قضايا دول، قضايا أمم ونحن اليوم نتخبط هنا وهناك، لماذا التخبط؟ ذاك الضعف في ذاك الجانب؟! ليس لأننا لا نؤمن ولكن كما ذكرت سورة النساء قبل قليل، الإيمان إحساس وشعور وعمل وقول وتطبيق وتنفيذ وأخلاق وسلوك، كلٌّ متكامل لا يكفي أن تأخذ منه جزءًا وتقول يكفيني هذا الجزء لأعيش حياتي بطريقة صحيحة سليمة، لا يمكن! أنا بحاجة إلى أن آخذ المنهج كاملًا وأجعله منه مرجعًا لي في حياتي في سلوكي وتعاملي مع القريب والبعيد، مع الصديق ومع العدو، في السلم وفي الحرب في الاستقرار وفي الخلاف والنزاع، هذه حقيقة. ولذلك تدبروا في عظمة التناسب الواضح لكل من يتدبر في آيات هذه السورة الكريمة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿٦٠﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴿٦١﴾) صورة واقعية تجيب عن تساؤلاتنا تجيب عن خواطرنا حين نقرأ القرآن ونرى الواقع شيئًا يخالف القرآن! زعم، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) قد يزعم الإنسان أنه آمن بما أنزل الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يزعم ولكن إذا كان هذا وأصبح مجرد زعم فالواقع سينبئك بذلك يتحاكم إلى الطاغوت، إلى مناهج مختلفة، مناهج ما أنزل بها من سلطان، مناقضة لهذا المنهج في الوقت الذي أمر أن يكفر بالمنهج الطاغوتي، هذا هو الضلال الحقيقي. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) تعال لديك منهج (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) وتأملوا لأن الحديث عن النفاق سيأتي كثيرًا في سورة النساء، لماذا؟ عندي نفاق وعندي إيمان، تمام الإيمان أن يطابق قولي عملي ويطابق عملي قولي لا تناقض ولا ازدواجية، والنفاق ازدواجية، ازدواجية في السلوك، ازدواجية في التعامل، أقول آمنت بالكتاب ولكن قلبي مُعرض عن هذا الكتاب، واقعي يُعرض ويصدّ عن ذلك الكتاب، وتعددت الأشكال والصور ولكن المبدأ واحد، البعض يقول كتاب أُنزل قبل مئات السنين أكثر من ألف وأربعمئة سنة! اليوم بعد كل التطور الذي نحن فيه نعود إلى كتاب أنزل قبل مئات السنين؟! لا يصلح هذا الكلام! لا يصلح لو أن الذي أنزله بشر أما وأن الذي أنزله الخبير العليم الخالق البارئ المصور فهو العليم بما كان ويكون وسيكون، بما كان قبل مئات السنين وبما سيكون بعد مئات السنين. القرآن لا يخاطب المتغيرات التي يصنعها البشر في حياتهم والتقنيات والتغيرات الزمنية، القرآن يخاطبنا نحن كبشر والبشر في طبيعتهم وميولهم ونوعية تعاملاتهم وأصولها وعلاقاتهم الإنسانية لا يتغيرون، الطبيعة البشرية واحدة منذ أن خلق الله آدم وأعطاه المنهج (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٣٨﴾ البقرة) في سورة البقرة أعطاه المنهج (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) لم يتركه بدون منهج ومنذ لدن آدم عليه السلام أبو البشر إلى أن تقوم الساعة لن تتغير الطبيعة الإنسانية يتغير ما حول تلك الطبيعة، نعم، بشكل واضح في التقنية في الأدوات في الزمان في كل شيء ولكن ليست الطبيعة البشرية التي يعلوها أو يعتريها التغيير والقرآن يخاطب البشر لا يخاطب الأدوات ولا يخاطب الحجر ولا يخاطب التغيرات يخاطب البشر والبشر كما هم.

ولذلك الآيات التي جاءت بعد ذلك جاءت تبين لي أشكال وصور، صور من المجتمع حين يقع في آفة الازدواجية والتناقض بين المنهج وما يأمر به وبين الواقع الإنساني ولذلك ربي عز وجلّ قال (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) صحيح أوردت كتب التفاسير بعض أسباب النزول ولكن كما ذكرنا نحن في التدبر نقف على سبب النزول ونقرأ فيه ولكن دائمًا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والتناسب بين هذه الآيات، المصائب تحدث نتيجة لذلك التناقض في الواقع، بين ما يأمر به المنهج وبين ما يفعله البشر ولذلك ربي عز وجلّ أعطانا السبب فقال (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) مرض التناقض والازدواجية والنفاق. ولذلك الأحاديث لما أوردت صور وأشكال النفاق وآيات المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان، هذه الأحاديث التي تتكلم عن صور النفاق صور ازدواجية لأن القرآن يأمر بالعدل والصدق وأداء الأمانة فإذا رأيت إنسانًا يخون هذه الأمانات فاعلم أن هناك إشكالية في الإيمان، خلل في التوحيد الحقيقي الناصع النقي الذي تبننه سورة النساء وينبيه القرآن لا تناقض فيه لا شائبة تشوبه، عمل يصدق القول يصدّق الإحساس يصدّق التوجه فيصبح الواقع الإنساني مرآة تعكس معاني الإيمان، معاني التوحيد، انظر إلى الواقع فترى الناس يتعاملون فيما بينهم نزاهة وأمانة وصدقًا، مدينة أقرب ما تكون إلى المدينة الفاضلة ولكن ليس في الخيال بل في الواقع وقد حدث هذا فعلًا. ولكن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يكون كاملًا بمعنى كل شيء يكون فيه تاما لا نقص ولا اعوجاج وإلا لما جعل الله تعالى وأنزل هذه الآيات لتعالج مختلف الحالات ولكن أن يصبح الغالب على المجتمعات المسلمة التناقض، هنا الإشكالية والخطورة! أن تصبح الخيانة هي الدارجة والأمانة هي العملة النادرة حتى يقال في قرية ما أو في بلد ما إنسان أمين، هذه الإشكالية الخطيرة لكن أن توجد حالات ما حالات فردية هذا شيء وارد لأنه واقع إنساني واقع بشري ولكن لا أن يصبح ذلك هو السائد وهذه هي الخطورة في واقعنا المعاصر!

ولذلك ربي سبحانه وتعالى في الآية بعد ذلك قال (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) الرسالات لا لأجل أن تكون فقط رسالة شفوية، القرآن لا لأجل فقط أن يحفظ ككلمات وآيات وسور، صحيح حفظ القرآن أمر عظيم جدًا ولكن الرسل جاءت بتلك الرسالات والمناهج لأجل الطاعة، لأجل أن يُطاعوا في رسالاتهم والنبي صلى الله عليه وسلم جاء ونزل عليه القرآن لأجل أن يطاع والطاعة سلوك وتنفيذ وتطبيق، تأمل (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) والذي يحدث أن يظلم الإنسان نفسه (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) تأملوا باب التوبة، الخطأ وارد، والنسيان وارد وصدور التناقض في حياتنا والإشكاليات المختلفة ووقوع الظلم فيما بيننا أمر وارد قد يحدث ولكن الإشكالية في حياتنا أن يبقى الإنسان مصرّا على خطئه أن يبقى الظلم على ظلمه فلا تبرأ ذمته من ذلك الظلم ولا يفكر في يوم أبدًا أن يعيد الحقوق إلى أصحابها ويرد المظالم إلى أهلها! تلك هي الإشكالية. أن نخطئ فيما بيننا ونقع في الخطأ في علاقتنا الزوجية والأُسرية والاجتماعية وارد ولكن المهم أن تصحح الخطأ المهم أن تستغفر الأبواب مفتوحة (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) تواب لأنه رحيم ومن رحمته بعباده أنه فتح باب التوبة للخاطئين، فتح باب التوبة لأولئك الذين يريدون أن يعودوا إلى المنهج من جديد، الباب مفتوح في أي وقت في أي زمن في أي لحظة ما عليك إلا أن تستدرك ما فات قبل فوات الأوان، هذا هو القرآن. تدبروا كيف يفتح القرآن باب الأمل، التوبة أمل، أمل للعاصين، أمل للمذنبين، أمل للظالمين، أمل للمخطئين، أمل لأولئك الذين لا يزال في قلوبهم شيء من الإيمان شيء من محبة الله عز وجلّ والرغبة في الرجوع إليه. الباب مفتوح، ارجع، استدرك ما فات، صحح، عدِّل أوضاعك، عدّل إيمانك، عدّل صلتك بالله سبحانه وتعالى، استسمح واطلب السماح من الآخرين ممن ظلمت في يوم من الأيام ولو بكلمة في سر أو علانية، صحح علاقاتك، صحح تصرفاتك، أمر مهم.

وتدبروا في الآية (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) تدبروا الإيمان عمل، الإيمان احتكام لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) وليس هذا فقط (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) مراحل الإيمان، مراحل الرجوع إلى الله سبحانه: أولًا توبة واستغفار (فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ) واستشعار أن الله تواب رحيم، التوبة لأجل أن تتم وتكون صادقة لا بد أن تليها خطوة التصحيح، أين التصحيح؟ (يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) على كل المستويات، علاقات زوجية علاقات مالية، مع الأقوياء مع الضعفاء مع يتامى مع أداء الأمانات إلى أهلها، علاقات اجتماعية علاقات أسرية، كل أشكال النزاعات الحكم فيها ليس لأهوائنا، الحكم لا بد أن يكون لله ولرسوله فيما يحدث بيننا من نزاعات. المشكلة في نزاعاتنا اليوم التي لا تحل، كثير من الناس تسمع له فيقول لك: أبدًا، هذه مشكلة عويصة أو مستعصية، صعب، حاولت كل الطرق ولم تحلّ! كل الطرق أحيانًأ هي تلك القائمة على أهواء النفوس. المشكلة في أننا لم نعد نستطع حل نزاعاتنا، أن الذي بات يتحكم فينا وفي نزاعاتنا الهوى وليس ما حكم به الله سبحانه وتعالى ورسوله، إشكالية خطيرة ولذلك قال (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) سواء كان الحق لك أو عليك، إذا أردت أن تقيس مستوى الإيمان في قلبك لا بد أن لا يكون ضيق ولا حرج ولا انزعاج في نفسك إزاء ذلك الحكم الذي حكم الله به ورسوله (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) الإيمان تسليم، انقياد، خضوع لأمر الله عز وجلّ وهذا معنى الإسلام أن تسلم قياد روحك وقلبك وحياتك لخالقك عز وجلّ ليحكم فيها كلها لا أن يحكم في جزء منها ولا يحكم في الآخر فيحدث التناقض والازدواجية والنفاق بكل أشكاله وصوره. (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) إشكالية كثير من الأسر اليوم والأفراد والمجتمعات هذه القضية: عدم التسليم، وإذا سلّمنا في شيء لا نسلم في آخر.

ولذلك بعد هذه الآيات العظيمة والمقارنة كذلك والمقابلة مع اليهود وأهل الكتاب وكيفية التعامل مع المنهج (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴿٦٦﴾) من وسائل الثبات أن يتعظ الإنسان ولأجل أن يتم الاتعاظ عليه أن يفعل ما يوعظ به والقرآن موعظة، التطبيق (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) ليس هذا فقط (وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٦٧﴾ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴿٦٨﴾) نفحات، منح ربانية من الله عز وجلّ فقط حين يحسن الإنسان تطبيق المنهج في واقعه وحياته. وتدبروا كيف يكون الربط (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴿٦٩﴾) الآية العظيمة التي فرح بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّما فرح، صحيح يروى أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحبه حبا شديدا ومن ذا الذي لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كان ملازمًأ له فكان يخشى إذا مات – كما أوردت بعض كتب التفاسير – يخشى إذا مات فالنبي صلى الله عليه وسلم مع النبيين ودرجته درجته وهذا الرجل بسيط من عامة المسلمين فأنّى له أن يرتقي بتكل المنزلة ويلحق به؟! فنزلت هذه الآية تثبيتًا وتطمينًا وفتحًا عظيمًا لباب الرحمة والمغفرة، ما الذي يريده الله سبحانه وتعالى؟ أن يطع الله ورسوله. ولأجل أيّ شيء ربي سبحانه وتعالى يطلب منا طاعته؟ ألأجل أنه سبحانه بحاجة إلى تلك الطاعة حاشاه؟! ربي هو الغني ونحن الفقراء يأمرنا بطاعته لأجل أن تصلح حياتنا وآخرتنا بتلك الطاعة ولا تصلح حياتنا ولا آخرتنا بدون تلك الطاعة. (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴿٦٩﴾ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴿٧٠﴾) تدبروا: عليم بما نفعل، عليم بفضائل الإحسان التي يمكن أن نقوم بها، الإحسان الذي بات في زماننا يسميه البعض تنازلات وتضحيات والقرآن يسميه إحسانًا ولك أن تتخيل الفارق بين الإحسان حتى في الكلمة وبين التضحيات! خسرنا كثيرًا حين فرطنا في مفردات هذا الكتاب العظيم، القرآن يسميها إحسان ونحن نسميها تضحية وتنازل!! ذلك الفضل من الله سبحانه وتعالى على عباده أن أنزل لهم منهجًا تستقيم به حياتهم وأُخراهم. المؤمن الذي يعيش في ظل منهج الله سبحانه وتعالى ويطبّق سيكون مع أولئك الذين طبقوا تلك الرسالة وحملوها حق حملها النبيين والصديقين والشهداء والصالحين صدقت أفعالهم إيمانهم، نحن بحاجة ماسة إلى هذا التصديق العظيم.

وهنا وفي هذا الموضع تنتقل السورة إلى الحديث عن قضية القتال، لماذا؟ هذه القيم العظيمة: قيم الأمانة، قيم أداء الأمانة، قيم العدالة قيم الحرية، قيم المساواة، قيم إدارة النزاعات بين البشر وفق ما أراد الله تحتاج إلى حماية تحتاج إلى ما يمكن أن يكفل لها الحماية والرعاية والاستمرارية، فكان القتال، القتال في الإسلام ليس بالمعنى الذي يخيله البعض أو يصوره البعض على أنه سفك للدماء وأن الإسلام دين دموي، هكذا يطلق البعض من الافتراءات على هذا الدين العظيم! تدبروا هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ﴿٧١﴾ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ﴿٧٢﴾ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿٧٣﴾ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ) إذن أنت لا تقاتل في سبيل أهوائك ولا في سبيل مطامع دنيوية ولا عروض زائلة ولا لأجل نهب ثروات الشعوب ونفطها ومصادرها ومائها وأنهارها وأقواتها، لا تقاتل لأجل كل تلك الترهات الزائفة القائمة على هوى النفس وعبادة الذات بل تقاتل لأجل من؟ وفي سبيل من؟ سبيل الرب الذي وضع المنهج فحتى حين تقوم ويؤذن لك بهذه القضية عليك أن تقاتل وفق منهج الله لا وفق أهواء النفوس، لا تحرك الجيوش الأهواء، في الإسلام في ذلك النهج والتطبيق الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم، جنود النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تحرّكهم الأهواء، حركتهم آيات الكتاب والمنهج الذي جاء في كتاب الله عز وجلّ، هذا الذي حرّكهم (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ) باعوا الدنيا بكل عروضها بكل أموالها ومكاسبها وأطماعها وأهوائها وشهواتها ليشتري الآخرة، والسؤال: الإنسان الذي يبيع الدنيا بكل ما فيها أهو إنسان يقاتل لإرضاء لنزوة أو شهوة أو تحصيل مطمع أو غاية دنيوية؟! لا يمكن، وهل يمكن أن يكون ذلك العمل الذي يقاتل لأجله سفكًا للدماء؟! لا، لأننا ستأتي علينا بعد قليل الآيات وهي تبين لنا تقديس الحياة الإنسانية ووضع تلك الحياة التي وهب الله سبحانه وتعالى للبشر في أعلى منزلة بعد الدين. وتدبروا الآية (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴿٧٥﴾) إذن هو قتال لأجل حماية حقوق المستضعفين، قيم، حماية العدالة، حماية الضعيف، نصرة للضعيف وتدبروا في واقع المجتمعات المعاصرة اليوم، اليوم الجيوش تخرج لكن السؤال ألنصرة الضعفاء أم الأقوياء؟ ألنصرة الضعفاء الذين ظُلموا أم لنصرة الأقوياء الذين ظَلموا؟ فارق عظيم بين مقصد ومغزى القتال في سبيل الله في الإسلام وبين القتال في سبيل الطاغوت ولذلك جاءت الآية (الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) طاغوت والظلم والعدوان والافتراء والكذب وسفك دماء ونهب أموال الشعوب وتخريب الأرض التي أمر الله أن تعمّر. الفارق شاسع والتناسب واضح ولذلك قال الله عز وجلّ (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) لماذا يا رب؟ لأن المعركة واضحة، لأن معركة الواقع الإنساني واضحة في الصراع بين الحق والباطل، هنا حق وهناك باطل، هناك قيم أمر الله بأن تطبق، حقوق حرية عدالة مواساة أمانة تؤدّى، وهناك قيم كانت موجودة في المجتمع الجاهلي والآن بدأت تعود للمجتمعات المعاصرة، الظلم، الاستعباد والاستبداد، التفرقة العنصرية لا المساواة، قيم تناقض القرآن فما هو الحل؟! من الذي ستكون له الكلمة فيالنهاية؟ ولذلك شرع هنا القتال لحماية القيم القرنية العظيمة المطلوب أن تطبق في الواقع ولكن إذا احتدم الصراع بينها وبين قوى الباطل وقيم الباطل فكيف يكون الحل؟! هؤلاء المستضعفون من النساء والرجل والولدان هؤلاء من يقوم بحمايتهم؟ من يقوم بنصرتهم؟ هل المنظمات الدولية فعلًا هي التي تقوم بنصرتهم؟! إلى أيّ مدى؟! إلى ايّ مدى بات الإنسان يظلم أخاه الإنسان ويعتدي عليه ويلبه كرامته وإنسانيته، اعتداء على الأعراض، اعتداء على الأموال اعتداء على الأرض، اعتداء على كل ما هو إنساني، من الذي يقف في وجه كل هذا الطوفان اللاإنساني؟! من؟! من الذي يقف في وجهه؟! الحق والعدل والحرية والمساواة لا بد لها من من يدافع عنها ولن يدافع عنها أولئك الذين لا يؤمنون بها ولن يدافع عنها أولئك الذين لا يطبّقونها في أُسرهم وبيوتهم وحياتهم وعلاقاتهم الأسرية والمجتمعية ومؤسساتهم المختلفة صغيرة كانت أو كبيرة ولذا ربي عز وجلّ قال – والآيات لا تزال تتكلم في سياق القتال – (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ) الحياة أجمل من القتال، القتال قد يفقد فيه الإنسان حياته وأغلى شي عند الإنسان الحياة الروح! ليست كل حياة غالية، الحياة القائمة على الظلم وقبول الاعتداء على الناس وأعراضهم وأموالهم وتصفية وسفك دمائهم هذه ليست بحياة تستحق أن يعيشها الإنسان! الحياة ليست مجرد أنفاس ولو كانت أنفاسًا مكتومة تكتم الحق والعدل والحرية والمساواة! هذه ليست الحياة التي يريدها القرآن، تدبروا في الآية (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ) الموت سنة من السنن مكتوب على كل الأحياء القوي والضعيف لظال والمظلوم المرأة والرجل الصغير والكبير المريض والصحيح. إذن إذا كان الأمر هكذا ربي سبحانه وتعالى شرع للبشر أن يعيشوا حياة إنسانية كريمة تليق بإنسانيتهم فإن لم يكن ذلك فهنا في هذا الموضع هنا يشرع لقتال لأجل أن تبقى الحياة الإنسانية ويبقى الإنسان على كرامته ولا تهان وتهدر كرامة الإنسان. القتال ما شرع في القرآن لأجل الموت في الإسلام، القتال شرع لأجل الحياة الكريمة. وهذا الفهم فهم غير صحيح أن يتصور البعض وينشر هكذا عن الإسلام أن الإسلام شرع القتال لأجل الموت في سبيل الله والواقع أن القتال شُرع لأجل إبقاء الحياة الإنسانية الكريمة. ولكن إذا مات الإنسان في سبيل هذه الحياة الكريمة وإعلاء قيمتها وإحيائها الحفاظ عليها فليكن فالموت نهاية كل حيّ ولكن موته عندئذ سيكون شهادة. الآية التي بعدها جاءت لتبين هذه القيمة (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) حتى لا يضعف الإنسان أمام حبّ الحياة، حتى لا يقع الإنسان في عشق الحياة وحبها حتى ولو كانت حياة ذليلة مهينة لا كرامة له فيها. ولذلك ختمت فقالت (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) رسولًأ بأي شيء؟ رسول السلام، رسول العدل، رسول القيم والمحبة ولذلك جاءت الآية (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴿٨٠﴾) الطاعة، التطبيق، المنهج والتحذير في نفس الوقت من النفاق والازدواجية (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) ازدواجية، يقولون بألسنتهم ما لا يفعلون بجوارحهم وفي واقعهم وسلوكهم لذلك قال (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا). (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴿٨٢﴾) هنا تدبر القرآن. لماذا جاء الكلام عن التدبر واستنكار على من لا يتدبر في هذا السياق؟ لأن التدبر يقودك إلى التطبيق والتنفيذ في الواقع فإذا لم يقدك التدبرإلى التنفيذ في الواقع ستجد الاختلاف ستجد الشجار والنزاع والصراع والحروب وسفك الدماء وانتهاك الأعراض وسلب الأموال والتشتيت والتهجير من قبيل عدم تطبيق المنهج، ولماذا لا يحدث عدم التطبيق؟ لغياب التدبر ولذلك خسر المسلمون كثيرًا في واقعهم حين أعرضوا عن تدبر هذا الكتاب، التدبر فريضة على كل مسلم عاقبل يقرأ هذا الكتاب أنزله لأجل أن نتدبره لأنه بدون تدبر لا يحصل طاعة وتدبر في حياتك أنت كلما ازددت قربًا من هذا الكتاب وتدبرا في آياته ازددت طاعة لله واستسلامًا لمنهجه وسيرا على هدى نبيه صلى الله عليه وسلم. التدبر يولّد فيك الطاعة يولّد فيك الانقياد والخضوع لأمر الله ومنهجه في الواقع وهو ما أراده القرآن (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ). قد يقول قائل لو ما أدرك التناسب بين الآيات، ما دخل الكلام عن التدبر في الآية؟ الكلام عن الطاعة (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴿٨٠﴾) التولي والصدود والإعراض عن منهج الله لا يكون إلا بالإعراض عن تدبر هذا الكتاب وعدم تفهّم معانيه نتيجة طبيعية والتدبر يقودك إلى الطاعة والانقياد والاستسلام لأمر الله نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه وأن يجعلنا من أهل القرآن الواعين المتدبرين المنفذين لأوامره وتعاليمه وأن يلحقنا بأولئك الرفقة الطيبة التي أدركت كيف يتدبر المؤمن القرآن وينفذ تلك الأوامر في واقعه وحياته.
تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *