د.رقية العلواني

جميع البحوث

تزكية النفس في القرآن الكريم - دراسة تحليلية لخصوصية الدور النبوي في تأصيلها وتطبيقها

تزكية النفس في القرآن الكريم: دراسة تحليلية لخصوصية الدور النبوي في تأصيلها وتطبيقها

د. زينب طه العلواني، أ.د. رقية طه العلواني

1 جامعة هاوورد، الولايات المتحدة الأمريكية.

2 جامعة البحرين، البحرين

المستخلص

يتناول هذا البحث مفهوم التزكية في القرآن الكريم، مع إبراز خصوصية دور النبي محمد ﷺ في تأصيله وتطبيقه. وتبرز أهمية ذلك الدور من خلال النص عليه ضمن المهام الرئيسة للرسول ﷺ في آيات البقرة (129، 151)، آل عمران (164)، والجمعة (2). واعتمد البحث منهجية علمية متكاملة تجمع بين المنهج الاستقرائي، والتحليلي في دراسة دلالات النصوص، والنقدي والمقارن لبيان خصوصية التزكية النبوية. كما قدم البحث تأصيلاً لغوياً وقرآنيا لمفهوم التزكية، وأظهر خصوصية منهج النبي ﷺ في التزكية من خلال سمات فريدة، أبرزها الشمولية والتكامل التوازن والاعتدال بين مطالب الروح والجسد، العالمية والقابلية للتكيف مع مختلف البيئات، والتطبيق العملي من خلال القدوة النبوية. كما استعرض البحث بعض الوسائل المتنوعة لهذا المنهج كتصحيح العقيدة، والعبادات المفروضة، والأمر بالمعروف وخلصت الدراسة إلى استمرارية التزكية النبوية في الأمة وتحققها من خلال منظومة متكاملة من الآليات المنهجية وتجلياتها في النسيج الحضاري للأمة، متجسدة في المنظومة المتكاملة لتلاوة القرآن الكريم وتدبره، واستيعاب السنة النبوية وتفعيلها، والتأسي بهديه ﷺ في منهجية التزكية والتعليم، مما يؤكد استمرارية الأثر التزكوي النبوي في بناء الشخصية المسلمة، كما إن المنهج النبوي يتميز بخصائص تجعله صالحاً للتطبيق في كل زمان ومكان، وقدم البحث توصيات علمية وعملية، أهمها: إجراء دراسات تطبيقية معمقة حول تفعيل منهج التزكية النبوية في المجتمعات المعاصرة، وتطوير مناهج تعليمية متكاملة للتزكية تناسب المراحل العمرية المختلفة.

الكلمات المفتاحية: التزكية، القرآن الكريم، السنة النبوية، التربية الإسلامية، المنهج النبوي.

المقدمة

يشكل موضوع التزكية محوراً رئيساً في القرآن الكريم، إذ يمثل مقصداً أساسياً من مقاصد البعثة النبوية وغاياتها السامية. وقد تجلى هذا المقصد في الآيات القرآنية التي تحدد المهام الرئيسة للرسول محمد ﷺ، حيث تكررت الإشارة إلى التزكية في أربع آيات محورية في سور البقرة وآل عمران والجمعة، مما يؤكد مركزية هذا المفهوم في الرسالة المحمدية.

وتبرز خصوصية النبي محمد ﷺ في التزكية من خلال تفرده بمنهج متكامل يجمع بين التطهير والتنمية، وبين الفرد والمجتمع، وبين النظرية والتطبيق. فقد استطاع ﷺ أن يقدم نموذجاً فريداً في تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق، تجاوز حدود الزمان والمكان، وأثبت فاعليته في بناء الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي عبر العصور.

ويكتسب هذا البحث أهمية خاصة في عصرنا الحاضر، حيث تتعرض المجتمعات الإنسانية لأزمات أخلاقية وروحية متلاحقة، نتيجة طغيان النزعة المادية وتراجع القيم الروحية والأخلاقية. الأمر الذي أدى إلى ظهور اتجاهات متعددة تدعي تزكية النفس بعيداً عن المنهج النبوي الأصيل، مستغلة حاجة الإنسان المعاصر الملحة للغذاء الروحي. وهنا تبرز الحاجة الماسة إلى إعادة اكتشاف المنهج النبوي في التزكية من خلال تدبر آيات القرآن التي نصت بشكل مباشر على دوره ﷺ واستمراريته من خلال الآليات المنهجية التي كشفت عنها الدراسة، التي تضمن التوازن بين متطلبات الروح واحتياجات الحياة المعاصرة، وتفعيله في الواقع المعاصر.

إشكالية البحث

تتمحور إشكالية البحث حول سؤال مركزي: ما خصوصية الدور النبوي في تأصيل مفهوم التزكية وتطبيقه؟ ويتفرع عن هذا السؤال المركزي أربعة أسئلة رئيسة:

  1. ما المفهوم القرآني الشامل للتزكية وما أبعاده المختلفة؟

  2. ما أوجه تميز منهج النبي محمد ﷺ في التزكية مقارنة بمناهج الأنبياء السابقين؟

  3. كيف طبق النبي ﷺ منهج التزكية عملياً في بناء الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي؟

  4. ما الآليات التي توضح استمرار أثر التزكية النبوية بعد وفاته ﷺ؟

أهمية الدراسة

تكتسب هذه الدراسة أهميتها من عدة اعتبارات:

  1. التأصيل العلمي الدقيق لمفهوم التزكية في القرآن الكريم، وتمييزه عن المفاهيم المشابهة، مما يسهم في تصحيح الفهم المغلوط لهذا المفهوم المحوري.

  2. الكشف عن الخصائص الفريدة للمنهج النبوي في التزكية، وإبراز تكامله وشموله وقدرته على معالجة قضايا النفس البشرية في مختلف الظروف والأحوال.

  3. استخلاص المنهجية العملية التي اتبعها النبي ﷺ في التزكية؛ مما يقدم نموذجاً تطبيقياً يمكن الاستفادة منه في واقعنا المعاصر.

منهجية البحث

استند البحث إلى منهجية علمية متكاملة تجمع بين ثلاثة مناهج رئيسة:

  1. المنهج الاستقرائي: تم توظيفه في تتبع النصوص القرآنية والأحاديث النبوية المؤسسة لمفهوم التزكية وجمع المادة العلمية من مصادرها الأصيلة.

  2. المنهج التحليلي: مكن من دراسة هذه النصوص وتحليل دلالاتها وأبعادها المختلفة والكشف عن العلاقات المنهجية بين مفاهيمها المتعددة.

  3. المنهج النقدي: أتاح تقويم الدراسات السابقة في مجال التزكية وتحليل نتائجها واستخلاص التوصيات العملية المناسبة للواقع المعاصر.

كما اعتمد البحث على المنهج الاستنباطي في استخلاص معالم الدور النبوي التزكوي الذي أسسه القرآن الكريم وأكده في مواضع متعددة، مما ساعد في بلورة تصور متكامل لآليات التزكية وأبعادها. وقد أسهم هذا التكامل المنهجي في تقديم رؤية شمولية لموضوع التزكية وآلياتها المنهجية.

الدراسات السابقة

تعد تزكية النفس من أهم مقاصد البعثة النبوية الشريفة، حيث أشار القرآن الكريم إلى هذا المقصد العظيم في عدة آيات. من هنا يوجد عدد من الدراسات التي تناولت هذا الجانب من زوايا مختلفة:

  1. تزكية النفس من خلال نصوص القرآن والسنة) (محمد، 2020) دراسة تناولت موضوع تزكية النفس بشكل مباشر استناداً إلى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية. تناولت الدراسة مفهوم تزكية النفس من منظور القرآن والسنة النبوية، وأوضحت أن رسالة الإسلام رسالة علم وبناء وحضارة، وأن حملة الرسالة هم خير أمة أخرجت للناس. كما بينت الدراسة أهداف تزكية النفس وأثرها في تهذيب الأخلاق وإصلاح المجتمع.

  2. "الأسس العقدية والعلمية في تزكية النفس" دراسة أكاديمية (سمر، 2023) تهدف إلى توضيح الأسس العقدية والعلمية التي تقوم عليها تزكية النفس في الإسلام. قسمت الباحثة دراستها إلى خمسة مباحث رئيسية: تعريف تزكية النفوس، أهمية التزكية، الأسس العقدية في تزكية النفس، الأسس العلمية في تزكية النفس، وثمرات تزكية النفس في المنهج الإسلامي اعتمدت الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي المكتبي، وخلصت إلى أن ترسيخ الإيمان هو أقوى سبب لتزكية النفوس.

  3. "أساليب التزكية المستفادة من شرح الإمام ابن أبي جمرة لحديث بدء الوحي: دراسة تحليلية" بحث علمي قدم في مؤتمر حديثي، ونشر ضمن وقائع المؤتمر الذي نظمه معهد بحوث الحديث (INHAD) بالجامعة الإسلامية الدولية بكلية سيلانجور، ماليزيا. يهدف البحث إلى تسليط الضوء على أساليب تزكية النفس الواردة في حديث بدء الوحي عند الإمام ابن أبي جمرة، لكونه علماً بارزاً في شرح الحديث وفي جانب تزكية النفوس. تناول البحث (2018) الأساليب التي اتبعها جبريل عليه السلام في أول لقاء له مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكيفية الاستفادة من هذه الأساليب في تأصيل قواعد تزكية النفس وتربيتها.

  4. من مقاصد السيرة النبوية : تزكية النفوس نُشر هذا المقال على موقع الرابطة المحمدية للعلماء، ويتناول مقصداً أساسياً من مقاصد السيرة النبوية وهو تزكية النفوس. يستهل المقال (الرابطة المحمدية للعلماء، د.ت) بإيراد قول عميق لابن القيم يؤكد فيه أن تزكية النفوس هي مهمة أساسية لجميع الرسل، حيث بعثهم الله لهذا الغرض وأوكل إليهم هذه المهمة التي تتم من خلال الدعوة والتعليم والبيان والإرشاد، وليس من خلال الخلق المباشر أو الإلهام.

  5. "من جوامع الأدعية النبوية في تزكية النفوس هذا المقال (الشامي، 2017 ) يركز على دراسة الأدعية النبوية المتعلقة بتزكية النفس وتطهيرها، ويكشف عن أهمية هذه الأدعية في المنهج النبوي للتزكية.

  6. تزكية النفس في أدعية النبي صلى الله عليه وسلم نُشر هذا المقال على شبكة الألوكة الإلكترونية (2017) ويتناول موضوع دور الدعاء في إصلاح النفس وتزكيتها. يؤكد المقال أهمية الدعاء ودوره العظيم في إصلاح النفس البشرية وتهذيبها، ويبين كيف اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء وسيلة أساسية في تزكية نفسه وتعليم أصحابه.

  7. مقاصد القرآن في تزكية الإنسان (النجار، 2019) تميزت هذه الدراسة بتقديم رؤية تكاملية لمفهوم التزكية القرآنية، حيث اعتمد الباحث منهجية التحليل المقاصدي التي تجاوزت النظرة التقليدية المقتصرة على البعد الروحي الفردي. كشفت النتائج عن توازن دقيق بين الجوانب الروحية والمادية في عملية التزكية، مع تأكيد البعد الجماعي عبر آليات التعاون الاجتماعي.

  8. "النظر العقلي وأثره في تزكية النفوس (حوى، 2008 ) ناقشت هذه الدراسة العلاقة الجدلية بين التفكير العقلي والتربية الروحية. استندت إلى منهج نقدي تحليلي لكشف محدودية الاتجاهات الصوفية التي تفصل بين "الأذواق" الروحية والأدلة العقلية. أثبتت النتائج أن الإيمان الحق يقوم على فهم العقائد عبر البراهين العقلية، وأن الأخلاق الإسلامية ترتبط عضوياً بالمصالح الواقعية.

  9. "التوحيد والتزكية والعمران" تقدم هذه الدراسة (العلواني، 2012) مفهومًا تجديديًا للتزكية يربطها بمنظومة ثلاثية: والتزكية (كآلية أخلاقية)، والعمران (كغاية حضارية). تتحول التزكية هنا من مفهوم فردي ضيق إلى مشروع مجتمعي ديناميكي يشمل ثلاثة أبعاد :

  10. البعد الفردي : توازن بين الروح والمادة عبر العبادات والعلم الشرعي والمحاسبة الذاتية.

  11. البعد الاجتماعي : عدالة اقتصادية تُجسّد التكافل (كالمؤاخاة النبوية) وتُحارب الاستغلال (كتحريم الربا).

  12. البعد البيئي : استدامة تعكس الاستخلاف الإلهي عبر حماية الموارد.

التحليل النقدي للدراسات السابقة

تميزت الدراسات السابقة بتنوع منهجي ملحوظ، حيث جمعت بين التحليل النصي العميق في الدراسات التأصيلية والرصد الميداني الدقيق في الأبحاث التطبيقية. كما برزت محاولات جادة لسد الفجوة بين التنظير والتطبيق من خلال النماذج المقترحة، وقد أسهمت الدراسات المقارنة في وضع المفهوم الإسلامي ضمن سياقه الحضاري الأوسع.

إلا أنه على الرغم من الثراء النظري، ومن خلال التحليل النقدي للدراسات السابقة، تتضح فجوة بحثية رئيسية تتمثل في غياب دراسة منهجية شاملة تتناول الممارسة النبوية الفعلية للتزكية في سياقها التاريخي والاجتماعي، مع تحليل معمق لآلياتها وأدواتها وتطورها عبر مراحل الدعوة المختلفة. فقد غلب على الدراسات السابقة إما التوجه النظري المفاهيمي، أو التناول التجزيئي لجوانب محددة من التزكية النبوية، أو الاكتفاء بالاستقراء التجميعي للنصوص دون تحليل عميق للسياقات والممارسات.

من هنا يأتي هذا البحث للمساهمة في سد هذه الفجوة من خلال تقديم دراسة منهجية متكاملة للممارسة النبوية في مجال تزكية النفس، وتجاوز الثغرات السابقة عبر الجمع بين ثلاث دوائر معرفية: التأصيل الشرعي المستند إلى النصوص، وتحليل المنهج النبوي في التزكية واستمراره بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.

المبحث الأول: مفهوم التزكية في القرآن الكريم

أولاً : التأصيل اللغوي والاصطلاحي للتزكية

تعود مادة "زكو" في اللغة العربية إلى أصل يدل على النماء والزيادة والطهارة. يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: "الزاء والكاف والحرف المعتل أصل يدل على نماء وزيادة" (ابن فارس، 1979، ج3، ص17). وقد وردت مشتقات هذا الجذر في معاجم اللغة العربية بمعان متقاربة:

  1. النماء : كما في قولهم "زكا الزرع" إذا نما وازداد
  2. الطهارة : كما في "زكت النفس" إذا طهرت
  3. البركة : كما في "مال زاك" أي مبارك
  4. الصلاح : كما في "رجل زكي" أي صالح

كما تأتي تزكية النفس في اللغة بمعنى المديح والثناء عليها، وهذا النوع منهي عنه بدليل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (سورة النساء : 49). وقال في موضع آخر : ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ (سورة النجم : 32).

وهذا المعنى مأخوذ من زكى أي ارتفع وعلا، كما في زكا الزرع (طال ونما) من العلو، ومن هنا جاء المعنى يزكي نفسه أي يرفعها بمعنى يفخمها ويطريها ويثني عليها.

المعنى الاصطلاحي

تعددت تعريفات العلماء للتزكية اصطلاحاً:

لفظ (التزكية) نفسه يعبّر عن وصف ومنهج، فالتزكية في اللغة يدور معناها على أمرين، النماء والتطهير، أو كما يقال: التخلية والتحلية، فمن أراد تزكية نفسه حقًا، فعليه أن يجمع بين الأمرين معًا، تنمية النفس بطاعة الله، وفي نفس الوقت تطهيرها من المعاصي، بل إنّ التخلية تسبق التحلية؛ فالذي يريد أن يبني بناءً عاليًا على أرض ما، لا بد أن يطهر هذه الأرض أولا، ثم بعد ذلك يكون البناء على أرض صلبة راسخة، وهكذا تُبنى النفوس الزكية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأصل الزكاة الزيادة في الخير، ومنه يقال: زكا الزرع وزكا المال؛ إذا نما. ولن ينمو الخير إلا بترك الشر، كالزرع الذي لا يزكو حتى يُزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكو حتى يزال عنها ما يناقضها، ولا يكون الرجل متزكيا قد زُكِّي إلا مع ترك الشّر ؛ ومن لم يترك الشر لا يكون زاكيًا البتة، فإنّ الشر يدنّس النفس ويدسيها» (ابن تيمية، 1995، ج10، ص629).

عرفها ابن القيم (1996) بأنها : "تنمية النفس بالمعارف النافعة والأعمال الصالحة، وتطهيرها من العقائد الفاسدة والأخلاق الرذيلة" (ج2، ص46).

وعرفها دراز (1998) بأنها "عملية تربوية شاملة تستهدف تنمية الإنسان روحياً وخلقياً وسلوكياً" (ص215).

ثانيا : دلالات مصطلح التزكية في القرآن الكريم

يتجلى البعد المنهجي الدقيق في توظيف القرآن الكريم لمصطلح "التزكية" عبر الصيغ الفعلية، وتحديداً المضارع منها مثل "يزكيهم"، في إطار استراتيجية دلالية محكمة. لم يكن هذا التوظيف اعتباطياً، بل يعكس رؤية قرآنية عميقة تستهدف استدامة المفهوم وشموليته، بحيث يظل قادراً على التكيف مع المتغيرات الثقافية والاجتماعية المختلفة، محققاً بذلك الغاية الجوهرية للخطاب القرآني المتمثلة في الهداية والتزكية.

تحمل هذه الصيغ الفعلية دلالات الحركة والتجدد والاستمرارية، في مقابل ما تحمله المصادر من معاني الثبات والتجريد. ويمكن تحليل هذا التوظيف اللغوي المحكم وفق الأبعاد التالية:

ترسيخ البعد التطبيقي العملي

يتجاوز القرآن المستوى النظري المجرد في مفاهيم التزكية والتعليم والتلاوة، ليؤسس لها كممارسات حية ومستمرة. يتضح ذلك جلياً في قوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [آل عمران: 164]، حيث تشير صيغة المضارع إلى استمرارية الفعل وتجدده، مما ينفي عنه صفة الجمود.

تأصيل العلاقة بين الفعل والفاعل

تضطلع الصيغة الفعلية بإبراز محورية الفاعل وإسناد الفعل إليه، مما يؤكد المسؤولية المشتركة للإنسان والرسول ﷺ في المنظومة التربوية الإسلامية، وهذا يعزز مبدأ الفاعلية والمشاركة في عملية التزكية.

تأطير العملية التربوية زمنياً

تسهم الصيغة الفعلية في تحديد الإطار الزمني للعملية التربوية (ماضياً، حاضراً، مستقبلاً)، مما يمنحها بعداً تاريخياً وتطبيقياً، ويساعد على فهمها ضمن سياقاتها الزمنية المختلفة.

إن هذا التوظيف للصيغ الفعلية في سياق التزكية ينسجم تماماً مع المنهجية التربوية القرآنية التي تولي الأولوية للممارسة والتطبيق على حساب التنظير المجرد. فالتزكية في جوهرها ممارسة عملية قبل أن تكون نظرية مجردة، وهو ما يعكس البعد البراغماتي في المنهج التربوي القرآني.

ثالثا : التزكية والمصطلحات المقاربة

تشكل المفاهيم القرآنية المتعلقة بتنمية النفس الإنسانية وتطهيرها نسيجا مفاهيميًا متداخلا تتفاعل فيه المصطلحات لتنتج رؤية شاملة للبناء الروحي والأخلاقي. وتبرز الحاجة إلى تفكيك هذه المصطلحات عبر منهجية علمية دقيقة تراعي السياقات اللغوية والشرعية والتطبيقية.

مصطلح "التزكية" من الجذر (ز ك و) الحامل لمعاني النماء والزيادة، حيث تُعَدُّ العملية التزكوية في القرآن الكريم مسارًا ثنائي الأبعاد: تطهير النفس من الرذائل (السلبية) وإنماء الفضائل (الإيجابية). يؤكد ابن كثير في تفسيره أن التزكية "تشمل التخلية من الأخلاق الذميمة والتحلية بالأخلاق الحميدة" (ابن كثير، 1999، ج 2، ص 340) ، مما يجعلها مفهوما شاملاً يتجاوز مجرد الإزالة إلى البناء.

وهنا تتجلى ثنائية التزكية في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ (الشمس: 9)، حيث تشير الآية إلى التفاعل بين الجهد البشري في التطهير والعطاء الإلهي في التنمية. وعلى هذا تُمثّل التزكية عملية ديناميكية مستمرة تبدأ بالتوبة كمدخل للتطهير وتنتهي بالتقوى كغاية للتنمية الروحية، وفق ما أشارت إليه الدراسات المعاصرة في التربية الإسلامية (النحلاوي، 2010).

4. التزكية والتطهير

يستند مصطلح "التطهير" إلى الجذر (ط هـ ر) الدال على النقاء المادي والمعنوي . فالتطهير أصله من الطهارة، وهي النظافة والنقاء وخلوص الشيء من الدنس. أما التزكية فهي من الزكاة، وتحمل معنيين أساسيين: التطهير، والنماء والزيادة. قال ابن فارس في مقاييس اللغة: "الطاء والهاء والراء أصل واحد يدل على نقاء وزوال دنس." وقال: "الزاي والكاف والحرف المعتل أصل يدل على نماء وزيادة" (ابن فارس، 1979، ج3، ص428).

وتعتبر مفاهيم الطهارة والتطهير من الركائز الأساسية في التشريع الإسلامي، حيث تؤطران منظومة النقاء الجسدي والروحي في الإسلام. وفي تناول القرآن الكريم لمفهوم التطهير ؛ تتضح ثنائية دلالية جوهرية، تتجلى في مستويين متكاملين :

  1. المستوى المادي المحسوس : يتمثل في تطهير الأماكن المقدسة وتنقيتها من الشوائب الحسية، كما يتضح في السياق القرآني في قوله تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].

  2. المستوى المعنوي : يتجسد في تنقية القلوب من الشرك والرذائل الأخلاقية، وهو ما يظهر في الخطاب القرآني في مواضع متعددة، منها قوله تعالى في سياق تطهير القلوب من الشرك في سورة المائدة، الآية 41.

ويستدعي التحليل الدقيق لمفهوم التطهير ضرورة الإدراك التمييزي بينه وبين مفهوم الطهارة، إذ يمثل التطهير عملية إرادية فاعلة تفضي إلى حالة الطهارة المنشودة. ويتجلى هذا التمايز في:

  • التطهير المادي : يخضع لمعايير موضوعية قابلة للقياس والملاحظة كإزالة النجاسات والأقذار.
  • التطهير المعنوي : يرتكز على العمليات النفسية الداخلية كالتوبة والإنابة، مما يضفي عليه طابعاً أكثر تعقيداً وعمقاً في بنية الشخصية الإنسانية.

أما الطهارة فتأتي على أنواع:

  • الطهارة الحكمية : وهي المرتبطة بالأطر التشريعية للعبادات، كشرط أساسي لصحة الصلاة وغيرها من العبادات.
  • الطهارة المعنوية : تتمثل في تزكية النفس وتطهير القلب من الشوائب المعنوية، كما يتجلى في النص القرآني: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33].

ويعتمد المنهج القرآني في بناء مفهوم الطهارة على استراتيجية تربوية محكمة تتأسس على التدرج من المحسوس إلى المجرد. إذ يؤسس القرآن الكريم لمفهوم الطهارة الحسية في آيات متعددة، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: 6] ، ثم ينتقل إلى ربط هذه الممارسات الحسية بالمفاهيم المعنوية المجردة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222].

وتتميز المنهجية القرآنية بتأسيسها لنظام تربوي متكامل يجمع بين الطهارة المادية المتمثلة في الممارسات العملية كالوضوء والغسل، والطهارة المعنوية المتجلية في تزكية النفس وتطهير القلب. كما يراعي المنهج القرآني الأبعاد النفسية والتربوية في بناء السلوك من خلال:

  • الاستجابة للفطرة الإنسانية في حب النظافة

  • التدرج في بناء السلوك الإيجابي

  • الربط الوثيق بين الطهارة والعبادة، كما يتضح في قوله تعالى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108]

وتتنوع دلالات الطهارة في السياق القرآني لتشمل أبعاداً متعددة:

  • الطهارة الدينية : تنصرف إلى التطهر من الشرك والكفر، كما في قوله تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125]
  • الطهارة الأخلاقية : تتمثل في تزكية النفس من الصفات المذمومة، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: 21]
  • الطهارة البدنية : تتضمن الممارسات التعبدية كالوضوء والغسل، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]

والمنهج القرآني في التربية، الذي يبدأ بالطهارة الحسية وينتقل إلى الطهارة المعنوية، يتوافق مع النتائج العلمية الحديثة في مجال التربية وعلم النفس والدراسات العصبية، مما يؤكد صلاحيته وفاعليته في بناء الشخصية المتكاملة.

وتشير أبحاث التربية الأخلاقية إلى أن تعليم القيم يكون أكثر فاعلية عندما يرتبط بممارسات عملية. ويتشكل السلوك الأخلاقي تدريجياً من خلال الممارسة المتكررة، كما إن الربط بين السلوك الظاهر والقيم الباطنة يعزز الالتزام الأخلاقي.

تشير أبحاث في علم النفس التربوي إلى أن الممارسة العملية تُحفز الذاكرة الإجرائية (Procedural Memory) ، التي تُخزن المهارات المكتسبة عبر التكرار، مما يجعل السلوك الأخلاقي أكثر تلقائية بمرور الوقت (سميث وجونسون، 2018).

كما يُلاحظ أن القرآن الكريم جمع بين التطهير والتزكية في آية واحدة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103]. يقول الماوردي: "التطهير هو إزالة الشيء السيئ، والتزكية هي وضع الشيء الحسن، فالتطهير يشير إلى التخلية، والتزكية تشير إلى التحلية (الماوردي، 1992، ج2، ص385).

ويوضح ابن عاشور: "هذا الجمع بين التطهير والتزكية من باب الترقي في الكمال : أولاً إزالة الوصف المذموم (التطهير)، ثم إيجاد الوصف المحمود (التزكية) (ابن عاشور، 1984، ج10، ص247). الأمر الذي يدل على أن العلاقة بين التطهير والتزكية علاقة تكاملية. فالتطهير مقدمة للتزكية.

أوجه المقارنة بين التزكية والتطهير

تبرز المقارنة بين مفهومي التزكية والتطهير الفروق الدقيقة بينهما في عدة جوانب:

  1. من حيث المعنى : التطهير يركز على الإزالة والتنقية، بينما تشمل التزكية التنقية والتنمية معاً.
  2. من حيث المجال : التطهير يشمل الجانب المادي والمعنوي، والتزكية تركز على الجانب المعنوي والروحي.
  3. من حيث العلاقة : التطهير غالباً ما يكون مقدمة للتزكية ومرحلة أولية منها.
  4. من حيث الغاية : غاية التطهير هي إزالة النقائص، وغاية التزكية هي تحقيق الكمال الإنساني.
  5. من حيث الشمول : التزكية أشمل من التطهير، فكل تزكية تتضمن تطهيراً وليس العكس.

- التزكية والتربية

تنطلق "التربية" من جذر (ر ب (ب) الدال على السيطرة والتنمية، أو (ر ب و) المرتبط بالزيادة والإصلاح. يقول الراغب الأصفهاني: "الرب في الأصل: التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام" (الأصفهاني، 2009، ص189).

وتشير دراسات اللغة العربية إلى أن لفظ "تربية" يحمل معاني الرعاية والنماء والإصلاح (الزبيدي، 1994، ج2، ص292).

يجمع المفهوم القرآني للتربية بين هذين البعدين في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (البقرة: 129) ، حيث تجتمع مهمة التزكية (البناء الروحي) مع التعليم (البناء المعرفي) في إطار متكامل.

وقد أشار كل من الغزالي وابن القيم إلى أن التربية الإسلامية تتجاوز نقل المعارف إلى بناء الذات الإنسانية بأبعادها المختلفة (الغزالي، 2005 ، ج 1، ص 15؛ ابن القيم، 1994 ، ص72). وتؤكد يلجن (2013) أن التربية الإسلامية تتميز بخصوصيتها الشمولية التي تجمع بين الإعداد الروحي والأخلاقي والعقلي والمعرفي للإنسان.

وتتضمن العملية التربوية في الإسلام ثلاثة أركان رئيسية:

  1. التهذيب : يمثل عملية تطهير النفس من العيوب الأخلاقية والسلوكية، وهو ما يتوافق مع البعد التطهيري للتزكية. يقول ابن مسكويه: "التهذيب هو تنقية النفس من الرذائل وتخليصها من النقائص (ابن مسكويه، 1982، ص47).

  2. التعليم : يشير إلى إكساب المعارف والمهارات اللازمة للفرد، وهو ما يتوافق مع البعد المعرفي للتزكية. يرى الماوردي أن "التعليم" يُخرج النفس من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة" (الماوردي، 1985، ص126).

  3. التأديب : يهدف إلى صقل السلوك الاجتماعي للفرد وتكوين شخصيته المتوازنة، وهو ما يتوافق مع البعد السلوكي للتزكية. يؤكد ابن سحنون أن "التأديب يُكسب المرء محاسن الأخلاق ويُجنبه مساوئها" (ابن سحنون، 1972، ص31).

وقد أظهرت الدراسات المقارنة في فلسفة التربية (العطاس، 2011؛ الكيلاني (2018) أن هذا التكامل في أركان التربية الإسلامية يجعلها منهجًا شموليًا يتجاوز النماذج التربوية الغربية القائمة على التخصصية والفصل بين المجالات المعرفية والقيمية والسلوكية. وتشير دراسة الرماني (2020) إلى أن التكامل بين هذه الأركان الثلاثة يساهم في تحقيق الاتزان النفسي والسلوكي للفرد المسلم.

وفي السياق المعاصر، يؤكد الباحثون (النقيب، 2017؛ مدكور (2014) أن استعادة هذا المنظور التكاملي للتربية يمثل ضرورة منهجية لمواجهة التحديات الناجمة عن الانفصال بين العلم والقيم، وبين التطور المادي والنمو الأخلاقي في المجتمعات المعاصرة.

المبحث الثاني: تحليل آيات التزكية في سياق الرسالة المحمدية : دراسة في المنهج والخصوصية

أولا: البنية اللغوية والتركيبية للآيات

تتجلى خصوصية البناء اللغوي لآيات التزكية في عدة مستويات دلالية بارزة تظهر الصيغة المضارعة للفعل "يزكيهم" في جميع الآيات الأربع المتعلقة بالبعثة النبوية (البقرة: 129، 151؛ آل عمران: 164 ؛ الجمعة (2) محملة بدلالات عميقة:

  1. الاستمرارية الزمنية : تشير إلى كون التزكية عملية مستدامة ومتجددة، وليست حدثاً منقطعاً أو طارئاً. وهذا ما يؤكده الزمخشري في تفسيره بقوله: صيغة المضارع تدل على تجدد الفعل واستمراره في الزمن" (الزمخشري، 1987، ج1، ص345).

  2. التجدد الوظيفي : ترمز إلى التجدد المستمر لعملية التزكية واستيعابها للمتغيرات والمستجدات. ويشير ابن القيم إلى هذا المعنى بقوله: "التزكية ليست عملاً منتهياً، بل هي مسار متجدد يواكب تطورات النفس الإنسانية" (ابن القيم، 1991، ج2، ص219).

  3. التدرج المنهجي : تعكس

تزكية النفس في القرآن الكريم - دراسة تحليلية لخصوصية الدور النبوي في تأصيلها وتطبيقها
تنزيل البحث ←