تدبر سورة البروج

(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿١﴾ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴿٢﴾ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴿٣﴾ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴿٤﴾ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴿٥﴾ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴿٦﴾ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴿٧﴾ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿٨﴾ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿٩﴾ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴿١٠﴾ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴿١١﴾ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴿١٢﴾ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴿١٣﴾ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴿١٤﴾ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴿١٥﴾ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴿١٦﴾ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ﴿١٧﴾ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴿١٨﴾ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ﴿١٩﴾ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴿٢٠﴾ بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ﴿٢١﴾ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴿٢٢﴾)

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حين يطفو زبد الباطل على سطح الحياة ويغري الشيطان أهل الباطل بالظلم والعدوان، بسفك الدماء والقتل والتشريد والتعذيب والطغيان، ويُهيأ لكثيرين حينها أن زوال هذا الباطل ضربٌ من الخيال وأن الأمر أقرب إلى المحال فالباطل قوي والحق ضعيف! ومن ينصر الحق وينتفض لهذا الحق إنما هم فئة من المستضعفين لا حول لهم ولا قوة لا سند لهم ولا ناصر ولا ظهر لهم ولا قوة عظمى تساندهم، عندها ينتفض هؤلاء القلة، هؤلاء الفئة من المستضعفين، ينتفضون نفضة رجل واحد للحق الذي يحملونه في صدورهم وفي قلوبهم، هم ضعفاء في تصور الآخرين لكنهم أحرار، هم سادةٌ أحرار لأن هذه القلوب المؤمنة استطاعت أن تتحرر من كل أنواع العبودية إلا تلك العبودية التي تعتبر شرفاً لكل من يحملها، العبودية لله وحده الديّان. هذه الفئة من المستضعفين عبر الأزمنة وعبر التاريخ وعبر الأجيال هي تلك الفئة التي استطاعت أن تدمغ الباطل والطغيان، هي تلك الفئة التي استطاعت أن تقف أمام جحافل الطغيان والعدوان، استطاعت أن توقف مدّ تلك الجنود الظالمة بكل ما جاءت به من أسلحة وما جاءت به من تصورات واهمة وزائفة بأنها تستطيع أن توقف مدّ ذلك الحق ومدّ ذلك العدل. اختلت موازين القوى حين يصبح الحق والعدل في أيدي الفئة التي يعتقد الناس بأنها من المستضعفين وأن لا ناصر لهم وأن الباطل الذي قد استفحل شره في كل مكان وزادت سطوته وجبروته وطغيانه هو الذي يمكن له أن ينتصر، تنقلب الموازين. ولكن السورة التي بين أيدينا اليوم تعيد هذه الموازين إلى الميزان الحق العدل، تعيد الأمور إلى نصابها تبين لكل مؤمن يقرأ هذا الكتاب بقلبه قبل أن تتحرك به شفاه الإنسان وهو يقرأ تعيد له هذه الحقيقة الساطعة أن الحق سينتصر وأن هذه الفئة التي يظن البعض أنها فئة مستضعفين هي التي على على أكتافها وأعناقها سترتفع رايات الحق. ليس فقط في الزمن الذي عاشوا فيه وإنما لكل زمان ولكل مكان، راية الحق لا ترتفع على أكتاف أناس لم تمكنوا من أن يحرروا أنفسهم من الذل للحياة في ظل العبودية للبشر. راية الحق ترتفع على أكتاف أناس عشقوا الحياة ولكن حياة من نوع خاص، حياة في ظل إيمان وتوحيد برب واحد أحد، فردٍ صمد، اتخذوا دينه منهجاً في حياتهم فأعطاهم القوة، أعطاهم المنعة، أعطاهم النصر بلا جيوش ولا سلاح ولا جنود، لا سلاح لهم ولا دبابات ولا معدات ثقيلة ولا مؤسسات ولا منظّمات دولية ولكن لديهم الواحد القهّار، لديهم سبحانه الذي هو الفعّال لما يريد.

تأتي سورة البروج المكيّة التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم في مكة وقد تفنن المشركون بأنواع من العذاب! فبلال يسومُه سيده أمية بن خلف فيضع الصخرة تلو الصخرة على صدره فما تزيده تلك الصخرة إلا إيماناً وتوحيداً فيردد بأعلى صوته، ذلك الصوت الذي ترتعد له كل مشاعر وعواطف أطراف أمية بن خلف السيد المُطاع وبلال العبد في ميزان أمية بن خلف يردد أحدٌ أحد، كلمة التوحيد، الإيمان، قوة التوحيد التي لا تانيها قوة على وجه الأرض مهما بلغت. لا تدانيها أي نوع من أنواع القوى الموهومة التي اصطنعها الطغاة الظَلَمة في كل زمان ومكان.

نزلت سورة البروج لتقول للنبي صلوات الله وسلامه عليه ولكل الضعفاء من أهل الحق الذين يُهأ للناس أنهم ضعفاء وأن لا سند لهم ولا معين، لكل هؤلاء نزلت سورة البروج. سورة البروج التي جاءت تحكي قصة قوم، فئة من المستضعفين فئة آمنوا بالعزيز الحميد، فئة ارتضوا منهج التوحيد منهجاً لحياتهم، فئة وقفوا في وجه الطاغية، وقفوا في وجه ذلك الظالِم المستَبد الذي عاث في الأرض فساداً وتعذيباً وسفكاً وإهداراً للحقوق وقفوا في وجه ذلك الطاغية فإذا بالطاغية وحاشيته وجنده الأقوياء الذين من حوله، هؤلاء الأقزام حفروا الأخاديد وشقُّوا الحُفَر وأضرموا فيها النيران وأوعزوا لكل الحاشية من حولهم أن يزجوا بالأطفال والنساء والشيبان والشباب في بطون تلك الأخاديد علّهم يحرقون نور الإيمان الذي قد شعّ وسطع في قلوب وصدور هؤلاء الفئة فما زادتهم تلك النار التي يُهيأ لمن ينظر إليا أنها تحرق الأجساد، ما زادتهم تلك النيران إلا برداً ويقيناً وسلاماً واطمئناناً ليرددوا بلسان حالهم: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، المحنة، الابتلاء، الشد، النار، التعذيب، التنكيل، التشريد، القتل، لا يزيد المؤمن الموحِّد إلا ثباتاً ويقيناً. الحق لا يرتفع على قلوب ضعيفة أو واهية، يرتفع بالقلوب الثابتة المستقيمة على طريق الحق التي لا يهمها نيران من يضرم النيران ولا يهمها هذ الطاغية أو ذاك وإن تبدلت واختلفت الصور.

سورة البروج التي ابتدأها الله سبحانه وتعالى بالقسم فقال (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿١﴾ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴿٢﴾) اليوم الذي وُعِد به الناس جميعاً يقفون بين يدي الجبّار لا يتكلم منهم أحد، لسان حالهم يشهد، جوارحهم تشهد، أيديهم تشهد، ألسنتهم تشهد بأي شيء؟ بكل ما اقترفوه، بكل ما اكتسبوه، فذلك الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، لا يغادر طفلاً ولا شيخاً لا امرأة ولا عجوزاً ولا بيتاً قد هُدِم ولا شيئاً قد كُسر ولا قبلاً قد فُطِر على طفل أو شاب أو رضيع، ولا قطرة قد سُفِكت إلا أحصاها وسيسألهم عنها. (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴿٣﴾) شهادات موثقة مسجلة فالأرض ستسألهم وتسجل عليهم الخطوات، وذرّات الرمال تحسب قطرات الدماء التي سكبت عليها بل تحسب حتى ما حوته بين ثناياها من جثث الأطهار والأبرياء من الشهداء الذين ذهبت أرواحهم مهراً للجنة والحق الذي آمنوا به. كل تلك الذرّات ستشهد عليهم يوم القيامة، الشهادات محسوبة والسجلات مكتوبة والرب عادل والمحكمة عادلة لا تعرف مهادنة ولا تعرف ظلماً فالكل سواء أمام ميزان الحق وأمام ميزان العدل الذي أراده الله أن يحكم بين عباده.

(قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴿٤﴾) قُتِل الطغاة في كل عصر وفي كل زمان، قُتِلوا بكل ما شقّوا للمؤمنين من أخاديد. (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴿٥﴾ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴿٦﴾ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴿٧﴾) ولنا أن نتوقف عند كلمة (شهود) التي تتردد في هذه السورة العظيمة (شهود) والشاهد يُسأل، أنا سأُسأل وأنتم ستُسألون وكلنا سيُسأل ونحن نقف بين يدي العزيز الجبار سنُسأل عما فعلناه لأجل المؤمنين، عما فعلناه لأجل الحق وأهل الحق، هل ناصرناهم؟ هل وقفنا إلى جانبهم؟ هل وقفنا إلى جانب الحق الذي آمنوا ونؤمن به؟ أم كنا ضعفاء؟! الحق لا يُنصر بالضعفاء، الحق يُنصر بالأقوياء. ومن يبذل الروح والنفس والوطن في سبيل الحق الذي يؤمن به ليس بالضعيف، ليس بالعبد وإنما هو حرٌ سيّد مُطاع من سادات الجنة، هذا السيّد الذي استطاع أن يتعالى على الرغبة في الحياة الذليلة في ظل طاغية أو ظالم لم يعرف الله يوماً لم يعرف منهج الحق يوماً ولم يتخذه دستوراً هؤىء هم من يرفعون الحق ويرتفع بهم الحق. هؤلاء اختارهم الله عز وجل في كل أمة من الأمم عبر التاريخ لترتفع على أعناقهم رايات الحقّ خفّاقة في كل الأرجاء ولتسطّر الأسماء بماء ليس من ماء الذهب بل بالدماء تلك الدماء التي ستشهد يوم القيامة بروعتها بعبقها هذه الدماء الزكية الطاهرة التي ستشهد للحق وأصحاب الحق وأنها ما سُفكت لأجل باطل، ما سُفكت لأجل كرسي أو منصب أو جاه، ما سُفكت لأجل مال، ما سُفكت لأجل حفنة من السنوات يجلسها الطاغية تمدّ في عمر زمانه أو وقته وإنما سُفكت لأجل التوحيد ولأجل كلة “لا إله إلا الله”.

سُئل بلاب ذلك العبد الضعيف في نظر أمية بن خلف: كيف كنت تتحمل ألم الصخرة وهي توضع على صدرك في حر الشمس في صحراء مكة؟ فكان يقول: مزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان. وأصحاب الأخدود في كل زمان ومكان يمزجون مرارة النار المتّقدة بشعلة الإيمان في قلوبهم، ببرودة وبرد اليقين الذي آمنوا بالله سبحانه وتعالى به رباً وعرفوه به رباً. ولذا جاءت الآية العظيمة (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿٨﴾) لم تكن تهمة هؤلاء سوى أنهم آمنوا بالله وهل هذه تهمة أو أنها شرف وتاجٌ يوضع على رأس المؤمن يرتفع ويرتقي به في سُلّم الفردوس الأعلى. هذه التهمة التي بها ساق الطُغاة والظَلمة في كل زمان عبادَ الله من المؤمنين لأنهم رأوا في الإيمان والتوحيد تهديداً لعروشهم، تهديداً لمُلكهم، تهديداً لجبروتهم وطغيانهم وسطوتهم وحُقّ لهم أن يروا ذلك التهديد لأنهم أقاموا عروش ممالكهم على الكذب والطغيان والعدوان، أقاموها على قواعد واهية لم يقيموها على الحق والعدل والتوحيد الذي آمن به هؤلاء. (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿٨﴾) وتدبروا معي كيفية اختيار حتى الأسماء الحسنى التي وردت في هذه السورة العظيمة، سبحان الله العظيم! ما أعظم هذا الكلام! ما أعظم آيات القرآن وهي تتنزل على قلوب المؤمنين في كل وقت وفي كل زمان! عزيزٌ سبحانه لا يُغلَب ولا يُذلّ وكل الناس من بعده وكل الملوك وكل العروش وأصحاب العروش إلى زوال إلا مُلك العزيز الجبار سبحانه تعالى. (الحميد) والحميد اسم مشتق من الحمد فالله سبحانه محمود في أفعاله وقضائه وأحكامه، لا يخرج شيء في مملكته أبداً عن إرادته سبحانه وتعالى وبالتالي ما أراد وما قضى به من محنة أو ابتلاء أو أزمة أو أخدود قد حُفِر وأُضرمت فيه النيران أو قتلٍ أو سفكٍ أو ما حدث للمؤمنين أو من ابتلاء إنما هو محنة لهذا العبد وابتلاء للرقي وللترقّي به ورفعه في درجات الخلد، لماذا؟ لأن الحق يحتاج إلى أهلٍ يرفعون راياته والله سبحانه وتعالى يصطفي من عباده في كل جيل من يحملون راية الحق، فهنيئاً لكل من أصيب بمصابٍ في سبيل حقّ يؤمن به. هنيئاً لبلال، هنياً لذلك السيّد الذي بات سيداً في التاريخ حين تحرر من عبودية أمية بن خلف. هنيئاً لبلال وهنيئاً لكل أصحاب الحق من أمثال بلال وغير بلال عبر التاريخ في زماننا في وقتنا ممن جهروا بالحق، من رفعوها عالية خفاقة يقولون لا إله إلا الله في وجه كل طاغية ليوقفوا هذا الطاغية مهما تعددت الجيوش من حوله ومهما تعددت كل وسائل التدمير من حوله أن مُلكك إلى زوال، كيف لا يقتلهم؟ كيف لا يحرقهم بالنيران؟ كيف لا وهو يراهم بأُم عينه يهزّون عرشه وملكه ويقوّضون مملكته من تحت قدميه، كيف لا؟! الله سبحانه وتعالى الحميد أراد للحق أن يظهر على أكتاف هؤلاء ولذا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاؤوا يشكون إليه ذات يوم[1] وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة يشكون إليه ما وصل إليه حالهم من تعذيب وتشريد وقع عليهم من المشركين وهكذا حال المؤمنين في كل زمان ومكان، فقالوا له: يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم، النبي الذي يحمل في قلبه وبين خافقيه ذلك الحنان الفيّاض، تلك الرأفة العجيبة التي ملأت الأرض عدلاً ورحمة ونوراً إذا بهذا النبي الكريم يقول لهم معلِّماً وموقظاً: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُشقّ باثنتين فما يصده ذلك عن دينه ويُمشط بأمشاط الحديد دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون. يا لها من عِبرة! يا لها من عِظة أحتاج أن أعبر إليها إلى واقعي الذي أنا أعيش فيه. إذن هي المحنة، هي الابتلاء، وإنما الحق قد سُطِر أنه هو الأعلى وأنه هو المنتصر. المعركة بين الحق والباطل معركة محسومة لصالح من؟ لصالح أهل الحقّ، أهل الحق سواء انتصروا في الدنيا وظهر انتصارهم وأتاهم الفتح من عند الله سبحانه أو لم يأذن به، سواء أضرمت فيهم النيران أم قُتّلوا أم سُفكت دماؤهم أو هُدّمت عليهم بيوتهم الله ناصرهم، الفوز قد كُتب لهم، فازوا الفوز الكبير ولذلك ربي عز وجل في هذه السورة قال (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) الفوز قد تحقق، متى تحقق يا رب؟ الفوز في ميزان الله سبحانه وتعالى قد تحقق حين قام هؤلاء قاموا بالحق الذي آمنوا به، قاموا في وجه الظلم والطاغوت والعدوان وقالوا له توقف إن ربك لبالمرصاد، الحق والنصر قد تحقق، الفوز قد حدث، لا يهم المعركة التي كانت. أصحاب الأخدود لم تذكر سورة البروج لهم كيف كانت نهاية الطاغية والحاشية التي كانت معه، لم تذكر أنهم قد أُهلكوا بالغرق كما في فرعون أو كما في ثمود بالريح لم تذكر لهم عقاباً دنيوياً، لم تذكر لهم نهاية مأساوية كما يُخيّل أو يظن البعض أو يتوقع دائماً. ولكن الظالم سواء أكانت النهاية المحسومة المحتومة قد وقعت له بشكل يشفي غليل المؤمنين ويشفي صدور المؤمنين أم لم تقع فالخسارة في حقه قد حدثت، له نار جهنم يخسا فيها أبد الآبدين! ما قيمة أن يعيش حفنة من الأزمنة أو من السنوات؟! ما قيمة أن يعيش الدنيا طولاً وعرضاً ويزهو بها والنهاية الحتمية خلود إلى النار إلى جهنم وبئس المصير؟! المعركة محسومة. نحن اليوم كبشر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه “ولكنكم تستعجلون” أما اليوم الموعود فالجزاء فيه محسوم.

وتأملوا معي الآية التي تليها حين يقول الله عز وجل (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿٨﴾ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿٩﴾) من هو الملك؟ من الذي بيده مفاتيح السموات والأرض؟ من الذي يُصرِّف الأمور؟ من الذي يغير الأحوال؟ من الذي يقول للشيء كن فيكون؟ من الذي إذا أراد نصراً تحقق؟ من الذي إذا أراد فتحاً فتح به على المؤمنين؟ من الذي إذا أراد أن يرفع البلاء رفع؟ الله سبحانه! ولكنه سبحانه كل شيء عنده بمقدار والله على كل شيء شهيد. لا تخشى شيئاً، أنت لست بحاجة إلى شهادة مراقبين، أنت لست بحاجة إلى شهادة موثّقة من مؤسسات أو منظمات دولية فالله شاهد وشهيد عليك. الله قد شهد على كل شيء فهو الشهيد، هو العالم الذي يعلم بكل شيء يحدث في مملكته سبحانه وهو الحامد الحميد في أفعاله سبحانه، له في كل شيء حكمة. ما يمر بك من محنة أو ابتلاء أو تجويع أو حصار أو تدمير أو هدم أو برد أو قسوة أو سطوة إنما هو ترقّي لك في سلّم الإيمان والتوحيد والنجاح فاصبر إن العاقبة للمحسنين الصابرين المرتقين في سُلّم التوحيد والإيمان الصادقين الثابتين على الحق. ولذا جاءت الآية التي تليها (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) وتأملوا معي رحمة رب العالمين، باب التوبة المفتوح لكل الناس لكل إنسان مهما طغى مهما تجبر إن رجعتَ عن الباطل والغيّ الذي أنت فيه فإن باب التوبة مفتوح ولكن عليك أن تُصحِّح، عليك أن تؤوب، عليك أن تتوب، عليك أن تعود إلى خالقك، تعود إلى نفسك، تعود إلى الروح التي خلقها الله عز وجل لتتأمل فيها لتتدبر في نفسك وأحوالك لترى ما أنت صانع في نفسك؟ (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) هو الحريق ولكن الحريق يختلف بين حريق الدنيا والنار التي أُضرمت في أصحاب الأخدود في أيّ زمن وفي أيّ وقت وبين ذاك الحريق الذي ينتظر المجرمين والطغاة والظالمين ممن لم يتوبوا ولم يعودوا إلى خالقهم أبد الآبدين.

معركة أصحاب الأخدود معركة محسومة، معركة طالما تكررت عبر التاريخ معركة الباطل والحق، معركة أهل الحق وأهل الباطل، النتيجة فيها محسومة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) إنه الفوز، النتيجة محسومة لا تنتظر دائماً فقط العواقب أو النتائج التي نحن كبشر نرسمها لأنفسنا، النصر الذي نحاول نحن أن نخطط لهذا النصر، النصر والفوز إنما قد حُسِم لأهل الإيمان، لأهل الصدق، لأهل الحق. الدنيا ساعة لا يهم فيها من ارتفع ومن كانت له الكلمة في نهاية الأمر ولكن الآخرة هي دار القرار اليوم الموعود يوم الفصل هو ذلك اليوم الذي ستظهر فيه الحقائق (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ). ولكي يبقى دائماً الطغاة في كل زمان وفي كل مكان على علم ويقين بأن الله سبحانه وتعالى لن يفلت أحدٌ منه تأتي الآية العظيمة (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴿١٢﴾ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴿١٣﴾ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴿١٤﴾ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴿١٥﴾ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴿١٦﴾) وقد يتساءل البعض منا وخاصة ونحن نمر في مثل هذه الأيام بقصص أقرب ما تكون إلى قصة أصحاب الأخدود، أهل الإيمان وأهل الحق يُعذّبون ويُقتّلون ويُشرّدون وأهل الباطل إنما يُسلطون على أهل الحق ويستاءل الناس وحُقّ لهم أن يتساءلوا لِمَ يسلِّط الله سبحانه وتعالى وهو الملك الواحد الديّان لِمَ يُسلِّط أهل الباطل على أهل الحق؟! الله سبحانه وتعالى ملك في مملكته لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ولكن شاءت حكمة الله عز وجل أنه سبحانه أمرنا بأوامر كما ستأتي عليه الآيات في ختام ونهاية سورة البروج، أنزل إلينا قرآناً فيه أوامر فيه تعاليم أنزل إلينا الحق واضحاً كالشمس في رابعة النهار. أنزل إلينا الأحكام، تُرى ما الذي فعلناه بتلك الأحكام؟! تُرى كيف هو حالنا مع القرآن العظيم؟! تُرى كيف مكّنا نحن اليوم بابتعادنا عن هذا القرآن وعن تعاليمه وعن تطبيقه في سلوكياتنا وجزئيات حياتنا؟ كيف مكنا لأهل الباطل أن يعلوا علينا ويسلّطوا علينا؟ ولنكن صُرَحاء ولنكن في لحظة صدق مع أنفسنا ولحظة مراجعة وتوبة، قبل أن نتساءل ونقول لِمَ يُسلِّط الله سبحانه وتعالى أهل الباطل على أهل الحق؟ دعونا نعيد الكرة ونتساءل بطريقة مختلفة كيف مكّن أهل الحق أهل الباطل من أن يسلطوا عليهم؟! هذا هو السؤال المشروع أما السؤال فهو سؤال غير مشروع! نحن أهل الحق حين ضعفنا وتضاعفنا وانتكسنا وعجزنا عن نصرة الحق الذي نؤمن به، عن الدفاع عن القرآن الذي نحفظه في صدورنا، عن اتباع أوامره في جزئيات حياتنا اليومية مكّنا بذلك البعد عن منهج الله لأهل الباطل أن يرتفعوا فوق رؤوسنا! نحن الذي رفعنا بتقصيرنا في جنب الله وتفريطنا في جنبه وفي أوامره نحن من رفعنا على أعناقنا أهل الباطل. ولذا ربي عز وجل في آيات أخر قال عن فرعون (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ (54) الزخرف) استخفّ أهل الباطل بأهل الحق رأوا فيهم ضعفاً، رأوا فيهم بُعْداً عن منهج الحق، رأوا فيهم عدم الثبات على القرآن، رأوا فيهم عجزاً وضعفاً وانتكاساً ورخوة ما كان لها أن تكون، تراخياً عن الحق والإيمان فتمكنوا منا فمُكِّنوا منّا! ليس لنا إلا الرجوع والتوبة ولذا يقول الله سبحانه وتعالى (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) غفورٌ لتفريطنا في جنبه فقد فرّطنا، غفورٌ لإسرافنا في جنبه وأوامره فقد أسرفنا على أنفسنا، ربنا إننا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا وارحمنا. ولذا من أعظم اسلحة من وقع في محنة وابتلاء وكل المؤمنين اليوم في محنة وابتلاء أن يعودوا إلى خالقهم بالتوبة، التوبة النصوح أن يعودوا بقلب مؤمن صادق مخبت لله أن يا رب قد ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربي سبحانه ودو والودّ خالص المحبة، يحبنا يتودد إلينا بالنعم، يتودد بالعطايا، بل يتودد إلينا حتى بالابتلاءات التي ينزلها بنا، لماذا؟ ليميز الخبيث من الطيبن ليميز القلوب المؤمنة الصادقة -وهو بها أعلم- من القلوب المنافقة الخبيثة الذليلة الضعيفة. هكذا نحن بالابتلاء. ربي سبحانه وتعالى حتى في ابتلاءاته يتودد إلينا، لا يخرج الأمر عن ودّه، فهنيئاً لتلك القلوب التي استطعمت معنى الابتلاء ليس لأنها تريد الابتلاء ولكن لأنها تريد رضى الرحمن في سبيل تقديم هذه التضحية وذاك الابتلاء.

تتواصل الآيات العظيمة في سورة البروج لتزيد المؤمنين وأهل الحق ثباتاً وإيماناً واستقامة على الحق الذي آمنوا به (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴿١٥﴾ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴿١٦﴾) ما من شيء يحدث في مملكته إلا بأمره لا يعجزه شيء سبحانه، أمره نافذ، الكل في مملكته عبيد لا يخالفون أبداً شيئاً من حكمه وشيئاً من إرادته وقضائه، كل شيء عنده بمقدار وإنما هو الابتلاء والامتحان والصبر والاختبار.

ثم تأتي الآيات في سياق الحديث عن الطغاة والظَلَمة، عن فرعون وثمود، فرعون أُغرِق في اليمّ فكان عبرة لمن يعتبر حتى لطغاة أهل هذا الزمان الذين لم يعتبروا! وثمود الذين أُهلِكوا بالريح، من الذي أهلكهم؟ من الذي أخذ فرعون أخذ عزيز مقتدر سوى الله سبحانه وتعالى؟! من الذي أغرقه باليم هو والجنود الذين كانوا معه؟ خرج في جنوده، خرج في زينته، خرج في سلطانه، خرج طغيانه وجبروته فمن الذي اقتدر عليه غير القادر سبحانه وتعالى الفعّال لما يريد؟!. ولكن سواء أكانت نهاية الطغاة والظالمين مرئية مشهودة أما أعيننا كنهاية فرعون أو كنهاية قوم ثمود أو غيرهم من الأقوام التي كذبت وطغت وأفسدت في الأرض أو لم تكن كنهاية أصحاب الأخدود الذين لم يذكر لهم القرآن نهاية مخزية أو معينة في الدنيا مذكورة كنهاية فرعون أو غيره ولكنهم في نهاية الأمر لن يفلتوا من الله سبحانه وتعالى وانظر إلى الآية (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴿٢٠﴾) أحاط بكل أعمالهم علماً، أحاط بكل طغيانهم، أحاط بكل ظلمهم وجبروتهم، أحضاها عليهم، أحصى عليهم عدد النفوس التي أُزهقت، أحصى عليهم عدد البيوت التي هُدّمت، أحصى عليهم عدد الأعراض التي انتهكت، أحصى عليهم عدد أنفاس الحياة التي أخذوها وانتهبوها، أحصى عليهم كل شيء سبحانه وتعالى إنما يمهلهم ليوم خسر فيه الخاسرون خسر فيه الطغاة، خسر في الظالمين.

ثم ختم الآيات بقول الله عز وجل (بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ﴿٢١﴾ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴿٢٢﴾) المجد للقرآن، المجد لحملة القرآن، المجد دوماً لأهل القرآن ومن يحمله والحلّ الوحيد أمام الطغيان، الحل الوحيد للوقوف في وجه كل طاغية وظالم هو هذا القرآن المحفوظ، هو هذا القرآن المجيد. من أراد أن يقف في وجه أيّ طاغية في أيّ زمان في أيّ مكان لا يمكن أن يقف في وجه الطاغية وهو بعيد عن القرآن وعن تعاليمه. إحفظ القرآن في قلبك، إحفظ القرآن في صدرك، إحفظ القرآن في سلوكك وأفعالك وتصرفاتك، لا عليك أمام من ستقف، لا عليك أمام أيّ طاغية ستقف، لا عليك، بأي جنود وبأي أدوات ولا باي أسلحة سيهاجم أو سيقف، لماذا؟ لأن عظمة القرآن الذي تحمله بين جنبيك، عظمة هذا القرآن سيخرّ لها هذا الطاغية مهما استقوى ومهما تصوّر واهماً أن له من القوة والمنعة ما يصده عن هذا القرآن. التمسك بالقرآن إيماناً وتصديقاً، علماً وعملاً هو مفتاح النجاة من كل طاغية من كل ظلم من كل عدوان. لا نجاة بدون القرآن، لا أمل في النجاة ووقف الطغيان والظلم والعدوان دون القرآن. وما طغى الطغاة في أي زمان ولا في أي مكان إلا ببُعد أهل الحق عن هذا الحق وهو القرآن. لا نظن في أي وقت أو في أي زمن أن هؤلاء الطغاة في أي مكان في أي زمان كان في أي جيل عبر العصور أنهم كان لهم أن يخرجوا ويُسلَّطوا على رقاب المؤمنين وأصحاب الحقّ ويعيثوا في الأرض فساداً لولا أننا بعدنا عن القرآن العظيم. السبب من عند أنفسنا، ما أصابنا من مصيبة وما يصيبنا اليوم يحتاج إلى التوبة، يحتاج إلى الإنابة، يحتاج إلى الرجوع لله وللقرآن وحده دون سواه.

وختاماً لكل ملوك الأرض إن أردتم استقراراً في ملككم، إن أردتم أن تبنوا لكم عزّاً أو مجداً فلا تظنوا أبداً ولا تتوهموا أن المجد يُصنع إلا بهذا القرآن العظيم. إن أردت أن يستقر لك الحكم وأن يستقر لك المُلك فاحكم بهذا القرآن العظيم علماً وتعلماً وتعليماً وإيماناً واحتساباً واجعل النية خالصة لله وحده لا شريك له، لا تجعل النية الحفاظ على ملكك أو عرشك فالملك يزول وإن طالت به الأيام والعرش يذهب وإن عَلَوْتَ به ولا كبير إلا الله ولا عالي إلا الله سبحانه وتعالى ولا ملك باقٍ على وجه الحقيقة سوى ملك الله الواحد الديّان. أقبِل على القرآن واجعل قرّة عينك في القرآن لا تتحير ولا تستشر من هم في اليمين أو في اليسار، استشر القرآن، أقبِل عليه بقلب صادق، عُد إلى الله سبحانه وتعالى ستجد عنده الإجابة، ستجد عنده الدواء، ستجد عنده الشفاء لكل ما فينا وفي قلوبنا وفي واقعنا وفي مجتمعاتنا من أمراض وأزمات مستعصية. أسأل الله العظيم رب العرش العظيم الذي أنزل القرآن المجيد أن يعيدنا إليه عودة صادقة، أن يردّنا إليه ردّاً جميلاً، أن يرفع عنا البلاء، أن يعيدنا إلى كتابه، أن يردّ الحق إلى أصحابه، أن يثبِّتنا على الحق الذي نؤمن به، أن يردّنا إلى كتابه ردّاً جميلاً غير مُخزٍ ولا فاضح، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *