تدبر سورة المائدة: الحلقة الخامسة

تفريغ الأخت الفاضلة نوال لموقع إسلاميات حصريًا

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلنا إلى بداية النهاية في سورة المائدة، سورة العقود، سورة الالتزامات، سورة الأمانات، سورة الإيمان في واقعه، الإيمان وعمليات الربط لذلك الإيمان في جزئيات الحياة والتشريع المختلفة، والآيات التي سنبدأ بها وقد وصلنا الآن تجاوزنا الآيات الثمانين الأولى من سورة المائدة. الآيات لا تزال تتكلم عن التشريع، عن التحريم، وعن الإباحة، ولكن تقدم نماذج مختلفة، كلها تتعلق بالتشريع، كلها ‏تؤكد أن مصدر التشريع والتحليل والتحريم في حياة الإنسان المؤمن الذي اعتبر الإيمان بالله سبحانه وتعالى منهجاً له في حياته، مصدر ذلك التشريع لا بد وأن يكون الله سبحانه وتعالى، هو فقط الذي يملك حق التشريع، حق التحريم، وحق الإباحة، وبالتالي لا يمكن أن تؤخذ هذه الحقوق المتعلقة بالتشريع من أي جهة أخرى مهما كان مصدرها، ولا تكون عملية الاقتراب من ذلك المنهج، إلا بعملية تطبيق التشريع في واقع الحياة، والوقوف عند الحدود التي وضعها الله سبحانه وتعالى في تشريعاته، فالزيادة كما هو النقصان تحدث خللًا في عملية تطبيق التشريع المسألة ليست مسألة زيادة أو عدد، ‏المسألة مسألة أن نتعبد لله سبحانه وتعالى بالوقوف عند ما أمر به بالضبط تحديداً، نحن نتكلم عن تشريع، ولذلك جاءت الآية في قوله عز وجل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ الاعتداء: هو التجاوز، سواء كان في تحريم المباح، أو إباحة المحرّم، كلاهما اعتداء، كلاهما تجاوز على السلطة التشريعية التي لا ينبغي أن تكون إلا لله سبحانه. ولذلك ربي عز وجل لا يحب المعتدين، لا يحب أولئك الذين يجعلون من أنفسهم مصدراً ‏للتشريع إباحة وتحريماً ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾.‏

تدبروا معي في الربط ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ أنت آمنت بالله والخطاب للمؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ أنت ‏آمنت بالله فبمقتضى ذلك الإيمان يحتاج الإنسان أن يراقب التقوى في نفسه وفي قلبه، وهذه التقوى ليست مجرد عمل قلبي، ‏التقوى لها صدى في واقع الحياة، في واقع، العمل لها صدى من خلال الوفاء بالعقود والالتزام بها، وأعظم عقد كما ذكرنا في بداية سورة المائدة هو ذلك الميثاق الذي بين العبد وربه، ميثاق الإيمان والالتزام بما أمر الله سبحانه وتعالى به.‏

والقرآن في سورة المائدة يعرض لنا أشكالاً متنوعة في قضايا التشريع، قضايا تعرض للإنسان في واقعه، فكما أن القضايا في ‏التشريع متعلقة بالطعام والشراب وما شابه، هي كذلك متعلقة بالكلمات بما يتفوه به الإنسان، فبعض الأشخاص قد ‏يأخذ قضية الحلف والأيمان وما شابه وسيلة يحرّم بها أشياء معينة على نفسه، وهذا يعتمد إلى حد كبير على ‏طبيعة البيئة التي يعيش فيها الإنسان، ونحن نرى في بعض المجتمعات الناس يحلفون على بعضهم البعض لأجل دعوة على ‏طعام أو عشاء أو ما شابه، أو تناول صنف معين من أصناف الطعام، هذا ما عبّر عنه القرآن باللغو في أيمانكم، هو لا ‏يقصد به الحلف في ذاته، ولكن هو الذي يقصد به في واقع الأمر مجرد عملية زيادة في التأكيد على شيء معين، ولذلك ربي ‏سبحانه قال ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ لماذا؟ لأن القضية قضية التزام هنا وربي سبحانه وتعالى حتى في هذه الآية أوصانا بأي شيء؟ قال: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ كل شيء في هذا الدين العظيم، يقوم على مبدأ الحفظ، يقوم على مبدأ التنبؤ واليقظة، لا شيء في هذا الدين من تشريع يأتي هكذا عفوياً بدون معنى، تصبح في ‏ظل هذه التشريعات أقوال الإنسان، ألفاظه، أفعاله، حتى النية لا بد أن يكون لها موقع لا بد أن يكون لها أهمية واضحة ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.‏

ثم تدبروا معي!! في ذاك التناسب الرائع العجيب الذي جاء موقعه بعده في الآية التي تليها في مسألة تحريم الخمر تحريماً قطعياً، ربي سبحانه في الآية التي قبل قال: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ الألفاظ التي يتلفظ بها الإنسان عليه أن يراقبها تماماً، وبالتالي لا يستعمل كلمة الحلف كما جاء ويأتي في كثير من مجتمعاتنا وبيوتنا الناس يحلفون كثيراً، ولكن ليس هم حين يحلفون هم ‏يريدون فعلاً قضية الحلف، وإنما هم فقط هكذا درجت أصبحت كلمة دارجة على الألسنة، ما المطلوب؟ المطلوب أن يتيقظ ‏الإنسان وأن ينتبه لما يقول، وأن يصحح من لسانه، وأن يضبط عملية التفوه بتلك الكلمات التي يقولها، ولكن الذي يلفت ‏النظر: أن الآية التي جاءت في تحريم الخمر تحريماً قطعياً لأننا كما نعلم الخمر حرمت على مراحل، بتدرج قال: ﴿يَا أَيُّهَا ‏الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الرب الذي أمرك بأن تحفظ الأيمان، وأن تحافظ على الكلمات التي تتفوه بها، هو الرب الذي يأمرك أن تحافظ على أعظم ‏نعمة أعطاها لذلك المخلوق، لذلك الإنسان، النعمة التي هي مناط التكفير، النعمة التي بدونها لا يمكن أن يكون هناك تكليف ‏في واقع الأمر ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ وبدأ بالخمر، ولماذا الخمر؟ الخمر فيه اعتداء واضح ‏على نعمة العقل، أعظم اعتداء فيها اعتداء على نعمة العقل، نعمة العقل التي بها كُرِّم الإنسان، وبها خوطب في مجال التحريم ‏والتحليل والتشريع، المجنون لا يخاطب بالتشريع، فاقد العقل لا يخاطب بالتكليف وبالت،شريع الذي يخاطَب هو الإنسان ‏العاقل، فكيف لذلك الإنسان أن يأتي إلى الخمر طواعية لتفقده أعظم ما كرّمه الله به ألا وهو العقل؟! الخمر، والميسر، ‏والأنصاب، والأزلام وربي عز وجل في هذه الآية جمع لنا كل ما يعرف في واقع الأمر من الحفاظ على الضروريات أو ‏مقاصد الشريعة حفاظ على الدين، حفاظ على العرض، الحفاظ على العقل، الحفاظ على المال، الحفاظ على النفس، هذه ‏الآفات الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام هي التي تهدر هذه الضروريات التي لا تستقيم حياة البشر أبداً دون الحفاظ ‏عليها، تدبروا معي! ولذلك قال ﴿رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.‏

نحن تكلمنا وقلنا أن سورة المائدة تتحدث عن العقود، وهذه الممارسات التي لم تعد ممارسات فردية، بل هي تنسحب على ‏كل طبقات المجتمع: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، ممارسات اجتماعية ليست فقط فردية، ممارسات يتأثر بها الفرد، ‏وتتأثر بها الأسرة، ويتأثر بها المجتمع بأسرة، فكان لا بد من الحفاظ عليها، ولا يمكن أن يكون هناك حديث عن وفاء بعقود أو ‏التزامات بوجود هذه الآفات الاجتماعية التي أمر القرآن العظيم في هذه الآية باجتنابها، وجعل اجتناب هذه المحرّمات ‏مفتاح الفلاح والنجاة والفوز ليس فقط في الآخرة، وإنما في الدنيا الكلام هنا عن الجزاء الدنيوي. وتدبروا معي في الآية ‏التي تليها ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ آفات اجتماعية تترتب عليها ‏عشرات الممارسات التي تهدم المجتمع، وتهدم الكيان الأسري: العداوة والبغضاء، وقلنا في موقع آخر وقد ذكرت في سورة ‏المائدة قبل ذلك العداوة فيها اعتداء فيها فعل، فيها قول، البغضاء: هو شعور سلبي شعور بالكراهية، ولكن شعور ‏الكراهية إذا تولدت عنه اعتداءات على حقوق الآخرين نتيجة لذلك الشعور أصبح عداوة، أصبح عدوانًا، والله لا يحب ‏المعتدين.‏

إذاً هذه الآفات السيئة: الخمر، والميسر، القمار بكل أشكاله وصوره، لأن الميسر في الجاهلية كان له شكل معين، ممارسة اعتاد ‏عليها رواد النوادي في الجاهلية، ولكن في واقع الأمر في أيامنا هذه اتخذ أشكالاً مختلفة، متنوعة جداً متعددة، ولكن كل ‏هذه الأشكال تقوم على مبدأ الغشّ، والتدليس، وأخذ أموال الناس وتداول تلك الأموال بالباطل، ‏ربي عز وجل جعل لتداول المال بين الناس قنوات مشروعة، وهذه القنوات لا بد أن تكون من التشريع مباحة، حتى تصبح ‏عملية التداول المالي مشروعة، الميسر فيه تداول مالي، وكذلك الخمر في البيع والشراء والتعاطي، ولكن هذه القنوات ‏قنوات جففها القرآن العظيم، وأمرنا بأن لا نقوم بعملية التداول من خلالها، وذكر بعض وأهم الأسباب الكامنة وراء ذلك ‏التحريم: عداوة، وبغضاء وصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟ سبل العداوة فعلاً تنفتح من خلال هذه الوسائل غير المشروعة.

ثم تستمر الآيات بعد ذلك في الحديث عن قضايا المتعلقة ‏بإباحة الطعام، وبتحريم الأشياء وما شابه التحريم والتحليل، قال ‏﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ الطاعة: عندما يكون لدي أمر إلهي نهياً أو إيجاباً، المفروض من المؤمن أن تكون طبيعة الاستجابة له: طاعة ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ ‏وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾. ومهمة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه القضية: البلاغ، إيصال الرسالة، إيصال التشريع، واضحة جداً ‏المهمة في هذه الآية، مهمة النبي صلوات الله وسلامه عليه.‏

ثم قال بعد ذلك ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ ‏اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وتدبروا معي!! تقوى وإيمان، تقوى وإيمان وعمل صالح، تقوى وإيمان، تقوى وإحسان، الإيمان درجات، الإيمان يزيد ‏وينقص، يزيد على قدر مراقبة الإنسان وحرصه الشديد على الاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى وتنفيذه في واقعه، كلما ‏كان الإنسان أكثر التزامًا ورغبة من الداخل ونية صادقة في اتباع أمر الله سبحانه وتعالى في حياته في كل الجزئيات، كلما ‏ترقى في مرتبة التقوى والإحسان، الإيمان يزيد بالطاعة، كما أنه ينقص بالمعصية ومخالفة أمر الله سبحانه وتعالى.‏

ثم إننا في هذه الدنيا نمر بعشرات الابتلاءات، نمر بعشرات الاختبارات والامتحانات وفي بعض الأحيان الاختبارات تكون ‏متعلقة في ذلك الجانب التشريعي فعلاً: هل تمتد يدي إلى الحرام؟ أم أتوقف ولا أتجاوز الحلال إلى الحرام أبداً؟ ﴿يَا أَيُّهَا ‏الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ ‏عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ تدبروا معي! الصيد ممكن أن يكون الشيء في أصله مباحًا، ولكن هناك توقيت زمني معين يحرّم ذلك الشيء عليك، أو ‏أحياناً توقيت مكاني، كما في القضايا المتعلقة بالحج وعملية الصيد، أو كما هي متعلقة في رمضان الطعام مباح، ربي أباحه في ‏كل وقت، ولكنه تحديداً في رمضان في نهار رمضان حرم على الإنسان أن يتناول ذلك المباح، فيصبح المباح محرماً توقيت ‏زمني، لماذا؟ قضية امتحان، قضية اختبار، رغم علم الله سبحانه وتعالى من يخافه بالغيب، ولكن كما ذكرنا في مرات سابقة ربي عز وجل أراد أن يقيم الحجة علينا بأعمالنا، وليس بعلمه سبحانه، وهذا من تمام عدله سبحانه، ومن تمام حكمته عز وجل.

ثم تتوالى الآيات بعد ذلك تحدثنا عن المباح وعن الحرام ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ﴾ وفي نفس ‏الوقت ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ تدبروا في تلك الصورتين المتقابلتين في آية واحدة: صيد البحر وطعامه هذا أحلّ لكم، ولكن صيد البر ما دمتم حرماً حُرّم عليكم. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ هنا ربي عز وجل يبتلينا بقضية الوقوف والحزم في الوقوف عند أوامر الله سبحانه وتعالى، تحديداً في كل الأشياء وخاصة فيما يتعلق بقضية التشريعات. هناك أشياء جعل الله سبحانه وتعالى مساحة لها ليدرك الإنسان الحكمة في التشريع، ممكن، ولكن كذلك هناك مساحة أخرى ‏في جانب التشريع لا يدرك الإنسان الحكمة من قضية التحريم أو التحليل، ليس كل شيء في الدنيا حُرّم أو أبيح لنا، ممكن ‏أن ندرك فيه الحكمة من التشريع، وليس مطلوب من عندي في قضية التعبد لله سبحانه وتعالى والتزام شرعه أن أدرك كل ‏الحكمة أو أجزاء من الحكمة في التشريع، لا، لأن المطلوب أن يكون لدي رصيد قوي وعالي من الإيمان والتقوى، يمكنني من ‏اتباع أوامر الله سبحانه وتعالى سواء ظهرت لي الحكمة أم لم تظهر، ولذلك ربي عز وجل حرم من الأماكن أماكن مخصوصة ‏معينة: كالبيت الحرام، حرّم من الأزمنة أزمنة معينة، حرّم من الأشياء، حرّم من الأطعمة، هذه الأمور كلها داخلة في تصميم ‏التشريع والابتلاء والاختبار. وتدبروا معي! ربي عز وجل يقول في نهاية الآية ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ‏وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ * ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التزام الشعائر، الوقوف عند تلك الأوامر والنواهي في كل شيء، فيما حرّم الله سبحانه وتعالى ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ‏اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ يزيد رصيد المؤمن من التقوى، كلما ازداد تعظيماً لشعائر الله سبحانه وتعالى.

وبعد هذا الكلام عن قضية الصيد التحريم والتحليل، يأتي الحديث عن الكعبة، ربي عز وجل جعل لهذا المكان خصوصية معينة، وجعل لها أحكام معينة تتعلق بها هي، ‏أحكام الصيد، وجعل لها خصوصية في قضية الزمان كذلك، يا ترى لماذا؟ ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ قيام تقوم به حياتهم، دنياهم، دينهم، ولماذا هذا المكان بالذات؟ ما خصوصية هذا المكان؟ ربي عز وجل في سورة الحج قال ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ رسالة التوحيد، ولا يقوم معاش الناس ولا حياتهم ولا دينهم ولا دنياهم إلا بالتوحيد. تدبروا معي في هذه اللفتة المناسبة العظيمة: الذهاب إلى الحج، أو إلى العمرة، أو زيارة الكعبة تجديد لمعاني التوحيد في قلب ‏الإنسان المؤمن، ولا تقوم حياة الناس إلا بالتوحيد وتجديده وتصفيته وتنقيته. رسالة التوحيد ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ لأن هذه الرحلة بكل شعائرها وتعظيم شعائرها وبكل ‏وقوف الإنسان عند كل جزئية فيها من تحريم الصيد، من الأشياء التي جاءت فيها، من تعظيم شعائر الله في الزمان في المكان، ‏تجديد وتنقية وتصفية للتوحيد الذي لا تستقيم حياة الناس إلا به. وبالتالي هذا المكان، وهذه الشعيرة وهذا الالتزام هو ‏الذي يذكرنا بهذه التصفية العظيمة للتوحيد. وتدبروا معي في الكلمة! قال: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ لكل الناس الآية هنا. كيف يكون هذا القيام؟ ‏كيف يصبح ذلك المكان فعلاً مكانًا يصلح به الأمور المختلفة أمور الناس في دنياهم وفي آخرتهم، وفي دينهم، كيف؟ ربي عز ‏وجل من خلال قضايا متعلقة بالتشريعات بهذا المكان مكاناً وزماناً أراد من هذه الأمة أن توفّي بذلك العقد والميثاق فتجعل ‏الشعائر والعبادات المتعلقة إقامتها بهذا المكان، بهذا البيت، مصدراً لتبليغ رسالة القرآن للعالم كله، فإذا ما نظر الناس إلى مكة ‏إلى الكعبة البيت الحرام وجدوا كأنها صورة واقعية لشعائر الإسلام وشعائر الدين، بمعنى آخر إذا أراد إنسان أن يتعرف ‏على الإسلام كدين، وأن ينظر إلى شعائر هذا الدين، فما عليه إلا أن ينظر إلى الكعبة البيت الحرام ليرى كل الشعائر ‏متحققة فيه بشكل عملي. الإنسان بطبيعته جُبِل على أن ينظر إلى مثال إلى شيء واقعي، شيء حسي، شيء يلمسه، وربي ‏سبحانه وتعالى في كل السورة وفي سور أخرى قال: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ فتعظيم الشعائر الذي عمل قلبي يبدأ بالتقوى، لا بد أن يكون له رصيد في الواقع. وبالتالي أريد لهذه الأمة التي أُمرت ‏بالالتزام بأوامر الله إيجاباً ونهياً، زماناً ومكاناً، أن تُظهر تعظيم الشعائر في ذلك المكان كأعظم ما تُظهره حتى تصبح فعلاً الكعبة ‏بمجرد أن ينظر إليها أيّ إنسان وإلى ما يدور حولها، يتعرف إلى طبيعة هذه الدعوة، يرى مدى احترام وإيمان المسلمين ‏بشعائر هذا الدين وتطبيقهم له. وهنا لفتة عظيمة جداً للأسف الشديد نجد أن بعض المسلمين اليوم يعتقدون أو يتوهمون، ‏بعضاً منهم يتساهل في الموضوع، ويتصور أن تعظيم شعائر البيت هذا البيت الحرام تنحصر في قضية متعلقة بقصّ الشعر أو ‏قتل الصيد أو ما شابه القضايا المتعلقة التي نصّ عليها القرآن وجاءت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتناولها ‏الفقهاء قديماً وحديثاً، ولكن المسألة أعظم وأعمق وأكبر، الحج هو في حد ذاته في واقع الأمر أريد له أن يكون رسالة سنوية ‏عالمية تقدم للعالم أنموذجاً حياً لتعاليم الإسلام، ولذلك سورة الحج ربي سبحانه وتعالى كما نعلم الحج فرض على المسلم ‏الذي يؤمن بالله ورسوله ورغم هذا نجد أن سورة الحج ابتدأت بقوله عز وجل ﴿َيا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ‏السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾.‏

تدبروا معي! سورة الحج والخطاب يبدأ بـ ﴿َيا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ لأن الحج رسالة عالمية صحيح هو فُرض على المسلم المقتدر ‏على أداء فريضة الحج، ولكن هو كعبادة وكشعيرة هو رسالة عالمية لكل الناس، كان لكل مسلم وعلى كل مسلم يحج ‏البيت أن يُسهم في تقديم هذه الرسالة، وأن يُحسن في إيصال هذه الرسالة إلى العالم بأسره، والآية هنا تؤكد هذا المعنى ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ وليس فقط للمسلمين، وليس فقط لمن يزور هذا البيت، وليس فقط لمن ‏يعظم شعائر هذا البيت، وإنما هي لكل الناس، كيف لكل الناس؟ من خلال تقديم رسالة الإسلام، فالإنسان ينظر إلى الكعبة، ‏وينظر إلى البيت الحرام، فيفهم معنى هذا الدين، يرى سلوك المسلمين، يرى انضباط المسلمين، يرى تميز المسلمين، يرى ‏تلك الصفوف المستوية وكأنها قد خُطّت بخطوط، يرى ذلك المنظر الرائع الجميل لآلاف المسلمين الذين جاءوا من مشارق ‏الأرض ومغاربها يصطفون بمجرد قول الإمام: الله أكبر بتكبيرة الإحرام، في خطوط متوازية متساوية واحدة شيء عجيب! ‏انضباط عجيب! دون أن يقول لهم أي أحد أو مرور أو أحد يساوي بين الصفوف! تدبروا معي، هذا أين يحدث؟ هذا ‏يحدث في الكعبة، يحدث حول الكعبة، يحدث في البيت الحرام، هذا من تعظيم شعائر الله عز وجل، ولذلك كان واجباً على ‏المسلم المتدبر لكتاب الله سبحانه، أن يدرك من خلال هذه الآية أن كل آيات التي سبقت وتكلمت بالتحديد عن قضية ‏الصيد ليست القضية فقط قضية صيد القضية قضية تقديم شعائر الدين، قضية إيصال الرسالة، قضية تبليغ رسالة الإسلام ‏القائمة على السلام، القائمة على احترام المسخّرات واحترام البيئة، والحرص في قضية الصيد على كل الأشياء وعلى كل ‏الموجودات من حولنا في الطبيعة، هذه رسالة من رسالة الإسلام. السؤال: هل أحسن المسلمون إيصال كل الرسائل المتعلقة ‏بالكعبة وبالبيت الحرام من خلال تعظيمهم للشعائر؟! واحدة على سبيل المثال من تعظيم الشعائر: الحفاظ على نظافة البيت، ‏الحفاظ على نظافة المكان بأسره، هذه تتعلق كذلك بأداء رسالة الحج. رسالة الحج على كل حاج أن يدرك أنه هو في ذهابه ‏لهذا المكان المكان الذي أراده الله سبحانه وتعالى أن يحج إليه الناس وجعل قضية الحج متعلقة به هو وبذلك المكان وذلك الزمان، ‏هو في حد ذاته جزء من الرسالة فعليه أن يحسن إبلاغ الرسالة. تدبروا معي! كم مرة جاء الكلام عن البلاغ ﴿مَا عَلَى ‏الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ النبي صلى الله عليه وسلم بلّغ هذه الرسالة وأحسن البلاغ فيها. أحسن البلاغ في فتح مكة القضية ليست فقط قضية أنه هو قال ‏للناس ولأهل مكة: اذهبوا فأنتم الطلقاء، القضية قضية إرساء لمعالم ولرسالة السلام والتسامح تحديداً في ذلك المكان. فلا بد ‏أن تتضمن الرسالة ذلك التسامح وذلك السلام بين المسلمين ليشكلوا فعلاً في حقيقة الأمر صورة تجسد هذه التعاليم ‏العظيمة، والشعائر العظيمة التي لا ينبغي الوقوف بالبلاغ فيها عند الكلمات أو الخطب. ولنا أن نتأمل في حال بعض ‏المسلمين وهم في البيت الحرام، خارج البيت الحرام، يحدث من بعض المسلمين نزاعات ارتفاع في الأصوات، تدافع أحياناً ‏نتيجة لقضايا متعلقة بالزحام وما شابه، كثرة وجود الناس في مكان واحد، هو في حد ذاته رسالة، جزء من رسالة الإسلام، ‏جزء من رسالة هذا الدين،أن هذا الدين بتعاليمه وتشريعاته قادر على أن يُخرِّج أناساً ويُخرِج أناساً يستطيعون أن يعيشوا ‏سوياً يتعايشون سوية في مكان واحد في وقت واحد، رغم الحرّ رغم الزحام، رغم الأشياء المختلفة الظروف البيئية المختلفة، ‏إلا أنهم يستطيعوا أن يقوموا بشيء منظم له هدف وله غاية في جو من التسامح في جو من التعايش. إذا لم يدرك المسلمون ‏هذه الرسالة ما استطاعوا أن يبلغوها للعالم! ربي عز وجل أراد هذا المكان الكعبة البيت الحرام أراد أن يكون قياماً للناس، ‏تقوم به حياتهم، ودينهم ودنياهم، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال فهم هذه الرسالة العظيمة. ولذلك تدافع بعض المسلمين ‏أحياناً على الصلاة في مكان معين، أو حجز الأماكن، أو وضع أمتعة في مكان معين ليحجز خاصة هذه الأيام التي سنقبل ‏عليها بإذن الله أيام رمضان، تزداد الأعداد بشكل واضح جداً فيصبح كل شخص يريد أن يتأكد أنه يصلي في مكان معين ‏ولا يزاحمه عليه أحد. مبدأ الإخوة، مبدأ التسامح، مبدأ الإيثار، هو الرسالة الحقيقية لكل هذه الشعائر، القضية ليست ‏المكان الذي أنت فقط تصلي فيه، تقربك إلى الله عز وجل يكون من خلال تقربك بإيصال هذه الرسالة العظيمة المتضمنة هي في حقيقة الأمر في أوامره ونواهيه سبحانه، ولذلك حين قال ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ ‏الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ القضية فيها تقوى، التقوى بمراقبة الله سبحانه وتعالى، ولذلك من المهم جداً ونحن نذكّر ونعرّف المسلمين برسالة الحج أن ‏يدركوا أن القضية ليست فقط في إقامة الشعائر، هي في مراقبة تلك الأعمال التي هي في حد ذاتها مهمة جداً، ولا تستقيم ‏قضية الحج بدونها: قص الشعر وتقليم الأظافر وما شابه. تعظيم شعائر الله رسالة واضحة في كل شيء مدرسة سلوكية، مدرسة تتبنى كل القواعد التي جاءت بها أحكام الشرع من التسامح ومن السلام، ومن إشاعة المحبة، ومن التعاون على ‏البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، التعرّف على الآخرين، الاستماع والإنصات إليهم، الشعور بمشاعرهم، الدعاء لهم، التعاون معهم على ما فيه خير، هذه معاني عظيمة للأسف الشديد في بعض الأحيان يغيّبها بعض الناس، ويجعل ‏من تلك الشعائر العظيمة مجرد أعمال شكلية صورية في حين أن الله سبحانه وتعالى في سورة الحج على سبيل المثال أكد في ‏أكثر من موضع ﴿وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ القضية قضية التوقى، العبادات ليست مجرد أشكال، لا بد أن يكون لها محتوى ذلك المحتوى يتعلق ‏بالتقوى وتحقيق رسالة القرآن.‏

ثم انتقلت الآيات بعد ذلك وهي في واقع الأمر لم تنفصل عن السياق، السياق واضح الترابط فيه، قال ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي ‏الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لا زال الكلام عن الخبيث والطيب، ولكن الآية هنا تعطي قاعدة عظيمة في التعاطي مع الأشياء: لا يستوي الخبيث ‏والطيب، الحرام والحلال ليسوا سواء، البيع ليس كالربا البيع حلال، أحلّ الله البيع وحرّم الربا، الخمر ليس كالماء الخمر ‏حرام والماء مباح، الخبيث ليس كالطيب، الحرام ليس كالحلال، لا، ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾.

وتدبروا في الآية قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يا أصحاب العقول، الإنسان في القرآن كلما ازداد تعقلاً وتبصراً وإقامة لكل هذه المفاهيم العظيمة، وتفكراً وتدبراً لأن من وظائف العقل التدبر، لا يمكن أن يتدبر إنسان غير عاقل، أو ‏لديه قدرات محدودة عقلية، لا، الإنسان الذي يتفكر ويتبصر ويتدبر هو الإنسان العاقل، والإنسان الذي يترقى في درجات ‏التدبر هو ذلك الذي هو من أصحاب الألباب أو العقول الكبيرة. ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ المال الحلال ليس كالمال ‏الحرام، المال الحرام قد يكون كثيراً، هذا جزء من الابتلاء، الإنسان يحصل على مرتب معين، راتب شهري، مقابل عمل ‏يقوم به، حلال، ولكن قد يأتيه عرض مغري جداً اختلاس رشوة، ما شابه ربا، يزيد أضعاف مضاعفة على ذلك المال، عليه ‏أن يستذكر هذه الآية العظيمة ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ لأن الناس تجري وراء ‏الكثرة، المليون ليس كالألف، طبيعي! ولكنك إذا أدركت أن ذلك المليون بخبثه وبما فيه من دنس سيحرق حياتي، سيدمر ‏حياة أسرتي وعائلتي، ستعف نفسي عنه، وسأرضى حينها بذلك القليل، الألف، وأدرك تماماً أن الله سبحانه وتعالى سيجعل فيه ‏من البركة ما يكفيني ويزيد، أكثر بكثير من هذا الحرام، فلا أحدّث نفسي أبداً بالاقتراب من الحرام، هذا هو الفرق بين ‏الخبيث والطيب. كما أن أي إنسان مسلم الآن ولا نبالغ في ذلك، الآن غالبية إن لم نقل كل المسلمين، لو تضع له في طبق ‏لحم خنزير طهي بأحسن الطرق ووسائل الطهي والطبخ مزيّن بكل الأشكال والأنواع لا يمكن نفسه تحدثه بأن يقترب منه، هناك ستار وحاجز كثيف يمنعه من أن ينظر حتى إليه، نفسه تعافه، لا رائحة ولا طعم ولا لون ولا شكل لماذا؟ نفسه اعتادت على هذا. ربي سبحانه في سورة المائدة يريد منا أن يقيم ذلك الحاجز القوي السد المنيع بيننا وبين الحرام، ولذلك ‏جاءت لفظة الخبيث هنا، الخبيث هنا بمعنى الحرام. فهذا الحرام الخبيث لا بد أن يقام في نفسي حاجز نفسي الآن عندي أنا ‏كمؤمن تجاه ذلك الخبيث، فمهما كثر لا يمكن أن تحدثني نفسي أن تمتد يدي إليه. وأنا أقول: أن بناء هذا الحاجز النفسي ‏في نفوسنا ونفوس أبنائنا وشبابنا يحتاج إلى زاد من التقوى، يحتاج إلى زاد بنته هذه السورة العظيمة.‏

وتدبروا معي! في الآية التي تليها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ‏الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ بناء هذا الحاجز العظيم النفسي التي تكلمنا عنه في نفس الإنسان بينه وبين الخبيث يتحقق من خلال وسائل متعددة، ولكن ‏هنا جاء الحديث عن قضية السؤال، وما علاقة الحديث عن السؤال بالآية التي قبل؟! لو ربطنا في قصة بني إسرائيل في قضية البقرة في سورة ‏البقرة، بنو إسرائيل عُرف عنهم كثرة السؤال، يسألون ما لونها، ما هي، كيف هي؟ أسئلة كثيرة! كثرة الأسئلة في الدين ‏ليست هي التي تبني ذلك الحاجز الذي أراد القرآن بناءه في نفس الإنسان المؤمن بينه وبين الحرام، كثرة السؤال ليست هي التي تزيد في نصيبك من التقوى، وإنما الوقوف بالضبط عند أمر القرآن الأمر والنهي، تماماً، ولذلك حتى توقيت ‏السؤال ينبغي أن يكون وفق ما أمر الله سبحانه وتعالى ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ إذاً الأشياء التي سُكت عنها وسَكت عنها التشريع هو ما سكت عنها نتيجة لعدم معرفة أو إغفال لها، ولا نسيان حاشا لله ‏سبحانه وتعالى! ولكن هذه المنطقة من عدم إبداء الكلام فيها أو تناولها مقصودة لذاتها، فكثرة السؤال أو التنقيب عن ‏الشيء الذي لا ينبغي السؤال عنه لن يزيد في رصيدك الإيماني ولن يزيد في رصيد التقوى، لأن هناك كثير من الناس يزيد ‏في جانب التنطّع إلى حد التنطّع كثرة السؤال عن التفاصيل والدقائق بشكل بحيث يخرجه فعلاً عن الحكمة من التشريع أو ‏المقصد من ذلك التشريع، ونحن نهينا عن كثرة السؤال وقيل وقال. بنو إسرائيل هم الذين كانت عندهم هذه الإشكالية، فعلينا الحذر والتنبه لهذا، ولكي تحدث عندي هذه القضية قضية ‏الحذر أحتاج أني حين أسأل أتفقد نيتي من السؤال أنا لماذا أسأل؟ من باب التعلم؟ من باب التقرب لله سبحانه وتعالى؟ من ‏باب البحث عن رخصة؟ من باب أي شيء؟ من باب إبداء الرأي وإبداء الأفضيلة أو إبداء أني أنا أعرف؟ أو من أي باب؟ ‏لأن الأبواب كثيرة والله سبحانه وتعالى جعل هذا الباب واحدًا قال ﴿تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ﴾ القرآن كان ينزل ‏في أوقات محددة معينة، ولكن الآن هو نزل، وهذا هو الترتيب الذي جاء به ونزل به القرآن العظيم كما هو الآن هو هذا ‏الترتيب، كما هو عليه الآن بين أيدينا، فنحتاج أن ندرك هذه الرسالة، وأن نتأدب بأدب القرآن العظيم، ولذلك قال: ﴿قَدْ ‏سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾ الكلام هنا إشارة إلى بني إسرائيل الذين كانوا يكثرون من السؤال، والتفاصيل، ولكن تلك التفاصيل لم تقربهم إلى الله، ‏تلك الأسئلة لم تجعلهم إلى الله أقرب، بل كانوا من الله أبعد.

ثم أعطانا نموذجًا آخر من النماذج التي كان يحرم فيها الناس ‏قبل نزول القرآن أشياء هي في الأصل مباحة ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ‏يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ تشريع بغير دليل، تحريم، يشقّون أُذن الناقة أو الأنعام ثم يطلقون أنها هذه حرام، يسيّبون الناقة فترة من الزمن، ثم يقولون: لا ‏هي حرمت علينا لا تُركب ولا تؤكل ولا تُذبح ولا، أشياء ما أنزل الله بها من سلطان!! الذي يملك حق التشريع هو الخالق ‏الذي خلق فقط، ولذلك قال: ﴿يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ وتدبروا معي! في تلك المعالجة القرآنية الرائعة لأكبر عائق يمكن أن يقف بين الإنسان وبين التشريع، وإذا قيل لهم: رغم أن ‏الكلام في سياق الحديث عن الجاهلية، ولكن الكلام حتى وهو في هذا السياق هو نزل إلينا، نزل تحذيراً من الوقوع في هذه ‏الإشكاليات، قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ ‏لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ كثير من الناس يتركون أوامر الله عز وجل ومنهج الله سبحانه، وتشريعاته لأنهم اعتادوا على تشريعات ومناهج في البيئات ‏التي نشأوا فيها سواء كانت تلك البيئات بيئات الأسرة، أو بيئات المجتمع وضغوط المجتمع، أو ضغوط الإعلام، أو أي ‏شيء آخر، ﴿حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ عليك أن تختبر المنهج الذي تسير وفقه في هذه الحياة، مجرد أن أهلي وعشيرتي وقرابتي أو كل الناس، بعض الناس وخاصة في ‏زماننا يلهثون وراء رأي الأغلبية، يسيرون وراء الأكثرية كما قلنا في لقاء سابق (لا يكن أحدكم إمّعة) الإمعة الذي ‏يتبنى منهج الأكثرية إن أحسن الناس أحسنوا، وإن أساءوا أساء، شيء من التبعية. القرآن يريد أن يصنع إنساناً له استقلالية ‏في ذاته، استقلالية في تفكيره، استقلالية في اختياره للمنهج الذي يسير عليه في حياته، هذه الاستقلالية ليست استقلالية ‏فوضى، وإنما هي استقلالية مبنية على شعوره بالمسؤولية، فهو لأنه يدرك طبيعة المسؤولية حين يختار عليه أن يحسن الاختيار، ‏وما الذي يكون أحسن اختياراً مما يختاره الله سبحانه وتعالى لك وأنزله إليك، ولذلك الآية التي جاءت بعدها تؤكد هذا المعنى، قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ ‏تَعْمَلُونَ﴾ كثير من الناس خاصة في زماننا هذا أصبح لديهم قضية الجري وراء قول الأكثرية، ربما يفعل أحياناً شيئاً معيناً ليس لأنه على ‏قناعة فيه، أبداً، ولكن لأنه يرى أن أكثر الناس يقومون به. يقف أحياناً في طريق ليس لأنه يدرك بأن هذا الطريق سوف سيوصله إلى غايته، ولكن رأى أنهم سيقفون فوقف معهم، رأى أهله يقفون فوقف مع أهله، وكما يقال في الكلام الدارج: (حشرٌ مع الناس عيد) لا، ليس كل الحشر مع الناس لمجرد أنه مع الناس فهو عيد، أبداً! كلام غير دقيق وغير صحيح ‏القرآن يفنّده ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾. اختيارك للهدى، لطريق الهدى هذا اختيار ينبغي أن يكون اختيارًا فرديًا، مبنيًا على قناعة تامة، وليس مبنيًا على طريقة ولا ‏على مقياس الأكثرية والأغلبية. وهذه الآية كما فهمها البعض حتى في العصور الأولى: أن لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ‏إذاً أنا لا دخل لي بالناس لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر، إطلاقاً! لا تعارض بينهما: أنت تقوم بواجبك، تقوم بما أمر الله ‏سبحانه وتعالى من تبيان للحق، المنهج واضح، لأن الآية لا ينبغي أن تقرأ بمعزل عن الآيات الأخرى، التي تحض على الأمر ‏بالمعروف والنهي عن المنكر في نفس السورة التي عابت على بني إسرائيل ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا ‏كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ مطلوب منك تماماً أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولكن في نفس الوقت عليك أن تدرك أن المسؤولية المباشرة تقع ‏عليك على نفسك (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ). وإذا رأيت بعد ذلك أن الناس قد اختاروا من حولك منهجاً آخر، فعليك دائماً أن يكون التركيز والمقياس هو الاختيار ‏الذي أنت اخترت، وليس النظر إلى الناس، مقياس خطير جداً أن تجعل مقياس الصحة لديك في الأمور بحسب ما ينظر إليه ‏الناس، أو من خلال منظار الناس من أخطر الأمراض، من أخطر الأشياء التي لا بد من تداركها.‏

ولذلك قال في نهاية الآية: ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فطالما أن الله عز وجل يرجع إليه الخلق، ويرجع إليه الخلق أفراداً ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لا ينبئكم بما كان يعمل ‏الآخرون، أنا غير مسؤول عن عمل الآخرين، ولكن مسؤول عن عملي، ومسؤول كذلك عن ما ينبغي أن أقوم به، ‏لتصحيح –على سبيل المثال- أخطاء الآخرين، أو إفساد صدر منهم فلا بد أن أقوم بعملية إصلاح أواجه به ذلك الإفساد، ‏ولكن أن أكون إنسانًا سلبيًا هذا لا يمكن أن يقبل أبداً في القرآن!

وتدبروا معي في النموذج الذي جاء بعد ذلك نموذج ‏مثال عن الشهادة والقيام بالشهادة، والوصية والقيام بالوصية، ولنا أن نتساءل ما دخل في قضية الشهادة والإشهاد على ‏الوصية حين يوصي الميت بشيء في كل هذا الحديث؟ هذا مثل تطبيقي نموذج تطبيقي، القرآن يعلمنا كيفية تطبيق أحكامه ‏وتشريعاته من خلال جزئيات الحياة والمواقف التي نتعرض لها، فالموقف الذي نتعرض له في قضية الشهادة والوصية، فماذا ‏تكون النتيجة؟ ﴿وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ﴾ لا تكتم الشهادة، وكما أن الإشهاد على الوصية في حال الموت وما شابه قضية خطيرة وحساسة جداً لا يجوز للإنسان أن ‏يكتمها، كذلك تعاليم شريعة الله عز وجل وأوامر الله ونواهيه، هذه شهادات وأمانات لا ينبغي أن تُكتم أبداً.‏

تدبروا معي!! ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ ربط هذا الموقف موقف قضية الشهادة وهو قضية متعلقة بمواقف معينة حياتية يعيشها الناس، لكن يحتاجون إليها، وهي ‏تحصل مع كل إنسان، والمفترض من كل إنسان صغيراً كبيراً فقيراً غنياً رجلاً امرأة، أن يكون له وصية، وأن يُشهد على ‏هذه الوصية، الوصية لا تتعلق بالمرض فقط، كما يعتقد بعض الناس، بعض الناس لا يكتب الوصية إلا إذا مرض، أو أحسّ ‏بدنو أجله، ولكن نحن نعلم تماماً أن الموت لا يعلمه إلا الله، ساعة الرحيل لا يعلم بها إلا الله، فعلى العاقل المؤمن ألا ينام ليلة ‏كما روي عن كثير من الصالحين، إلا ووصيته فعلاً تحت وسادته مستشعراً أن الموت قد يأتي في أيّ لحظة، هذا جزء من ‏أداء الأمانة، ثم تدبروا معي في ذلك الربط العظيم قال: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ ‏أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ الرسل تُجمع وأماناتهم ووصاياهم كانت متعلقة بأداء رسالات الدين، وأشهدوا الله عليها، وأشهدوا أنهم قد قاموا بإبلاغها ‏للناس، ولذلك النبي صلى الله وعليه وآله وسلم كان يقول في حجة الوداع: “اللهم هل بلّغت، اللهم فاشهد”. أشهد الله على أنه قد بلغ الرسالة، فهذه وصايا (واتقوا الله واسمعوا) كيف تكون التقوى؟ التقوى بالاستشعار بالمسؤولية.

‏ثم ذاك الانتقال العجيب في سورة المائدة بعد ذلك في نهاياتها إلى يوم القيامة، مشهد يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل، وحتى ‏الرسل سيقال لهم ماذا أُجبتم؟. تدبروا معي! لماذا؟ لإشعار الإنسان المؤمن بأهمية الرسالة التي يحملها. ثم عاد الحديث بعد ذلك في قضية عيسى عليه السلام، ‏عيسى عليه السلام النبي الذي اختلف عليه من يدّعون بأنهم أحبابه، وأنهم الذين ناصروه (إذا قال الله يا عيسى) عيسى ‏عليه السلام ربي عز وجل في هذه الآية يذكّره بتلك النعم التي أنعم بها عليه، ولكن عيسى عليه السلام هنا في هذه الآية ربي ‏يذكّر ويقول لعيسى عليه السلام من باب وفي سياق أن يقول لهؤلاء الذين يغالون في هذا الدين، الذين غالوا في ‏دينهم، الذين قالوا إنما المسيح عيسى ابن مريم قالوا: (هو الله) ومرة أخرى قالوا: (ثالث ثلاثة)!

تدبروا معي! فكل هذه الآيات هي في سياق الحديث لهم: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا ‏وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾. تدبروا في الكلمات، تدبروا في الشهادة هنا! سورة المائدة قلنا منذ البداية: إنها سورة عقود وكل عقد لا بد فيه من شهود، كل العقود فيها شهود: بيع شراء، زواج فيها ‏شهود، وكالة فيه شهود، ولكن هذا الميثاق ﴿قَالُوا آَمَنَّا﴾ من الذي شهد عليهم؟ ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ ولذلك بعد ‏ذلك جاء الحديث عن القصة الرئيسة في سورة المائدة قصة المائدة هم قالوا: اشهد بأننا مسلمون، نحن أسلمنا معك مع ‏عيسى عليه السلام، وأسلموا لله وربي شهد عليهم بذلك، ولكن مع ذلك ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ ‏يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لماذا قال لهم اتقوا الله إن كنتم مؤمنين؟ أنت شهدت بأن الله هو الخالق القادر البارئ الرزاق، الذي يقول للشيء كن ‏فيكون، فعلى أيّ أساس تطلب بعد ذلك دليلاً حسياً يكرّس ويعزز جوانب الإيمان في نفسك؟! قال ﴿اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ ‏كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لا تطلب شيء حتى حسي من هذا النوع حتى يثبت الإيمان في قلبك. الإيمان الذي لا يستقر في قلب ‏صاحبه بناءً على يقينه بأن الله سبحانه وتعالى قادر خالق رازق عالم سميع بصير لا يمكن أبداً أن يتركز ويستقر من خلال ‏فقط الآيات أو المعجزات الحسية! ولذلك وقع الكفر بعد ذلك في الأقوام السابقة والأمم السابقة على الرغم من نزول ‏الآيات الحسية. وفي هذا الكلام تعريض كذلك للناس لكفار قريش الذين كانوا يصرون في بداية الدعوة على المطالبة ‏بالآيات الحسية للإيمان بالله سبحانه وتعالى، طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له من بيت من زخرف وأن ‏يكون له كذا وأن يكون له كذا، القرآن ما استجاب لهم، لماذا؟ لأنه لا بد أن يدرك العقل البشري ونحن قلنا أن سورة ‏المائدة من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، أن إيمانك لا بد أن يزيد ويستقر في قلبك من خلال وجود الآيات ‏الموجودة في الكون، وليس من خلال استحداث آيات جديدة، الكون مليء بالآيات، السماء الأرض، الشجر، المطر، الماء، الإنسان ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ فالقضية ليست قضية استحداث آيات حسية! هم أصروا على أن تنزل عليهم مائدة من السماء، ألا يكفي السماء التي ‏فوق رؤوسهم؟! ألا تكفيهم من آية لتعزز فيهم استشعار قدرة الله سبحانه وتعالى على فعل أي شيء؟! ولكن معناه أن تلك ‏الآيات الموجودة المبثوثة لم تؤدي مفعولها الحقيقي في تلك النفوس، ليس لأنها ليس فيها مفعول قوي، لا، ولكن طبيعة ‏النفوس التي تتلقاها. وللأسف الشديد نحن في زمننا هذا الذي نعيش فيه ألفنا كثيراً من تلك الآيات الحسية المبثوثة في ‏الكون الصلة بيننا وبين الكون بدأت تضعف بشكل واضح جداً، وكأن الكون أصبح أو الطبيعة أصبح جزء منفصل عنا لا ‏نكاد ننظر إليه، ونحن بحاجة إلى النظر والتدبر والتأمل في تلك الآيات الحسية المبثوثة في الكون وفي أنفسكم لتجديد جذوة ‏الإيمان في قلوبنا. الإيمان يخلق، تجديد الإيمان يحتاج منا إلى هذا النوع من النظر والتدبر والتأمل.

ولذلك تدبروا معي في الآية ‏التي تليها ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ ‏لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ تدبروا معي! في ذلك الخلق القرآني الراقي الذي يمليه القرآن هنا في أنفسنا، خلق المساءلة خلق التأكد التحقق من الأخبار، ‏ربي عز وجل علام الغيوب، ويعلم ماذا قال عيسى عليه السلام ولكن هو جاء بها بصيغة السؤال هنا. الآيات تتكلم عن ‏عقود آيات سورة المائدة، آيات سورة المائدة تتكلم كذلك عن مناظرات ممكن أن تكون مع اليهود ومع النصارى، قضية ‏التحقق والتأكد والسؤال عنصر مهم جداً في قضايا العهود والوفاء بها والالتزام بها، عنصر مهم في قضية الشهادة التي ‏ذكرها القرآن قبل قليل، أدب قرآني مهم جداً لا بد أن نتعلمه. عشرات، مئات، أكثر من مشاكلنا الأسرية والاجتماعية ‏تحدث نتيجة لأخذ الأخبار دون التحقق منها، ليس هناك عملية تحقق كما جاء في سورة النور على سبيل المثال، يقول الله ‏سبحانه وتعالى عن قضية الإفك ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ الإنسان لا يتلقى باللسان، الإنسان يسمع بالأذن، ولكن لتأكيد هذا المعنى العظيم أن الناس حين سمعوا هذه القضية ما أعطوا لأنفسهم فرصة الاستماع، ولا التحقق ولا التأكد مباشرة تلقوه وعلى اللسان مباشرة بالنشر والإشاعة، أخطر شيء! وهي ظاهرة خطيرة جداً تهدّ قيم العقود والالتزامات والعلاقات ‏البشرية، لا تستقيم العلاقات البشرية بهذا النهج دون نهج التحقق!

وتدبروا معي حتى في نهاية الآيات ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ليعطي هذا المعنى في هذه القضية، الله رقيب، رقيب على الكلمات التي نسمعها، رقيب على الكلمات التي نتلفظ بها، شهيد على كل شيء، وتدبروا كم مرة ذكرت قضية الشهادة، كما ذكرنا التناسب بين قضية العقود والشهادة، والوفاء ‏بالالتزامات والعقود والمواثيق وأن الله هو الشهيد عليها، كل العقود كل الالتزامات مكتوبة غير مكتوبة مسموعة غير ‏مسموعة كلها الذي يشهد عليها هو الله سبحانه وتعالى ﴿وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ قاعدة عامة.‏

تدبروا معي! ولماذا ذكر هذه القضية المتعلقة بعيسى عليه السلام في نهايات سورة المائدة وأوائل سورة المائدة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ‏آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؟ نموذج، عيسى عليه السلام كنبي، كرسول، هو أنموذج لإنسان وفّى بالعقد وبالميثاق مع الله سبحانه وتعالى، صدق مع الله عز ‏وجل، ولا يضره أن قومه وأتباعه لم يصدقوا في اتباع رسالته، وفي إيصال رسالته على النحو الذي بلّغه، وهي لفتة رائعة ‏وتناسب دقيق مع تلك الآية ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ عيسى عليه السلام نبي، نبي من الأنبياء الذين لهم هذه المكانة العظيمة ولكنه ظلم من قبل أتباعه بأنهم حرّفوا منهجه ‏وحرفوا رسالته، وافتروا عليه الكذب، افتروا الكذب عليه، أشكال من الكذب، إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة. ولكن ‏هل يحاسب عيسى عليه السلام على ما اقترفوه؟ لا، عليك أن تلتزم بالعقد وتوفّي بالعقد الذي بينك وبين الله عز وجل، ولا ‏تضرك ماذا تكون النتيجة بالنسبة للآخرين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ثم قصة عيسى عليه السلام، ثم تدبروا في الآية في التي تليها ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾.

الوفاء بالعقود هو أعلى مراتب الصدق، الوفاء بالعقود، والوفاء بالعقد والميثاق بيننا وبين الله عز وجل أعلى درجات ‏الصدق ﴿من المؤمنينَ رجالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ الوفاء بالعقود يحتاج إلى الصدق. تدبروا التناسق بين أول السورة وآخر السورة، لا يمكن أن يتحقق الوفاء بالعقد دون أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه ‏صادقاً مع ربه، صادقاً مع الآخرين حين يلتزم‏ بالعقد. ولذلك على سبيل المثال عشرات الأشياء عشرات العقود طرفي ‏العقد على الأكثر قد لا يعرف الواحد منهم نيّة الآخر النية خفية عن الآخر، الذي يشهد ويعرف الله سبحانه وتعالى فعليك أن تكون صادقاً، فإذا ‏كنت وأنت تكتب العقد لديك شك أنك يمكن ألا توفي بذلك العقد عليك أن تكون صادقاً ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ ‏الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.‏

وتدبروا ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تدبروا معي ونتذكر سوية حين قلنا في بداية السورة أننا في العقود مع الله عز وجل بيننا وبينه عقد اتفاق قائم على مبدأ ‏التسخير، المالك هو الله سبحانه، كل ما في الكون وكل ما أعطانا في أنفسنا، وكل ما آتانا ليبلونا فيما آتانا إنما آتانا إياه على ‏وجه الانتفاع، أما من هو المالك الحقيقي؟ فهو سبحانه فقط المالك الحقيقي والذي هو على كل شيء قدير.‏

تدبروا معي في هذه المعاني. سورة المائدة سورة تبني في نفس الإنسان الالتزام بالعقد، وقلنا هي من أواخر ما نزل، حتى ‏تبين أن تلك الرسالة التي نحملها هذه الرسالة رسالة القرآن هي أعظم عقد بيننا وبين الله سبحانه وتعالى، ونحتاج إلى وقفة ‏ونحن ننهي هذه السورة العظيمة أن نسأل أنفسنا: هل صدقنا في تلقي تلك الرسالة؟ هل صدقنا في تمثّل قيم هذه الرسالة؟ ‏أوامر الرسالة، نواهي الرسالة، عقود الرسالة، رسالة القرآن؟ لأننا سنُسأل، للرب عز وجل يسأل الصادقين عن صدقهم، فإذا كان هو سبحانه يسأل الصادقين فما بالك بغير الصادقين؟! نحن مساءلون. وإذا ربي عز وجل سأل عيسى عليه السلام وهو به ‏أعلم، فكيف لا يسألنا نحن؟! نحن بحاجة إلى هذه الوقفة، بحاجة إلى قياس مدى الصدق في حياتنا، مدى صدقنا في التعامل مع ‏الله سبحانه وتعالى، مدى الصدق الذي نحمله في العقد والميثاق بيننا وبين الله سبحانه وتعالى.‏

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الصادقين.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *