دراسة تحليلية في عالمية الخطاب القرآني في سورة المائدة
AL-QANATIR INTERNATIONAL JOURNAL OF ISLAMIC STUDIES eISSN: 2289-9944 Vol. 24. No. 2. (2021)
ANALYTICAL STUDY OF UNIVERSALITY OF QURANIC DISCOURSE IN SURAT AL- MA'IDAH
دراسة تحليلية في عالمية الخطاب القرآني في سورة المائدة
Ruqaia Taha Alalwani
Abstract This paper examines some aspects that illustrate the universality of the Qur'an's discourse, which has been confirmed by many explicit Qur'anic verses, both directly and indirectly. The message of the Qur'an is not exclusive to a particular society. It is directed to all people, regardless of their race or color. The paper presents the universal teachings in surat al-Maiedah, which is one of the latest chapters revealed to the prophet (PBUH). The significance of this comes from the fact that many scholars focus on the Meccan surahs when they address the universality of the Quran, more than the surahs revealed in Madina. However, the study showed that Surat al-Ma'idah, which dealt with rulings about Halal and Haram, came with universal purposes of preserving human dignity. The study employed the analytical inductive approach with examples presented from Surat al-Ma'idah. The study emphasizes the need to focus on highlighting aspects of the universality of Qur'anic message, especially in Surahs revealed in Madina.
Keywords: Universality, Qur'an, Discourse, Islamic, Teachings.
ملخص البحث تتناول هذه الورقة بعض الجوانب التي توضّح عالمية الخطاب القرآني الكريم، التي أكدتها العديد من الآيات القرآنية الصريحة، سواء ما جاء من خلال نداءات صريحة وجهت للناس أو ما جاء بشكل غير مباشر. فرسالة القرآن لا ينفرد بها مجتمع بعينه ، بل هي رسالة تخص الناس على اختلاف أعراقهم وألوانهم وتعرض الورقة عالمية بعض التشريعات والتعاليم والآداب التي جاءت بها سورة المائدة العظيمة التي هي من أواخر السور نزولاً. وتبرز أهمية تناول هذا الجانب باعتبار أن غالب من تناول الحديث عن عالمية رسالة القرآن جاء تركيزهم على السور المكية أكثر من المدنية، إذ أن السور المدنية وجهت خطاباتها ونداءاتها للمؤمنين. إلا أن الدراسة أوضحت أن سورة المائدة التي جمعت فروع الشرائع من التحليل والتحريم والأمر والنهي، جاءت بمقاصد عالمية تحقق الحفاظ على كرامة الإنسان وضمان عيشه في ظل أجواء السلام والاستقرار، تؤهلها لتكون من أبرز السور الدالة على عالمية الرسالة القرآنية. وقد وظفت الدراسة
مقدمة
تعد عالمية خطاب القرآن من أعظم السمات والمبادئ التي أكدها القرآن وهي أصل من أصوله ومبدأ عظيم في الدعوة إليه في مختلف العصور وخاصة في الوقت الراهن. وقد حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالته خارج الجزيرة العربية من خلال رسائله للملوك والأمراء لعالمية دعوته. وقد نالت هذه القضية حظا كبيرًا من الاهتمام من قبل العلماء والمفكرين والباحثين عبر العصور، إلا أن الكثير منهم تناولوا الواردة في السور المكية لبيان أن عالمية القرآن مبدأ أصيل في الدعوة ولم يظهر نتيجة لتطور الجماعة الإسلامية بعد انتقالها إلى المدينة كما زعم بعض المستشرقين وغيرهم. من هنا تأتي هذه الورقة لتسليط الضوء على جانب آخر في عالمية رسالة القرآن من خلال التركيز على بعض آيات سورة المائدة المدنية التي هي من أواخر ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام. إذ أن التشريعات والأحكام التي وردت فيها - وإن كان النداء فيها بدأ بالذين آمنوا إلا أن القيم والمقاصد التي قامت عليها عالمية.
وتدعو الدراسة الباحثين والمفكرين إلى الاهتمام بإبراز عالمية هذه التشريعات والأحكام وبيان حاجة العالم المعاصر إلى تبنيها وتطبيقها في ظل مختلف الظروف الراهنة. الأمر الذي يعد من أهم وسائل الدعوة المعاصرة.
أولا : عالمية الخطاب القرآني – التأصيل والتطبيق
تظهر حقيقة عالمية خطاب القرآن منذ نزوله للبشر، منبثقة من أصوله الأساسية. فقد نزلت أول سورة فيه (سورة العلق) توضّح أصل خلقة الإنسان بقطع النظر عن جنسه أو لونه أو عرقه - كما يلحظ المتتبع لآيات القرآن الكريم ما يقارب ٦٥ آية ورد فيها لفظ (الإنسان) مخاطبة الجنس الإنساني، وليست خاصة بقوم أو شعب بعينه.
كما جاء الخطاب العالمي للناس بقوله جل شأنه: يا أيها الناس في عشرين موضعا في كتاب الله الكريم. منها على سبيل المثال : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (القرآن. البقرة : (۲۲) وكذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ : إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (القرآن. البقرة: ١٦٨).
كما جاء الخطاب الصريح بقوله سبحانه: يا بني آدم في خمسة مواضع أخرى أربع منها في سورة الأعراف ٢٦، ٢٧ ، ٣١،٣٥، والخامسة في سورة يس ٦٠ ، الأمر الذي يوضّح عموم الخطاب القرآني للناس جميعاً.
ومن الآيات القرآنية الدالة على عالميته، قوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً (القرآن. الفرقان : (۱) وقوله تعالى : وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً (القرآن. الإسراء: ١٠٦).
وفي جميع هذه الآيات المذكورة وغيرها كثير جاء الخطاب عامًا في موضوعات عامة للناس تخصهم جميعا. إلا أنه من الملاحظ أن الآيات التي جاء فيها النداء بيا (أيها الناس)، جاءت فيها الأموامر عامة كعبادة الله والأكل الحلال وفي سياق الإعداد والتحذير من زلزلة الساعة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (القرآن. الحج: (١).
والتحذير من وعد الله والاغترار بالدنيا كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (القرآن. فاطر: ٥). كما جاء تأكيد صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنها إلى الناس جميعا : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً (القرآن. الأعراف : ١٥٨). ولم يأت الخطاب بحكم شرعي أو تفاصيل تتعلق بالعبادات.
إلا أن هذه الدراسة تذهب إلى الآيات التي جاءت تقدّم عالمية رسالة القرآن وتعاليمه ليس من خلال الخطاب الصريح الموجّه مباشرة إلى الناس فحسب، وإنما من خلال التعاليم والخطابات التي كان النداء فيها إلى المؤمنين وفي سور قرآنية نزلت بالمدينة كسورة المائدة التي تقف الدراسة على عالمية الرسالة من خلال تعاليمها.
الأمر الذي يوضح أهمية هذه الدراسة ودعوة الباحثين إلى الاهتمام بعرض هذه التعاليم العالمية وإن كان النداء الوارد فيها للمؤمنين. ذاك أن العديد من هذه التعاليم هي من جملة ما تصلت البشرية إلى أهمية احترامه والعناية به عبر عصورها.
كما أن عالمية القرآن الكريم تقوم على أسس منها : أن آيات القرآن نزلت تخاطب جميع البشر ومن أجل ذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الرسل والكتب للملوك والأمراء يعرض عليهم تعاليم الإسلام.
وقد ظهر ذلك جليا تطبيق هذه العالمية للقرآن الكريم ونتج عن ذلك قيام حضارة إسلامية عظيمة، شارك في صناعتها مختلف شعوب العالم وأجناسه.
ثانيا : سورة المائدة وعلاقتها بإبراز عالمية الرسالة القرآنية
سورة المائدة سورة مدنية، وهي أجمع سورة في القرآن لفروع الشرائع من التحليل والتحريم والأمر والنهي. وهي من أواخر ما نزل من القرآن، نزلت بعد سورة الفتح - أي بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة. وعلى هذا خلت السورة من الحديث عن القتال والمشركين ومكائدهم وغير ذلك من أشكال الصراع الذي كان دائرًا قبل ذلك، ووقفت عليه السور السابقة لها. وركزت السورة في موضوعاتها على جوانب تشريعية دقيقة، وتضمنت السورة آخر ما نزل من القرآن تلك الآية الناطقة باكتمال التشريع وتمام النعمة بكمال هذا الدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمِ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (القرآن. المائدة: (٣).
ومما يلفت النظر أن سورة المائدة تنفرد بجملة من الظواهر من أبرزها أنها لم تتحدث عن الشرك، ولا عن المشركين على النحو الذي ألف في القرآن من محاجتهم، وتسفيه أحلامهم، وتحقير شركائهم – وأنها لم تعرض، في قليل ولا في كثير، لما عهد في أكثر السور المدنية التي نزلت قبلها من الحث على القتال. من هنا فإن آيات سورة المائدة تشكل الوصايا العظيمة التي حرص واهتم القرآن بتأكيدها، وعلى رأسها؛ الوفاء بالمواثيق والعقود. من هنا عُرفت السورة بأنها سورة العقود والمواثيق . من هنا جاء الأمر بالوفاء بالعقود منذ أول آية فيها.
واألمر ابلعقد فيها يذّكر اإلنسان ابلعقد األول بينه وبني خالقه سبحانه وتعاىل. ذلك العقد الذي أصبح اإلنسان مبوجبه مؤهاال للقيام مبهمة اخلالفة على األرض.كما أن األمر ابلوفاء ابلعقود جاء بعدكافة الأوامر اليت فرضها هللا على عبادة يف يف السور قبلها -سورة النساء وآل عمران والبقرة ويف الفاحتة- رغم ما بينها من الفوارق الزمنية.
وح ّث اإلنسان املؤمن على االلتزام ابلعقود والوفاء هبا، من أهم القواعد يف التعامالت املختلفة اليت جتعل من هذا املبدأ القومي من أعظم ركائز عاملية الرسالة القرآنية. فكل تلك االلتزامات إمنا هي عقود جيب الوفاء هبا.
من هنا جاء يف بداية السورة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ...﴾ )القرآن. املائدة: 1( وجاء ن يف آخر السورة: ﴿ لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ . )القرآن. املائدة: ني 120(. أنكل شيء يف هذا الكون أنكل شيء يف هذا الكون سماء، أرض، أنعام، طيور، أشكال املنافع اليت ينتفع هبا اإلنسان؛ ملك حقيقي هلل سبحانه وتعاىل ال يشاركه يف ذلك امللك أحند على اإلطالق.
ّل ما يف هذا الكون لإلنسان لالنتفاع به واستعماله فيما يصلح األرض وج ّ ر هللا عز ّ فقد سخح ويُعمرها. فاهلل سبحانه وتعاىل هيأ للناس كافة وسائل االنتفاع بتلك األشياء اليت سخرها هلم وفق املنهج الذي أنزله هلم متمثالا يف القرآن الكرمي.
فاملالك احلقيقي هو هللا سبحانه وهو الذي له حق التشريع إلدارة هذا الكون وما فيه من منافع. فاهلل سبحانه أعطى للإنسان حق االنتفاع وفق املنهج الراب ولذلك جاءت اآلية: ﴿ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ (القرآن. املائدة: 1(.
وآايت سورة املائدة تكلمتثريا عن احلكم مبا أنزل هللا ابعتبار أنه سبحانه املالك احلقيقي للكون اإلنسان وما فيه وهو من حيق له التشريع يف التصرف يف هذا الكون : ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (القرآن. املائدة : 41(. وكذلك قوله تعاىل: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وان قوله تعاىل: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ )القرآن. املائدة: 4٧(. ألن قضية احلكم والتشريع هي حق خالص للمالك وليس للمملوك العاجز.
ة ّ وعلى الرغم منكثرة النداءات املوجهب: »اي أيها الذين آمنوا«، اليت وردت يف سورة املائدة ست عشرة مرة، إال أن الغالب على هذه النداءات أهنا جاءت يف سياق احلديث عن العقود ومنها ما يكون بني اإلنسان وبني األرض والبيئة اليت يعيش فيها وينتفع هبا. فكل شيء يف هذا الكون سماء، أرض، أنعام، طيور.
ثالثا: حماية البيئة وأثرها في عالمية الرسالة القرآنية
تعد سورة المائدة من السور التي تناولت موضوع البيئة بكل مكوناتها من طبيعة ومكان.
وقد جاءت الآية الثانية في سورة المائدة ثم قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ (القرآن. المائدة: ٢).
فالتعامل مع الأماكن والأراضي في تلك البقعة الطاهرة ذات المكانة الخاصة القدسية عند المسلمين يتم وفق نظام منضبط بقانون التسخير الذي جاء ذكره في كتاب الله عز وجل في أكثر من موضع وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ . وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (القرآن. الحجر : ۱۹-۲۱).
وما ذلك إلا جانب من جوانب المحافظة على التوازن في الكون الذي أكده القرآن العظيم في أكثر من موضع . كل شيء في الكون خُلق بتوازن وهذه من قدرة الله سبحانه وتعالى كل شيء فيه توازن، عدد ساعات الليل، عدد قطرات المطر، كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى بقدر وخلقه بشكل موزون وعنده خزائنه سبحانه في كل شيء. وقضية التوازن من أعظم المجالات التي يمكن من خلالها مخاطبة العالم وإبراز عالمية رسالة القرآن. فعلماء الكون الأخصائيين في علوم الكيمياء والنبات قد أثبتوا أن العناصر التي يتكون منها النبات مؤلفة من مقادير معينة في كل نوع من أنواعه بدقة غريبة لا يمكن ضبطها إلا بأدق الموازين المقدرة من أعشار الغرام والمليغرام، وكذلك نسبة بعضها إلى بعض في كل نبات.
فدور الإنسان المستخلف الذي جعله الله خليفة على هذه الأرض هو أن يسير ضمن ذلك التوازن، النظام المتوازن، يحافظ على التوازن في أثناء تعامله مع تلك الأشياء أو المسخّرات سواء كانت زمانًا أو مكانًا أو موجودات وكائنات.
فإن لم يسر ذلك الإنسان الخليفة وفق ما بينه الله سبحانه وتعالى له في المنهج في كتابه فإن الخلل سيحدث، ويبدأ النظام يضطرب، ويختل نظام التوازن، فإذا حدث ذلك حدثت عشرات الكوارث الطبيعية.
والإنسانية التي تحدث في زماننا هذا. من هنا فإن إبراز هذه العناصر في رسالة القرآن والتعاون مع الجهات المختصة بحماية البيئة والدراسات المتعللقة بالكون والحفاظ عليه، تعد من أبرز المجالات التي يمكن مخاطبة العالم من خلالها برسالة القرآن كما أن حثّ الباحثين في مجالات الدراسات القرآنية على التكامل في إنشاء دراسات علمية يقوم بها أهل الاختصاص للكشف عن أوجه التوازن وضوابطه من خلال تلمس ذلك واستنباطه من تعاليم القرآن، يمكن أن يسهم بشكل كبير في السير خطوات نحو تحقيق الهدف، مع التسليم بأن القرآن الكريم ليس كتاب علوم أرض أو غيرها إلا أن ذلك لا يمنع من الإفادة من الآيات الكريمة التي تناولت جوانب مختلفة لعرض هذا التوازن وتفعيله.
وما يشهده العالم من فوضى في هذه المجالات ما هي إلا أعراضًا لعدم السير وفق المنهج المتوازن والقواعد المنضبطة التي جاء بها في كتاب الله عز وجل.
ولعل واحدة من أعظم تلك القوانين والسنن الحاكمة في كتاب الله المنظمة للتوازن وتحقيقه؛ ما جاء في الآية الثانية من سورة المائدة : ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا (القرآن المائدة: (۲) فالآية هنا ليست للحديث عن الاعتداء من قبيل تحريم أن يعين بعضهم بعضا على العدوان فحسب كما أوضحه الرازي وغيره من المفسرين رحمهم الله بل هي من المفردات الأساسية الشمولية في السورة وفي كتاب الله عامة التي تنهى عن كل أشكال التجاوز التي تؤدي إلى الإخلال بالتوازن في أي صورة من الصور. ولذلك قال تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ» حتى البغض والكراهية التي قد تكون مبررة في بعض الأحيان «أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» ليست بمسوغ للاعتداء والتجاوز.
فكل أشكال الانتفاع والتصرف في الحياة لابد من التصرف فيها بالبر والخير وليس بالاعتداء والتجاوز. ويشمل ذلك مختلف أشكال التجاوزات المتعلقة بالبيئة النباتية والحيوانية وغيرهما كثير .
فضابط هذا التعاون وشرطه، وهو أن يكون على أمر مشروع من خير وبر، لا على شيء ممنوع من فساد وشر. ومدار الأمر إنما هو على موضوع المشاركة والمعاونة لا إلى المتعاون معه.
فكل من التمس المعاونة على محبوب الله تعالى مرض له أجيب إلى ذلك كائنا من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس وهي أصل لمرحلة الوفاء، وحتى لو اقتضى ذلك الأمر أن يكون حين يحدث اعتداء فلا بد لجماعة الإنسان أن يتعاونوا لأجل إعادة الأمور إلى نصابها من البر والتقوى، وألا يكون التعاون والتكتل والتجمع على الإثم والعدوان. ولذلك ما يحصل اليوم من تجاوزات ومن اعتداء على البيئة والموارد البشرية وعلى الأرض وعلى المسحرات وعلى الحيوان وعلى الماء هذه لا بد أن يكون لأجلها تجمعات إنسانية حقيقية تأخذ على المعتدي
الآثم لتضع الأمور في نصابها، ويبقى الجنس الإنساني وفيًّا بعقده والتزامه في الانتفاع بهذه المقدرات الموجودة في هذا الكون.
وهذه المسألة من الأمور ذات الأهمية الكبرى لدى كثيرين من عقلاء وقادة الأمم والشعوب المعاصرة؛ الذين أدركوا خطورة ما يتعرض له العالم من آثار التلوث وسوء استخدام الموارد الطبيعية والتعامل غير المتوازن مع الكون والبيئة مما ينذر بكوارث عدة ليس أخطرها التغيرات المناخية القاسية.
وقد عبر الأمير تشارلز قبل أعوام مضت عن طبيعة القلق المتزايد في الغرب بشأن تلك الأوضاع حيث قال:
"إن المادية المعاصرة أحدثت خللاً مروعاً في حياة الفرد والمجتمع لأنها مادية فقدت عنصر التوازن الضروري لحياة سوية متناسقة متكاملة. ولقد بدأنا نحن أبناء العالم الغربي نشعر بأننا قد فقدنا الإحساس الكلي بالكون والبيئة وبمسؤوليتنا الشاملة إزاء الخلق. ويمكن لنا نحن أبناء الغرب من أجل إعادة اكتشاف الفهم الأصيل لوجودنا ومهمتنا أن نلتمس العون على ذلك من التراث الإسلامي المشبع بالنظرة الكلية الأصيلة إلى الكون والإنسان، كما يمكن الاستفادة من هذا التراث في تحسين نظرتنا نحو الأفضل في الخلافة العلمية للإنسان.. ولا شك أن انفصال العلم والتكنولوجيا عن القيم والموازين الأخلاقية قد بلغ حداً مروعاً مفزعاً ... إلى أن يقول: إن رسالة الإسلام مهمة للغرب فهي أكثر تكاملا وتوحيدا للعالم".
ولعلّ هذه القضية الشائكة من أكثر القضايا التي تبرز فيها عالمية أحكام التشريع الإسلامي المودعة في سورة المائدة تحديدا اليوم الأمر الذي يستدعي المزيد من الدراسات حول ذلك.
رابعا : عالمية النداء في سورة المائدة وعلاقتها بعالمية الرسالة القرآنية
يلحظ المتدبّر في سورة المائدة تعدد النداءات التي يوجهها القرآن الكريم لأهل الكتاب، داعيا لهم إلى إقامة ما جاء فيها من إرساء لقيم العدل والرحمة وغيرها. الأمر الذي يؤكد أهمية إبراز هذه النداءات من قبل المسلمين وإيصالها بآليات ووسائل متنوعة.
يقول الله تعالى في سورة المائدة : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (القرآن. المائدة: ١٥).
وتدل مخاطبة القرآن لأهل الكتاب وتوجيه الخطاب المباشر لهم على عالمية رسالة القرآن الذي لم يفرق بين قوم موسى وقوم عيسى فهو الرسالة التي ختم الله بها كل الرسالات السماوية.
الخاتمة
تناولت هذه الورقة بعض الجوانب التي توضّح عالمية رسالة القرآن الكريم التي هي مبدأ أصيل وقاعدة عظيمة منبثقة من أصول الرسالة التي جاء بها النبي الكريم للعالمين. ولئن ركزت العديد من الدراسات على عرض النداءات والآيات التي جاءت بصيغة مباشرة موجهة للناي والعالمين، فإن هذه الورقة جاءت تركز على الآيات الواردة في سورة المائدة المدنية في نداءات بدئت بخطاب يا أيها الذين آمنوا . وقد أوضحت الدراسة أن سورة المائدة التي جمعت فروع الشرائع من التحليل والتحريم والأمر والنهي، جاءت بمقاصد عالمية تحقق الحفاظ على كرامة الإنسان وضمان عيشه في ظل أجواء السلام والاستقرار، الأمر الذي يبين أن هذه السورة بآياتها التي هي من أواخر ما نزل على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من أبرز السور الدالة على عالمية الرسالة القرآنية.
وقد وظفت الدراسة المنهج الاستقرائي التحليلي وساقت العديد من الأمثلة التطبيقية الموضحة لعالمية التشريعات الواردة في سورة المائدة ومدى الحاجة الملحة إليها في الوقت الراهن. وتدعو الدراسة الباحثين إلى ضرورة اهتمام الباحثين بإبراز جوانب عالمية الرسالة القرآنية من خلال تسليط الضوء على السور المدنية خاصة التي اهتمت بالتشريعات والأحكام والآداب لإبراز القيم العالمية والمقاصد السامية التي دعت إليها هذه التشريعات من تناول الحلال الطيب إلى الحفاظ على البيئة إلى إقامة العدالة الاجتماعية وغيرها.
المراجع
البغوي، الحسين بن مسعود. ۲۰۱۲. تفسير البغوي معالم التنزيل. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
الجندي، أنور. ١٩٨٤ . عالمية الإسلام. مصر: دار المعارف.
الجوزية، ابن قيم. ۲۰۰۹. زاد المعاد في هدي خير العباد. بيروت: مؤسسة الرسالة.
دروزة، محمد عزة. ٢٠٠٠. التفسير الحديث. بيروت: دار الغرب الإسلامي.
الرازي، فخر الدين. ۱۹۸۱. التفسير الكبير. بيروت: دار الفكر.
رضا، محمد رشيد. ١٩٤٧. تفسير المنار. بيروت: دار الكتب العلمية.
ضيف، شوقي. ۱۹۷۸ . عالمية الإسلام، مصر: دار المعارف.
العلواني، رقية طه. ٢٠١٦. دراسات في الثقافة الإسلامية (باللغة الإنجليزية)، البحرين: مطبعة جامعة البحرين
الكتاني، يوسف الحوار بين المسلمين والغرب وآفاقه المستقبلية من الموقع الإلكتروني : :https
النجار، عبدالمجيد. ۱۹۸۹. في فقه التدين فهما وتنزيلا ، كتاب الأمة. قطر : رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية.